السعودية في مواجهة مفتوحة مع أنصار الحرية

ليلة القبض على الإعلام السعودي

محمد فلالي

 لم يكن مفاجئاً حجب القنوات الفضائية المعارضة للسياسة السعودية، كـ»الميادين» و»المنار» وقبلها «العالم»، عن القمر الصناعي «عربسات». البعض يعتبر ان السعودية تأخرت في اتخاذ مثل هذه الخطوة. فالصحافي السعودي مشاري الذايدي يلوم، في مقال بعنوان «منع المنار والميادين» في صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية، حكومته على «تأخّرها» في اتخاذ قرار حجب القناتين بقرار من وزير الإعلام السعودي عادل الطريفي.

أكثر من هذا، فقد توعد الذايدي بالمزيد من الحجب والقمع لكل رأي وموقف مخالفين لسياسة السعودية. ومن يتوعد؟ صحافي يفترض ان يكون أول من يدافع عن حرية الصحافة والنشر!

الجور السعودي يغلق الميادين

السعودية ترى ان «المواجهة باتت مفتوحة» تنعدم فيها القيم والمعايير المهنية والأخلاقية.

لم تعد المجاهرة بهذا القمع في زمننا اليوم، أمراً يستدعي الخجل والمواربة، بل باتت كل الأمور مكشوفة.

فمملكة القهر والصمت السعودية، مثل الأنظمة العربية، ترى أن الكلمة الحرة وباء سياسي، إذا انتشر دمَّر قلاع السلطة. ولا عجب، إذن، أن يحفل سجلها مع الإعلام المختلف بكل أشكال الاضطهاد، حتى لمن هم خارج حدود المملكة.

مملكة الصمت والنفط والإمبراطوريات الإعلامية، التي تملك صحفاً ومجلات وإذاعات وفضائيات وأقماراً صناعية، تضيق ذرعاً بأقلام مختلفة وأصوات نقدية، فتطرد «المنار» و «الميادين» من «عربسات».

إعلامها «الصديق» المدفوع، أكثر انتشاراً وامتثالاً لشروطها. والإعلام المستقل عنها لا يجازف بنقدها، خوفاً من عقوبات تطال مداخيله.

لذلك، من المتوقع أن تضيق مساحة الإعلام المختلف وأن يتعاظم شأن الإعلام الأحادي.

لكن ما هي القضية التي استفزت السعودية الى هذا الحد الذي جعل نظامها يفقد أعصابه ويلجأ الى هذه الاجراءات التعسفية ضد هذه القنوات؟

انتقاد عاصفة الحزم

انتقاد العملية العسكرية التي تقودها السعودية، على رأس تحالف عريض، ضد اليمن، وسميت «عاصفة الحزم»، كان القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال، ودفع بالسعودية الى الخروج، في المعركة الإعلامية التي تخوضها ضد خصومها، من إطار المواجهة التقليدية، إلى استخدام الأسلحة المحرمة إعلامياً، عبر القمع، حيث تم إيقاف بث قناتي «المنار» والميادين» من على القمر الصناعي «عربسات»، علماً بأن «عربسات» قمر عربي تساهم فيه معظم الدول العربية، وتأسس بقرار من جامعة الدول العربية، ليكون منصة اعلامية لجميع الحكومات والمؤسسات العربية التلفزيونية، اي انه ليس قمراً سعودياً، علماً بأن المملكة تملك أقل من 40 في المئة من اسهم الشركة التي تديره.

لكن السعودية استغلت ميزة وجود مقر «عربسات» في الرياض، وترؤس مجلس ادارته سعودي، لتتخذ هذا الاجراء التعسفي بحق القناتين.

السلطات السعودية لا تملك الحق قانونيا في اتخاذ مثل هذه القرارات، بوقف من تشاء من القنوات الفضائية العربية، او تفرض عليها معاييرها الخاصة. ولكن لان العواصم العربية المركزية، مثل بغداد والقاهرة ودمشق والجزائر، تدمرت من جراء الغزو الغربي والأزمات الداخلية، والتآمر السعودي.. باتت السعودية تقرر كيفما تشاء، وتحجب من تشاء من الذين يختلفون معها وسياساتها، ويعارضون حروبها، ويرفضون ان يقدموا لها فروض الطاعة والولاء.

لكن أطرف ما في أمر وقف الرياض قناتي «المنار» و»الميادين» على «عربسات»، هو اتهام القناتين  بـ»تلفيق الاشاعات والاكاذيب».

السفير السعودي يهاجم مصر وإعلامها

فالسعودية تتهم كل من ينتقد مغامراتها، كحرب «عاصفة الحزم» على اليمن التي تدمر بناه التحتية والفوقية، الفقيرة والمعدمة، وتقتل الآلاف من ابنائه، وتمول وتسلح حروبا اخرى في سورية وليبيا، بأنه ينشر الاشاعات والاكاذيب والتلفيقات.

“التلفيق والاشاعات”، بنظر السعودية هو عرض الخسائر البشرية التي سببها العدوان السعودي على اليمن، وصور الضحايا المدنيين والمباني والمدارس والجسور المدمرة.

وإذا كانت السعودية تعتبر نشر هذه الحقائق المرعبة «تلفيقا»، يعرض صاحبه لوقف البث على «عرب سات»، فان هذا في حال تطبيقه بشكل مهني قانوني صرف، سيؤدي الى وقف بث جميع القنوات السعودية والخليجية، وعلى رأسها قناتي «الجزيرة» و»العربية»، وعشرات القنوات الدينية الاسلامية.

فالقنوات الخليجية، وخصوصاً السعودية، هي المتهم الأول بالتلفيق والفبركة.

إذن، لم يكن مفاجئاً قرار السعودية حجب قناتي «المنار» و»الميادين» عن قمر «عربسات» نتيجة «ضيق صدر» مملكة القهر بالاعلام «غير المدجّن».

وقد نجحت السعودية، وبشكل كبير، في سياسة كمّ الأفواه، بمختلف الوسائل، سواء بالإغداق المتوالي للأموال على الكثير من القنوات العربية والأجنبية إما لمواكبة المغامرات، أو لغض البصر عنها، والسكوت عن كل الفظائع التي تجري بحقّ اليمنيين بشراً وحجراً، ونجحت خصوصاً إلى حدٍ بعيد في التعتيم على أحداث اليمن وتهميش أخباره وتلفيق المعلومات عن مجريات الحرب هناك، والخسائر  البشرية الهائلة بين المدنيين.

على ان أكثر ما تخشاه السعودية من وسائل الاعلام غير المدجّنة كـ «الميادين» والمنار» وغيرها، هو كشف «الخواء» والفشل الذي تعيشه، وانكشاف «بطولاتها الزائفة»، وقدراتها الواهية، وعزيمتها المتلاشية، وسقوطها الاستراتيجي المدوّي. السعودية، ورغم امتلاكها مختلف أنواع الأسلحة الحديثة، من طائرات ودبابات وبوارج، لا يمكن أن تغير الموازين ما لم تقترن بالإرادة والقوة الواثقة التي تحمل قضية محقة. وما العجز المتصاعد في الميدان اليمني إلا ترجمة أمينة لهذا الطريق المهلك.

لم تجد سلطات المملكة سوى اللجوء إلى أسلوب القمع البائد، لإسكات الصورة والصوت، وكأن «المنار» و «الميادين»، تتحمّلان مسؤولية تقدير الرياض الخاطئ وفشلها الذريع في مغامرتها في هذا البلد الفقير بامكاناته، الغني بمواطنيه.

السعودية ما تعودت من الاعلام العربي الى «التسبيح» بحمدها وتمجيد بطولاتها.  

السعودية واسرائيل

الرياض لا تريد نقدا لجرائمها في اليمن

رغم عداء السعودية  لوسائل الاعلام التي لا تدور في فلكها، كما في مصر مثلاً، إلا ان قضيتها مع «المنار» تخفي مشكلة مزمنة لدى الرياض تجاه المقاومة وإعلامها. المشكلة ناشئة على خلفية أن نجاح المقاومة في فضح عجز أو تواطؤ «الاعتدال العربي» الذي تتزعمه الرياض في دعم القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل. هذا الأمر يفسر غياب هذه القضية بالكامل عن الاجندة السعودية، كما يفسر أيضاً التلاقي السعودي الإسرائيلي على العداء لإيران وسوريا و»حزب الله».

السعودية والإعلام المصري

مرّ زمن كانت السعودية تعتبر فيه لبنان ومصر مجرد منصتين إعلاميتين تبسط نفوذها من خلالهما على معظم وسائل الاعلام المؤثرة في هذين البلدين. وإذا كان هذا النفوذ واضحاً في لبنان، وتجلى بالاستحواذ أو السيطرة على صحف مثل “الحياة” التي أسسها الصحافي اللبناني كامل مروة، ثم انتقلت ملكيتها منذ نحو ربع قرن الى أحد أبناء العائلة الحاكمة (الأمير خالد بن سلطان).. إلا ان الوضع في مصر بقي مختلفاً بعض الشيء.

السفير السعودي يهاجم مصر وإعلامها

ففي فترة حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، لم تستطع السعودية بسط نفوذ إعلامي  في مصر، فيما شهد عهدا الرئيسين الراحل أنور السادات والمخلوع حسني مبارك إحراز نفوذ بسيط لدى بعض وسائل اعلام مصرية محلية. أما وسائل الاعلام الرئيسية، من تلفزيون وصحف، فبقيت مملوكة من قبل الدولة المصرية حتى الآن.

وفي الفترة التي تلت «ثورة يناير» «، و»الانفجار» الاعلامي الخاص، سعت الرياض الى التأثير على بعض وسائل الاعلام الجديدة. نجحت قليلاً وأخفقت كثيراً. ورغم إظهار النظام المصري الحالي الود للنظام السعودي، بهدف استقطاب التمويل والدعم المالي، إلا ان الرياض تشكو من استمرار انتقاد العديد من وسائل الاعلام المصرية للسياسات السعودية، خصوصاً الحرب على اليمن، رغم ان النظام المصري أعلن مشاركته في التحالف الذي تقوده السعودية في هذه الحرب.

وصوّب بعض الإعلام المصري سهامه إلى السعودية منذ أن أعلنت عن إطلاق عملية «عاصفة الحزم»، حيث شكك بنتائجها وأسبابها. وقالت الإعلامية أماني الخياط إن «الحوثيين لم يعتدوا على أحد حتى يتم الاعتداء عليهم من خلال عاصفة الحزم بقيادة السعودية». أما الإعلامي إبراهيم عيسى، فوصف «عاصفة الحزم» بأنها عبارة عن «دولة عربية تضرب أخرى مهما كانت الأسباب، وهذا أمر مؤلم. والحوثيون مكون من الشعب اليمني».

ورغم كل محاولات الاحتواء، واستمرار الدعم المادي السعودي لمصر، يلاحظ استمرار الحرب الكلامية والتلاسن الدائر بين إعلاميين مصريين، ووسائل إعلاميّة وسياسيّة سعوديّة. فالسفير السفير السعودي في مصر، أحمد  قطان، عبر مراراً عن غضب المملكة من تطاول بعض الإعلاميين المصريين عليها، وقدم احتجاجات رسمية لدى الرئاسة المصرية، منتقداً «الانفلات الإعلامي المصري على كافة المستويات الذي يسبب ضرراً لمصر كدولة».

والحادث الأبرز على هذا الصعيد، جرى في منزل السفير الجزائري في القاهرة، نذير العرباوي، خلال دعوة كانت على شرف وزير خارجية الجزائر الأسبق ومبعوث الأمم المتحدة السابق الأخضر الإبراهيمي، حينما أفادت المعلومات بأن رئيس مجلس إدارة مؤسسة «الأهرام» المصرية، أحمد السيد النجار، وجّه انتقادات حادة الى السفير السعودي أحمد القطان، بسبب تهكم الأخير على السياسة المصرية، وإدعائه انتقال قيادة العمل العربي من القاهرة الى الرياض.

وانتقد النجار السياسة الخارجية للمملكة، متهما الرياض بمحاولة تقسيم سوريا واليمن، وقمع الثورة في البحرين. فطلب السفير السعودي من النجار أن يتحدث بلهجة خالية من الحدة، والتوقف عن توجيه الاتهامات. وهنا ثار النجار، ووجه حديثه للسفير قائلاً: «أنت مش هتعلمني أتكلم إزاي». وأبلغه بأن المؤسسة التي يرأس مجلس إدارتها، أو حتى عمارة بوسط القاهرة، «أقدم من السعودية بأكملها». 

وتعليقاً على هذه المعلومات، قال النجار فيما بعد «كنت أحافظ على كرامة بلدي»، فيما غادر السفير السعودي بعد هذه الحادثة القاهرة ولم يعد اليها. ورغم هذه “الضربات” الاعلامية التي تتلقاها، ما زالت السعودية تتوهم بقدرتها على “تطويع” الاعلام العربي “غير المدجّن”. 

فهذا الأمير السعودي خالد آل سعود، ينتقد ما سماه «تطاول» وسائل إعلام مصرية على المملكة، مهدداً بأن بلاده «قادرة على الرد وبقوة على إساءات الإعلام المصري المتكررة لبلادنا وقيادتنا، بل وباللغة التي يفهمونها»، مضيفاً ان «الإساءة للمملكة ولقيادتها الحكيمة، ما زالت هي الهواية المفضلة لدى كثير من الإعلاميين المصريين منذُ عهد جمال عبد الناصر».

خلاصة القول ان مشكلة السعودية في هذا الزمن، أن الإعلام العابر للحدود، المنقول عبر الأقمار الصناعية، المبثوث في كل وسيلة اتصال حديثة، كوسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكن القبض عليه، وليس باستطاعة أي سلطة أن تمنع تسلله أو تدجينه. ومنع القنوات من البث عبر الأقمار الصناعية والضغوط السياسية والمالية لن يغير من الحقائق المرة التي تعرفها سلطات المملكة جيداً.

وأخيراً لا بد من القول ان هذا العقل الأحادي المتسلّط  في السعودية، هو أحد الأسباب الرئيسية للتخلّف في المنطقة، فمن يعتقد أن المال ومحاولات السيطرة ومنع الإعلام من البث سيغيّر الحقائق.. فهو واهم.

الصفحة السابقة