الإعدامات سمّة العهد السلماني

النمر.. شهيداً

عمرالمالكي

أقدمت السلطات السعودية على إعدام الشيخ نمر النمر، وثلاثة آخرين مراهقين، ضمن مجموعة أكبر وصل عددها الى ٤٧ شخصاً، بتهمة الإرهاب. ومع أن الإعدامات كانت متوقعة بالنظر الى الظروف المحيطة بالوضع السعودي الداخلي والخارجي، إلاّ أنها فجرت طوفاناً من الإعتراضات في كل بلدان العالم، خاصة الحليفة للنظام السعودي، وبالأخص فيما يتعلق بإعدام الشيخ النمر وثلاثة آخرين لا علاقة لهم بالإرهاب، ولا يؤمنون بالعنف أصلاً.

ردود الفعل السلبية كانت متوقعة. توقعها النظام، وكان مستعداً للتعاطي معها بلغة الخشونة والقوة. وكانت متوقعة من حلفائه الذين أفصحوا ـ كما الإدارة الأمريكية ـ عن تحذيرهم السلطات بعدم الإقدام على اعدام الشيخ النمر؛ فيما كان المتحدث باسم أمين عام الأمم المتحدة بان غي مون، قد قال بأن الأمين العام نصح الأمراء السعوديين مراراً بعدم الإقدام على اعدام النمر، في الحدّ الأدنى.

لم يعد السؤال يتعلق بتوقيت الإعدامات، ولا بكيفية إخراجها الى العلن والتكتيكات التي استخدمتها السلطات السعودية للجمع بين كل المعارضين واعدامهم تحت يافطة واحدة؛ ولا بالتساؤل حول التزام ال سعود بالمحاكمة العادلة ضمن قضاء غير مستقل وغير نزيه، ولا ارتدادات الإعدام على الوضع الداخلي، والإقليمي.. ليس هذا فحسب، بل السؤال اليوم أيضاً يتعلق بما إذا كان منهج الإعدامات وقطع الرؤوس سيكون العلامة الفارقة والوحيدة ربما للعهد السلماني، وأن البلاد المسعودة تتجه سريعاً نحو منهج دموي قد لا يتوقف بسهولة. فالدم يستجلب الدم، والرياض لاتزال تعدنا بوجبات إعدام أخرى قادمة.. وأما الإعتقالات لكل اصحاب الرأي والنشطاء فصارت خبراً اعتيادياً في المملكة السعودية.

توقيت الإعدامات

مطلع السنة الجديدة ٢٠١٦ اختير كتوقيت متميز لتنفيذ الإعدامات، بعد ترويج طويل استمرّ لها من خلال مواقع اليكترونية تابعة لوزارة الداخلية، تم تسريب الأخبار اليها، ليس فقط لجسّ نبض الشارع وإنما أيضاً لتؤدي الإعدامات غايتها بنظر آل سعود في إرعاب المجتمع المسعوَد.

في مطلع العام، هناك احتفالات في كل الدنيا.. وفي السعودية هناك احتفال لجوقة النظام، ولكن بقطع الرؤوس. هذا ما فاخر به رجال مباحث النظام.

الضحايا أكثرهم قد مضى على اعتقاله أكثر من عشر سنوات، وهم من المتهمين بالإنضمام الى القاعدة، أو تأييد فكرها، أو التنظير لها.. في حين أن المواطنين الشيعة الأربعة الذين أضيفوا لقائمة المعدومين اعتقلوا قبل عامين، والشيخ النمر اعتقل في ٢٠١٢م، فلماذا لم يعدم النظام المجموعات منفردة، ولماذا لم يعدم آل سعود أحداً من القاعديين منذ المواجهات في ٢٠٠٣، رغم أنهم تحت قبضته؟

هل كان توقيت الإعدامات له علاقة بانشغال العالم باحتفالات رأس السنة الميلادية، والأهم انشغال الإعلام الغربي بقضايا أخرى لا تحبذ نشر قضايا العنف والدم؟

هل كان توقيت الإعدامات له علاقة بفورة الإعتراض والسخط الشعبي بعد ايام من اعلان عجز الميزانية ووضع ضرائب على الوقود والخدمات؟ وبالتالي سحب اهتمام المواطنين الى موضوعات أخرى؟

هل كان النظام السعودي بحاجة الى تضامن قاعدته الاجتماعية، وحاضنته المناطقية النجدية، وهو يتعرض لمخاطر وجودية، فكان يخطط للإعدامات من أجل اصطفاف شعبي نجدي أكبر معه؟

ثم ألا يعني هذا كلّه، أن النظام السعودي يعتمد سياسة القفز الى الأمام هروباً من المشاكل، بافتعال مشاكل جديدة، يظنّ انها ستنسي المواطنين القديمة منها؟

وهل جاءت الإعدامات باعتبارها حاجة ملحّة لنظام يتداعى ويريد تأكيد قوته وسيطرته على الأوضاع؟

أياً كانت أهداف التوقيت فهناك أمور مؤكدة:

الأول ـ أن النظام، من الناحية التاريخية، كان يقوم بإعدامات لمعارضيه، وفي الغالب داخل السجون، وفي أحيان عديدة يتم دفنهم في باحات السجون، فلا يرى أهاليهم جثامينهم ولا يعرفون أين دُفنوا.

الثاني ـ أن أمراء آل سعود، في هذا الوقت الخطير بالنسبة لهم، لم يعد يهمّهم كثيراً ماذا يقول أو سيقول العالم عمّا يفعلون. ولعلّ أهم ميزة في العهد السلماني، أنه لا يعير بالاً لأحد، لا لنصائح أصدقاء، ولا حلفاء، سواء تعلق الأمر باعتقالات او اعدامات. والسبب في هذا، أن شعوراً بالرعب يجتاح العائلة المالكة، وكأنها تقول: الغريق لا يخشى البلل. ولسان حالهم يقول: (دعهم ينتقدون، ونحن سنفعل ما نريد. المهم أن لا نخسر الحكم والسلطة). 

لهذا كانت الإعدامات صفة لازمة للعهد السلماني، ولم يحدث في تاريخ السعودية ان أُعدم ٤٧ مواطناً في يوم واحد، كما لم تمر على السعودية فترة تشنّج وقمع أمني تشابه ما عليه الحال اليوم، الى حدّ تتصاغر معه اجراءات القمع في الستينيات التي هندسها الملك فيصل ونفّذها وزير الداخلية يومئذ الأمير فهد (الملك فيما بعد).

رسائل الرياض من الإعدامات

ماذا تريد الرياض من الإعدامات؟

ما هي الرسائل التي تريد أن توجهها من خلال المذبحة؟

والى من يُراد أن تصل تلك الرسائل؟

ابتداءً يجب التذكير بأن الإعدامات السعودية الأخيرة جاءت في سياق تصاعدي للقمع السعودي.

فقد تمّ تفريغ الساحة من النشطاء الحقوقيين والسياسيين، عبر الإعتقالات، وعبر التهديد بالإعتقال، وعبر المنع من الكتابة والمنع من السفر والفصل من الوظيفة وغيرها. الى حد ان عشرات من الكتاب والمعلقين المتميزين اختفوا عن ساحة مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب التهديدات المستمرة في حياتهم ومعاشهم.

وبالنسبة لإعدام الشيخ النمر والمواطنين الثلاثة الآخرين الشيعة، فإن الإعدامات جاءت بعد نحو ثلاثة أعوام من القمع المستمر، والقتل خارج اطار القانون. فمنذ اعتقال الشيخ النمر، تم قتل المجموعة الرئيسية التي تقود الحراك السلمي، بحجة أنهم إرهابيون وضعتهم السلطات ضمن قائمة ٢٣ شخصاً مطلوباً. هؤلاء قُتلوا في الشوارع، وبالهجوم على منازلهم، وجرح آخرون ثم أخذوا الى المعتقلات. معظم الناشطين في الحراك السلمي في المنطقة الشرقية تم إخماد أصواتهم. وبالتالي فإن اعدام الشيخ النمر والآخرين إنما يمثل الخطوة التالية في التصعيد العنفي الرسمي.

في ظل ظرف كهذا، كان يفترض أن يسترخي النظام، وأن لا يشعر بتهديد وجودي. فالأمراء ما برحوا يقولون بأنهم قضوا على القاعدة، وانهم قضوا على (حسم) واودعوا النشطاء في السجون بتهمة الإرهاب والعمالة للخارج!؛ وقتلوا من أرادوا قتله، وأخمدوا أصوات من أرادوا إخماده. إذن: لماذا يريد النظام الإعدامات، بل لماذا يشعر بالحاجة الى القيام بها، في وقت الإسترخاء؟

كان بإمكانه أن يعدم القاعديين فترة المواجهة قبل نحو عشرة أعوام.

وكان بإمكانه القيام بعكس ذلك، فيطلق سراح الناشطين السياسيين والحقوقيين السلميين، مادام أصبح مسترخياً، ومادامت معاركه الخارجية مستمرة. ولو فعل، لأمكن القول بأنه يريد توحيد الداخل، وبدء صفحة جديدة مع شعبه.

النظام لم يفعل ايّ من هذا. ووطأة القمع تصاعدت، وكأنها بلا مبرر حقيقي.

الصحيح أن فلسفة النظام ورؤيته تختلف عمّا ذكرناه آنفاً.

لا أحد يستطيع أن يقنع أمراء العائلة المالكة بأن وضعهم طبيعي، وأن حكمهم مستقر، حتى وإن كانوا حريصين على الزعم بذلك، والظهور بعضلات خاوية.

الأمراء يعتقدون أن وضع المملكة في السياسة الخارجية كارثي، فقد خسرت معركتها في العراق وفي سوريا ولم تنجح حربها في اليمن، وأنقذت النظام في البحرين، ولكنها لم تحل أزمته، وفي لبنان تكاد تخسره بالكامل. والكارثة الأكبر، أن إيران برزت كلاعب أساس في المنطقة، والجميع يخطب ودّها بعد الاتفاق النووي وإلغاء العقوبات.

والأمراء يعتقدون بأن هناك انعكاساً سلبياً خطيراً على تراجع مكانة الدولة سياسياً واقتصاديا واستراتيجياً. فهي دولة متهمة بالعنف والإرهاب الوهابي القاعدي والداعشي، وهي دولة مستنزفة اقتصادياً بسبب الحروب والفساد. وهي دولة تفقد سريعاً مكانتها الإستراتيجية بعين حلفائها الغربيين. وهي غير قادرة على شراء ولاءات الدول في ظل الإنكسار الإقتصادي الذي بدأت تعيشه ولما يصل بعد الى مداه الأكثر إيلاماً.

والأمراء يعتقدون، بأن الوضع المحلي مخيف، فرغم قبضة العنف العمياء المستخدمة، وإنْ استطاعت ضرب النشطاء، فإن بوابة العنف ستكون مشرعة في حال ضاعت هيبة الدولة المسعودة، وفي حال هُزمت او تعادلت حتى في حرب اليمن، وأيضاً إذا ما انتكست الأوضاع الخدمية والإقتصادية فستضيع الولاءات السياسية للعائلة المالكة، وسيتجرّأ من يتجرّأ على الدولة، وقد يشتعل العنف القاعدي الداعشي من جديد جرّاء الهزائم الخارجية والفشل الداخلي.

لهذا كلّه يستشعر آل سعود الخطر.

ولهذا هم بحاجة الى العنف والدم أكثر فأكثر، وكلّما غابت الجزرة، فلا بديل عن عنف ودموية أكبر.

هذا هو منطق النظام السعودي وأمرائه. وهذا هو موطن التوتر في سلوك آل سعود السياسي.

والإعدامات الأخيرة جاءت لترسل رسائل عديدة، وتستهدف أكثر من جهة:

أولاً ـ الرسالة المحلية:

يريد الأمراء من خلال وجبات الإعدامات القول للمواطنين بأن حكم آل سعود لازال قوياً، وأن ملك الحزم والعزم والظفرات سلمان، لن يتهاون في مواجهة أعداء الحكم، وأن الذين يتوقعون علو الصوت المعارض بسبب الكوارث السياسية والإقتصادية، لن يجدوا سوى (السيف الأملح). إذن هي رسالة للمواطنين بأن يخمدوا أنفاسهم، وأنه مهما عانت الدولة من مشاكل اقتصادية وخدمية، فهي لا تبرر الاعتراض على النظام، ولن تقوده الى إصلاح سياسي. لقد مضى زمن العصا والجزرة، ولم يتبق منه سوى العصا، او لنقل (السيف الأملح).

كأن آل سعود يريدون استباق المشاكل القادمة، والتي قد تظهر على شكل انفجارات عنف قاعدي وداعشي، اضافة الى احتمال قيام موجة من طلاب الإصلاح بمجرد أن يشعر الجميع بضعف النظام، كما حدث بعيد تفجير ٩/١١. لكن النظام يقول لكل هؤلاء ابقوا رؤوسكم منخفضة وإلا طالها السيف.

هناك رسالة أخرى للمواطنين الشيعة، وهي رسالة واضحة وعنيفة ومعمّدة بالدمّ. الرسالة تقول: سنعدم الشيخ النمر، وسنعدم آخرين، ولن نسلّم جثثهم لدفنها في مقابر المشركين لتصبح مزاراً رمزياً، وهناك وجبات أخرى في الطريق. من يعارض آل سعود مصيره الإعدام، ومن يتجرّأ على رموز العائلة المالكة، فلن نتوانى في قمعه.

وضع اسم الشيخ النمر وثلاثة آخرين في قائمة الإرهاب القاعدي، اضافة الى الحرب الطائفية المفتوحة في الإعلام السعودي على الشيعة، تعني ان النظام السعودي لا يهمه أمر المواطنين بالمعنى الشامل، وإنما يهمّه وحدة (الشعب النجدي) الذي يمثّل الحاضنة للنظام. ال سعود فتحوا معركة واضحة المعالم ضد مواطنيهم الشيعة، حتى قبل قتل الشيخ النمر. لقد قتلوا المواطنين في الشوارع ولم يعتذروا. كانت التهم تأتي بعد تنفيذ الإعدام والتصفية. التمييز الطائفي في العهد السلماني تجاوز حدود العقل. الفتاوى والشتائم والتكفير، ومن ثمّ التفجيرات الداعشية التي وقعت في مساجد الشيعة كلها تحوي رسائل دم الى المواطنين الشيعة.

النظام يعلم مسبقاً أن النمر لا علاقة له بالعنف والإرهاب. بل العالم كله يعلم أن النمر لا يؤيد استخدام السلاح، بل لا يؤيد رمي الحجارة على رجال الأمن الذين يقتلون المواطنين في الشارع. وهذا مسجّل بالفيديوهات وموجود على اليوتيوب وتنشره محطات التلفزة. لكن الملك سلمان وزمرته أبوا الا الإعدام للمعارضين الشيعة، ولا يوجد في التهم انهم قتلوا أحداً، حتى يزعم النظام بأن القتل كان قصاصاً او حدّاً للحرابة والإفساد في الأرض.

لكي يأمن حاضنته النجدية والوهابية، لم يكن بإمكان آل سعود أن يعدموا القاعديين، بغض النظر عن التهم الموجهة لهم، إذ ان قضاء آل سعود مشكوك فيه.. ما كان له ليفعل ذلك ويلقى قبولاً وتضامناً نجدياً وهابياً، ما لم يعدم الشيخ النمر والمواطنين الشيعة، فوجود هؤلاء ضمن القوائم، هو الذي يؤدي الى قبول قاعدة النظام بقتل الوهابيين الدواعش او القواعد. ولهذا توحدت القاعدة النجدية الوهابية المتطرفة مع آل سعود وقبلت الإعدامات لأن الشيخ النمر والشيعة كانوا في مقدمتها.

وفي الإعدامات القادمة، اي في الوجبات التي يبشرنا آل سعود بأنهم سيقومون بها، لن تخلو وجبة اعدامات من دون وجود مواطنين شيعة. فالأخيرون بمثابة السكر في الدواء الذي يقدّم للحاضنة النجدية، التي لم يعد العقل يتحكّم فيها بقدر ما تتحكم بها العواطف المذهبية التي استثارها النظام وزبانيته ـ خاصة في عهد سلمان.

النظام السعودي لم يعدم الشيخ النمر والمواطنين الشيعة الآخرين ظلماً فحسب، بل كان اعدامهم ضرورة، انْ كان يريد لحاضنته التسليم بإعدام القاعديين الوهابيين.

والنظام السعودي بوضعه اسماء الشيعة ضمن قوائم الإعدام، كان يريد ان يقول بأنه يعدل بين الرعية فيقطع رؤوس الجميع بدون تمييز طائفي. والصحيح ان الإعدام للشيعة كان على أساس طائفي واضح. هكذا قرأه المواطنون في الداخل، وهكذا رآه العالم كله، بمن فيهم الحكومات الصديقة لآل سعود، والمنظمات الدولية الحقوقية أيضاً.

والنظام بجمع المواطنين الشيعة مع المتهمين بالعنف القاعدي والداعشي، كان يريد تبرئة مذهب الوهابية من تفريخ العنفيين والقتلة والتكفير والذبح.. وذلك بالقول أن الإرهاب لا دين له. وهذه كلمة حق يراد بها باطل. صحيح ان الإرهاب لا دين له، بمعنى انه لا ينتمي الى دين الله، أو أي من الأديان السماوية. لكنه ليس بلا هوية، إنه إرهاب له دين، ودينه الوهابية. الإرهاب الداعشي له دين، وله مرجعية فكرية عقدية سعودية، وله وسائل تميّزه عن غيره في العنف والقتل، وانصاره من السعودية وليس فكرها ومالها فقط، بل وشباب العنف والقتل والإرهاب في أكثرهم جاؤوا من البيئة الوهابية السعودية. بهذا المعنى، فإن للإرهاب القاعدي الداعشي الوهابي.. دين، ودينه الوهابية.

ولقد حاول آل سعود وإعلامهم مراراً ليس فقط التبرؤ من القاعدة وداعش، وتبرئة مذهبهم الإجرامي الوهابي، وإلقاء التهمة على إيران بأنها وراء داعش والقاعدة.. بل سعى آل سعود منذ أكثر من ثلاثة أعوام، الى دفع التهمة عن مذهبهم وايديولوجيتهم الرسمية، بالقول أن هناك ارهاباً شيعياً، وان الإرهاب ليس فقط وهابياً، بل ان الإرهاب الشيعي اشدّ خطراً.

ومن هنا، كان وضع الشيخ النمر ضمن قائمة الإرهابيين، يعني إعلان براءة للمذهب الوهابي من الإرهاب، او على الأقل تسليط الضوء على التشيّع كمفرخة للإرهاب، رغم ان المقتولين الشيعة لم يطلقوا رصاصة او يقتلوا أحداً.

وفي المحصلة فإن إعدام أبرياء لم يقتلوا أو يعتدوا بحجة الإرهاب، ووضعهم الى جانب قتلة القاعدة، كان يستهدف تحصيل اصطفاف شعبي نجدي وهابي، يغطّي على سوءة الإجرام والإعدام، ويزيد في استثمار الحس الطائفي الوهابي ضد الخصوم، ويعمّق الوحدة النجدية خلف الملك سلمان، الذي قتل زعيماً شيعياً بالباطل، فأراح أنفسهم المريضة بوباء الطائفية.

ثانياً ـ رسالة الى الخارج

إعدام الشيخ النمر بالتحديد كان يحمل رسالة الى الخارج. لم يكن الإعدام قد تمّ بدون علم واشنطن ولندن على الأقل، وإنْ زعمتا بأنهما نصحتا آل سعود من تداعيات الإعدام إقليمياً.

واضحٌ أن الإعدام جاء في سياق إشعال السعودية لحرب مذهبية. فلأول مرة في تاريخ السعودية، يقدم الأمراء على إعدام مواطن ورجل دين شيعي، بمبررات واهية لم يقبلها العالم. لأول مرة لا تبالي الرياض بملايين المواطنين الشيعة فتستعديهم فوق ما استعدتهم بسياساتها الطائفية. ولأول مرة لا تأبه الرياض بالعالم الشيعي ـ إن صح التعبير ـ بكل أطيافه، بل وتحرّض على الشيعة ككتلة واحدة، وتفتح عليها النار جميعاً.

هذا لم يقم به فيصل ولا فهد.. بل قام به سلمان. الرياض تريد أن تقول انها زعيمة العالم السنّي وليس الإسلامي، وهي ليست كذلك. والرياض تريد من خلال ثنائية الشيعة والسنّة، جذب السنّة الى صفّها كمجتمعات، وكحكومات وحركات وأحزاب، من خلال فتح مجابهة طائفية واضحة المعالم تحريضية لم تشهدها المنطقة في تاريخها القديم والحديث.

في الستينيات الميلادية الماضية، ألف الشيخ عبدالله الخنيزي ـ من القطيف، كتاباً بعنوان (أبو طالب مؤمن قريش)! فحُكم عليه بالإعدام، من قبل مفتي الوهابية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، لأنه من وجهة نظره فإن عمّ النبي مات كافراً، وكذلك والدة النبي وأبوه عليه الصلاة والسلام. هذا قول لا يقوله المسلمون جميعا. ولا يستحق من يقول بأن أبي طالب مات مؤمناً موحداً أن يحكم عليه بالإعدام، في قضية خلافية تتجاوز موضوع الشيعة والسنة. هنا وبعد وساطات من المرجعية وتدخل شاه ايران، ألغي حكم الإعدام، وخرج الشيخ الخنيزي الى النجف وبقي فيها منفياً لنحو عشرين عاماً. واليوم هو في السعودية، وهو مقرب من السلطات السعودية، ولم يكن يوماً معادياً لها اصلاً.

في قضية النمر، لم تقم مرجعية العراق (السيستاني بالذات) بإدانة اعتقال الشيخ النمر، على أمل ان تؤدي الوساطات دورها بهدوء. وقد تدخلت مرجعيات سنيّة عراقية لدى السعودية بغرض الغاء حكم الإعدام عن الشيخ النمر. وفعلاً قدمت السعودية لكل من توسّط وعداً بعدم القيام بالإعدام، وهي إذ تفعل ذلك كذباً، إنما تريد التخفّف من الضغوط، ثم تضرب ضربتها، كما حدث للشيخ الصميدعي الذي اعلن بأن الملك سلمان قد وعده بعدم تنفيذ عقوبة الإعدام، وذلك قبل بضعة ايام من وقوعه.

واضح ان الملك سلمان شديد التطرّف، واراد أن يحوّل حكماً بالإعدام مخالف للشرع والقانون والحق، الى معركة اقليمية طرفها الآخر الشيعة جميعاً في أي مكان كانوا، وكذلك معهم إيران.

إيران التي بينها وبين الرياض جبال من المشاكل، كان آخرها مقتل المئات من حجاجها، وعدم استلام جثث بعضهم على الأقل، ورفض الرياض نشر نتائج التحقيق فيما جرى بمنى. ايران التي لديها غضب على الرياض بشأن إغراق سوق النفط، وتهييج الرأي العام ضدّها طائفياً؛ ومحاولاتها تخريب الإتفاق النووي مع الدول الأخرى، اضافة الى تدخلاتها في ايران نفسها (بلوشستان والأهواز).

ايران، وبعد مقتل الشيخ النمر، أفسحت للغضب الشعبي ان يعبر عن نفسه، بمهاجمة السفارة السعودية بطهران والقنصلية السعودية بمشهد، أو هكذا تقول السعودية. وكانت الرياض تنتظر مثل هذه الأخبار السعيدة لتنقل الصراع الى مرحلة متقدمة أكبر وأكبر.

قطعت الرياض علاقتها مع طهران مؤملة اصطفافاً سنياً (خليجياً وعربياً وعلى مستوى العالم الاسلامي) فتقطع جميع الدول ـ أو أغلبها ـ علاقاتها مع طهران، ولكنها فوجئت بفشل ذريع، حتى في محيطها الخليجي، وفي النهاية لم تحصل الرياض بعد اجتماعين لوزراء خارجية دول مجلس التعاون، ووزراء خارجية الدول العربية، إلا على اربع دول هزيلة قررت قطع العلاقات مع طهران، وهي: البحرين، والسودان، والصومال، وجيبوتي!

لقد قدّمت طهران للرياض ما تريده حقاً، فهي ـ أي طهران ـ وإن كانت قد فوجئت بالخطوة السعودية التصعيدية بقطع العلاقات، فإنها كانت مسؤولة عن مهاجمة السفارة السعودية، وآل سعود كانوا يبحثون عن ذريعة، ليس فقط لقطع العلاقات، وإنما لتحويل موضوع قتل الشيخ النمر الى قضية شيعية سنية، والى جزء من معركة ايرانية سعودية، وتأكيد الكذبة السعودية بأن الشيخ النمر مجرد تابع لإيران.

لقد ربحت الرياض تكتيكياً، ولكنها خسرت استراتيجياً.

تكتيكياً أثارت الرياض زوبعة سياسية، وأعلنت نصراً ليس فقط على مواطنيها بإعدام الشيخ النمر، ولكن ايضاً بقطع العلاقات.

ولكن الخطوة السعودية أثبتت ان النظام السعودي أرعن، وغبي، ولا يحسب خطواته. كل الدول الحليفة للرياض لم تشعر بارتياح ازاء قطع العلاقات مع طهران، وإثارة الجو الطائفي، ومحاولة جرّ الغرب الى جانب الرياض للقتال مجدداً ضد ايران، بما يفضي على الأقل الى تأجيل رفع العقوبات عنها.

هذا لم يحدث، وانفجرت الصحف الغربية ضد السعودية التي أثبتت انها دولة غير مسؤولة. عشرات المقالات كُتبت في هذا الإتجاه، ومقالات عديدة نددت بمحمد بن سلمان، الصبي المغامر الذي يدير الحكم بالنيابة عن ابيه المريض بالزهايمر.

لم يقف العالم السني مع الرياض، لا تركيا ولا الباكستان ولا أندونيسيا، قبلت الخوض في مستنقع الرياض. بل ان الكثير من الدول ارادت التوسط بين الطرفين، في حين ان الرياض ما فتئت تقول بأنها تحارب ايران بالنيابة عن العرب والمسلمين. السؤال: من أعطى الرياض حق اعلان الحرب بالنيابة عن الآخرين؟ ولماذا مطلوب من الدول الأخرى ان تخوض حروب الرياض، في وقت يريد الجميع حلولاً سياسية تخرج المنطقة من دائرة العنف والدم والتوتر؟

والخلاصة،

اولاً ـ قدّمت الاعدامات السعودية كنموذج داعشي، تمّ ادانته من قبل الجميع، خاصة المنظمات الحقوقية، وحتى من قبل الدول التي ترفض عقوبة الإعدام. وهناك تشكيك في اصل المحاكمات غير العادلة وفي القضاء السعودي. السعودية اعطت العالم دليلاً آخر يدين بربريتها الداعشية، ولم يأخذ العالم الأمر على أنه مكافحة للإرهاب كما صاغته الرياض في بياناتها. على العكس من ذلك، فإن الإعدامات قد تقود الى توتر محلي، والى المزيد من المواجهات العنفية الدموية. قمع السلطات غير المسيطر عليه، واستخدام العنف، هو الذي ولّد داعش والقاعدة، وهو الذي نشر العنف الوهابي الى الجوار. سياسة السيف الأملح، وصفة لمزيد من التوتر والعنف والدعشنة.

ثانياً ـ بإعدام الشيخ النمر، تكون العائلة المالكة وحاضنتها النجدية قد أقامت قطيعة مع المجتمع الشيعي الذي يبلغ تعداده نحو ١٥٪ من مجموع السكان. الأقلية النجدية بمشايخها الوهابيين، وزعمائها السياسيين من الأمراء السعوديين (٢٠٪)، ستبقى في صدام مع الشعب، لإثرتها وهيمنتها وعنفها تجاه البقية. وتحتاج العائلة المالكة الى عقود من الزمن لتصحيح العلاقات بين القمة والقاعدة، ولن يكون بإمكان الرياض دائماً المراهنة على أن العنف تجاه المواطنين الشيعة سيخضعهم. هذا لم يحدث سابقاً، ولن يحدث لاحقاً. منذ الآن فصاعداً، فإن العلاقات بين آل سعود والمواطنين الشيعة، قد دخلت نفقاً مظلماً سيستمر لعقود، هذا ان بقي النظام وعمّر الى ذلك الحين. كما ان الإنشقاقات الإجتماعية والطائفية التي اطلقها الاعلام والفتاوى الوهابية والتي بدت موجاً غير مسبوق، هذه الانشقاقات لن تخدم الاقلية النجدية الوهابية الحاكمة بأي حال من الأحوال. فالأقلوي الحاكم قد يطيل عمره في الحكم من خلال التضليل، ولكنه لا يخدم ذاته من خلال المواجهة والدم.

ثالثاً ـ خسرت الرياض معركتها الإقليمية بإشعال حرب شيعية سنية، أو عربية فارسية، وتبيّن ان زمن الرياض وحقبتها قد وليا الى الأبد. تحويل قضية داخلية الى معركة مذهبية، ثم الى معركة سياسية مع الخارج، الشيعي، او الخارج الإيراني، قد استُهلك تماماً. لم تعد الطائفية قادرة على استجلاب خير للنظام السعودي. لقد استثمرها ـ أي الطائفية ـ حتى الثمالة، ووصلت الامور الى حدّ التشبّع، وفي النهاية لم تعد الطائفية ذلك السلاح المهم بعد أن افرطت الرياض في استخدامها زمنياً ومكانياً.

الصفحة السابقة