تلاقي المغامرة مع الرعونة   داعش في الرقة

«نكتة» أم حقيقة: الجيش السعودي قادم!

عبد الوهاب فقي

فوجئت الاوساط الاعلامية، والرأي العام، بإعلان السعودية ـ على لسان المتحدث باسم التحالف السعودي للحرب على اليمن العميد أحمد عسيري ـ استعدادها لارسال قوات عسكرية برية، للمشاركة في الحرب على داعش في سوريا.

المفاجأة جاءت لأسباب ثلاثة:

أولا ـ لأنه لم يكن مطروحاً في التحالف الاميركي، البدء بحرب برية لتطهير المنطقة من داعش، وهي لا تزال تناوشها عن بعد عبر غارات غير مجدية، ومعارك تلفزيونية بشكل غارات من قوات خاصة لاصطياد مسؤول هنا ومجموعة هناك.

وثانيا ـ لأن السعودية غير قادرة برأي الخبراء العسكريين على خوض حرب برية كبيرة، وخارج أرضها.. فالتدخل السعودي في سوريا ممكن في حالة واحدة، أن يكون جزءا من خطة اميركية اسرائيلية، لاعادة التوازن مع محور المقاومة على ضوء النجاحات البارزة والتقدم الحقيقي الذي حققه الجيش السوري وحلفاؤه في منطقة شمال حلب واللاذقية ودرعا وريف دمشق، في الاسابيع الاخيرة.

وثالثاً ـ لأن الرياض وهي تعلن استعدادها، تواجه حملة اعلامية عالمية غير مسبوقة تتهمها بتفريخ ودعم داعش والقاعدة، وكل قوى التطرف النابتة من رحم الوهابية، التي تمثل أيديولوجية الدولة السعودية. فكيف يستطيع من أنتج وموّل ودعم هذه الجماعات فكريا ومالياً وبشرياً، أن يتنطّع لقتال مُنتجِه الداعشي او القاعدي؟.

لا يختلف اثنان من المراقبين العسكريين على ان الجيش السعودي ليس جيشا مقاتلا، في الحالات العادية، وهو اكثر عجزا في ساحات شديدة التعقيد كما هو الحال في سوريا والعراق ولبنان. ولا يعتقد هؤلاء المراقبون ان هناك من يراهن على مثل هذا الجيش لحسم حروب سواءكانت تقليدية أو غير تقليدية.

خلفيات الاعلان السعودي

ليس صدفة أن أعمار المبادرات السعودية قصيرة جدا، ولا تتعدى الساعات. ولا حاجة للتذكير هنا بكل ما فعلته السعودية، من تحالفات عربية واسلامية واتفاقات ثنائية مع دول مجلس التعاون ومصر وتركيا وباكستان.. وغيرها، وحتى مع الدول الكبرى كفرنسا وروسيا والولايات المتحدة.. وكلها ذهبت ادراج الرياح ولم تترجم عمليا.

لذا فإن العرض السعودي الاخير بإرسال قوات الى سوريا، ولد ميتا وهو، كما وصفه وزير الخارجية السوري في حينه، مجرد نكتة سمجة، لا تثير الضحك.

الذين استخفوا بالعرض السعودي كانوا على حق، استنادا الى المعطيات العسكرية واللوجستية والمالية للمملكة.. وكلها سلبية ولا تبرر اي احتمال لتنفيذ هذا العرض. لذا فقد اتجه كثيرون لادراجه ضمن الانجازات الهوائية التي تضلل السعودية بها شعبها، ومادة للتطبيل وضخ المديح، وتضخيم الذات و»الهياط» كما يقول المواطنون.

الا ان الرئيس السوري بشار الاسد كان له رأي مختلف. ففي آخر مقابلة له مع وكالة الصحافة الفرنسية وضع هذا الاحتمال في الحسابات، وتعهد بمقاومة ومواجهة اي قوات اجنبية تدخل الاراضي السورية.

لاحظ المراقبون ان الحديث عن التدخل في سوريا، ورد في اجابة لمستشار وزير الدفاع السعودي العميد أحمد عسيري، على سؤال صحافي مبرمج من قناة العربية، وليس صدفة؛ ثم أعيد التشديد عليه على لسان عسيري نفسه في بروكسيل.. بما يوحي بانه مناورة من وزير الدفاع الشاب الامير محمد بن سلمان المتلهف لأي فرقعة اعلامية، تعيد تلميع دوره، والمستبسل في إظهار قدراته ومهاراته ليحظى بمباركة الاميركيين، لتحقيق حلمه الوحيد الذي يسعى اليه: أن يكون الملك القادم متخطياً ابن عمّه ولي العهد محمد بن نايف.

وعلى طريقة المثل الشعبي: خذوا أسرارهم من صغارهم.. بدا العرض السعودي بمثابة رسالة أميركية، وحاجة اعلامية وميدانية للسياسة الخارجية الاميركية في مواجهة المستجدات في سوريا، وللرد على الهجوم الروسي الساحق في المنطقة.

وتراوحت الاحتمالات بين ان يندرج الاعلان عن تدخل عسكري سعودي في سوريا في اطار حرب اميركية شاملة في المنطقة، او اعتباره غطاء لتدخل تركي مباشر، تغض واشنطن الطرف عنه، كما فعلت في العدوان السعودي الدموي على اليمن.. اذ لطالما حلم اردوغان بالتوغل في الارض السورية والعراقية لاقتطاع جزء منها، وتغيير قواعد اللعبة في المنطقة.. ولفت الذين قالوا بهذا الاحتمال الى التقارب التركي السعودي المبهم وغير الواضح على صعيد الاتفاقات المعلنة، مما يرجح ان تكون هناك أجندة سرية تقضي بإحداث خرق ما في الجبهة السورية التي تشكل نقطة تلاق وتقارب في وجهتي نظر البلدين.

الأهداف السعودية

سرت في اوصال الحكم السعودي رعشة مفاجئة، وهو يحلم بإمكان توسيع دائرة الحرب في سوريا، وجر الولايات المتحدة والناتو اليها. فهذه الرغبة المكبوتة كانت حلما راود السعوديين منذ بدايات الحرب على سوريا، بل ان اشد مراحل الاحباط والغضب انتابت امراء المملكة، عندما احجم الرئيس الاميركي باراك اوباما عن تنفيذ وعده باجتياح سوريا وتدمير جيشها في صيف 2013، فيما عرف بصفقة الكيماوي الشهيرة، التي توسطت فيها روسيا.

وعدا عن ان الحقد على الرئيس السوري يعتبر ثابتة من ثوابت السياسة الخارجية السعودية، فإن هذه السياسة تبنت مجموعة من العناصر، التي تحتاج الى الحرب لتمكينها وتثبيتها. ومنها ان السعودية تريد ان تكرس دورها كمدافع عن أهل السنّة في المنطقة، لاقصاء تركيا ومصر نهائيا عن هذا الدور، وأن تكرس الفرز المذهبي في المنطقة الذي يتواءم الى حد كبير مع النظرة الغربية لشعوب المنطقة، باعتبارها قبائل وطوائف ومذاهب. وحيث يعتقد السعوديون ايضا ان بامكانهم تجيير المذاهب السنيّة تحت العباءة الوهابية، واظهار آل سعود كحماة لأهل السنّة. كما ان اعادة تقسيم المنطقة على اسس مذهبية، يعيد الشيعة الى مجموعة اقليات، وينهي دور الاقليات المذهبية الاخرى، التي تضطر لطلب الحماية من الطرف الاقوى في المعادلة.

واضافة الى كل ذلك، فإن اشعال حرب جديدة على خلفية القضية السورية، سيصعد الصدام الاميركي الايراني الى ذروته، وربما يوصله الى الصدام المباشر، بعد ان فشل الدفع السعودي الاسرائيلي في تسعيره على قاعدة البرنامج النووي الايراني. ثم إن الحماسة السعودية للحرب، توحي بأن الرياض ليست مفرخة للإرهاب الداعشي والقاعدي الذي انتشر كوباء في كل العالم، وأنها في طليعة من يحاربه.

كل هذه العوامل تبرر الاندفاع السعودي لخوض حرب اكبر من طاقة الرياض بكثير، الا انها تستحق المغامرة ضمن العقلية السعودية المعروفة في اندفاعاتها الطائشة، التي عممها الاعلام السعودي على الرأي العام، باعتبارها شجاعة وحزما واستعادة للقرار.

المناورة الاميركية واستراتيجية شمشون

السؤال يبقى: هل تستطيع السعودية ان تقرر حرباً بهذا الحجم ضد سوريا المدعومة من ايران وروسيا؟ وهل يسمح لها بهذا الحد من المغامرة، بما يهدد بحرب اقليمية؟

لا يمكن تصور ذلك!

فالولايات المتحدة هي متعهد هذه الحروب، والعقود التي يعمل بها اللاعبون الصغار كالسعودية وتركيا وقطر وغيرها، إنما هي عقود من الباطن، كما يقال في عالم المقاولات.

والمسرح السوري خصوصا، اصبح في عهدة اللاعبين الكبار، منذ الاعلان عن بدء الغارات الروسية. ومن الطبيعي ان اللاعبين الصغار لا يستطيعون تغيير الخرائط والالتزامات ومواعيد التسليم، وقواعد اللعبة الدولية، دون قرار من الراعي الاكبر.

فهل قررت واشنطن ان تلجأ الى خيار شمشون، وأن تدفع المنطقة الى حرب أكبر من اقليمية بالتأكيد، وطويلة الامد، بحسب ما أكد رئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيديف؟

واشنطن تدرك انها خسرت الورقة السورية. ادواتها الارهابية بدأت بالتراجع، ولم يبق منها الا وحشيتها. حلفاؤها تحولوا من رأس حربة لمشروعها الى عالة عليها، بل يثقلون حركتها الدبلوماسية، ويضيفون الى تعقيدات الازمة عقدا جديدة. قوى المعارضة لم تستطع ان تخلق كيانا محترما يمكن المزايدة به وكسب ارض جديدة في اوساط الشعب السوري. ثم ان الميدان هو للمعارضة الارهابية التي يصعب الدفاع عنها في الدول الغربية (النصرة وداعش وجيش الإسلام).

السعودية اذ تحاول دعم المعارضة لم تنتج الا داعش وأخواتها.

وتركيا، قادتها رعونة رئيسها الى تقديم صراعه مع الاكراد على المعركة المفترضة مع الارهاب الداعشي، وهو لم يتزحزح قيد انملة عن تحالفه مع داعش وارتباطه بها سياسيا وماليا.

وواشنطن فشلت في تبني جهة سورية خاصة بها، وذهبت اموالها وتدريباتها العسكرية ادراج الرياح، بل وصلت الى الاطراف الارهابية باعتراف المسؤولين الاميركيين!

فما العمل؟ وكيف يمكن لواشنطن ان توقف التقدم الروسي السريع والفاعل؟ وكيف يمكنها الحد من الاندفاعة الايرانية الصلبة التي ترجمت بشكل انتصارات حاسمة للجيش العربي السوري وحلفائه في الميدان على اكثر من جبهة؟

الادهى والامر، هو ان هذه الخسارة بالطريقة الدراماتيكية التي تحصل فيها، ستنعكس بشكل ايجابي على الوضع في العراق، ما يهدد كل المكتسبات الاميركية فيه، وينذر بطرد النفوذ الاميركي نهائيا من بلاد الشام وارض الرافدين.. ويعزز محور إيران الذي يوشك ان يتحول مع روسيا وحلفائها الى قطب عالمي.

ولا شك بأن واشنطن تعلم كلفة هذه الحرب، وانعكاساتها الكارثية على الاقتصاد العالمي، وعلى حلفائها الاوروبيين، وعلى الكيان الاسرائيلي.. ولهذا فإننا امام احتمالين متوازيين في الاستراتيجة الاميركية.

إحتمالات التصعيد

 
الجيش السعودي يخسر في اليمن

الاحتمال الاول هو الذي جسده اجتماع الناتو في الحادي عشر من فبراير الجاري في بروكسل؛ والذي كان مخصصا لبحث الوضع المتوتر بين دول الناتو وروسيا، وسبل تعزيز الحماية العسكرية لبعض دول شرق أوروبا، بالإضافة للوضع بين روسيا وتركيا. الا ان الحلف اضاف الى جدول اعماله نقطة عاجلة، واستدعى وزير الدفاع السعودي لحضور الاجتماع، ما أوحى بخطورة التطورات على الجبهة السورية.

وبحسب ما نقلت وسائل الاعلام فإن وزير الدفاع الاميركي آشتون كارتر خاطب بلهجة الامر الوزراء المجتمعين، بأن على كل منهم ان يحدد ماذا يستطيع ان يقدم للمعركة في سوريا، ضد داعش في العلن طبعا. وتابع أن دول الناتو والحليفة ستدرس خلال الأيام والأسابيع المقبلة الدور المناسب، الذي يمكن أن يلعبه الحلف الأطلسي داخل التحالف الذي يشن منذ أكثر من 18 شهرا، حملة ضربات جوية على التنظيم الإرهابي في العراق وسوريا.

الحلول الديبلوماسية

على خط مواز، كان وزير الخارجية الاميركية جون كيري يخوض معركة سياسية في ميونيخ، التي استضافت في اليوم نفسه اجتماعا حاسما لمجموعة الدعم الدولية التي تضم: الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى عدة دول عربية، والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وإيطاليا وألمانيا وإيران وتركيا.

وسبقت الاجتماع حملة اعلامية أميركية مركزة، طالبت بوقف فوري لاطلاق النار في سوريا؛ وشددت على وقف تقدم الجيش السوري على حساب المجموعات المسلحة ووقف القصف الروسي.

وبعد جدل والاقتراب من الفشل، صدر عن المؤتمرين قرار بإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق السورية المحاصرة، ووقف الاشتباكات في عموم البلاد في غضون أسبوع واحد.

الا ان هذا البيان الذي لم يحدد اية آليات لتطبيق بنوده، كان بنظر المراقبين تعويضا ديبلوماسيا عن الفشل في الاتفاق على استراتيجية موحدة لمواجهة استحقاقات الازمة السورية. وربما رغبت الخارجية الاميركية الحد من اندفاع البنتاغون لتحريك الناتو لخوض حرب جديدة في المنطقة.

هذا لا يعني ان البيت الابيض لا يشارك الصقور الاهداف التي يسعون اليها في سوريا والعراق، بل لأنه يريد ان يبقي على قفاز الحرير لتحقيق الهدف بالنقاط وليس بالضربة القاضية. بمعنى آخر، فإن الولايات المتحدة، تريد تثمير التهديدات بالتدخل البري التركي السعودي، وتعطيل الحل السلمي بعدم مشاركة المعارضة السورية، لوقف زخم الانتصارات العسكرية في سوريا، حتى يمكن أن يضمن الأميركيون وحلفاؤهم السعوديون والأتراك والمعارضة حصّة ما في الحكم، يمكن أن تُنتزع على طاولة مفاوضات جنيف. هذه الحصة من كعكة السلطة تنكمش يوماً بعد آخر؛ فكلما خسرت المعارضة السورية عسكريا، كلما خسرت سياسياً واصبحت حصتها قليلة للغاية.

ردا على تحركات واشنطن ومحاولاتها تحريك الناتو بتمويل سعودي قطري لغزو سوريا، أعلن الأمين العام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي نيكولاي بورديوجا الجمعة في 12 فبراير، أن المنظمة ستدرس طلب انضمام سورية إليها في حال تقدمت به دمشق. ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، هي منظمة أمنية إقليمية تضم كلا من روسيا وبيلاروس وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان. وكان السفير السوري في موسكو الدكتور رياض حداد قد بحث مع بورديوجا آفاق مكافحة الإرهاب الدولي، وسبل حل الأزمة في سورية.

كما حذر رئيس الحكومة الروسية ديميتري ميدفيديف من انجرار المزيد من دول الشرق الاوسط الى حرب، وقال بأن ذلك قد يقود الى اندلاع حرب عالمية، في حال تدخل قوات أجنبية فى الحرب بسوريا. ودعا ميدفيديف الأمريكيين والعرب الى أن يفكروا في حرب طويلة.. وتساءل: هل هم يعتقدون بالفعل أنهم سيفوزون بحرب من هذا النوع بسرعة كبيرة؟

الكومبارس السعودي

ومن هنا فإن الاعلان عن التدخل السعودي في سوريا، هو في احسن الاحوال تهيئة المسرح لخطوة اميركية صهيونية كبيرة، تماما كما كان عداؤهم لصدام حسين بعد ان دعموه واعتبروه فارس البوابة الشرقية وحاميها. فقد كان عليهم ان يهيئوا المنطقة للغزو الاميركي عام 2003. ومثل ذلك عداؤهم لإيران الذي كان في سياق الاعداد لحرب مدمرة تشنها اميركا واسرائيل عليها، بحجة برنامجها النووي.

يعتقد الكثيرون ان الورقة الاخيرة في الخطة الاميركية، هي اقامة دولة داعشية في المنطقة لقطع تواصل ما أطلق عليه بـ (محور المقاومة)، ومنع ايران من الوصول بثقلها السياسي والعسكري الى حدود الكيان الصهيوني.

في المرحلة الاولى سيكون دور قوات سعودية وتركية وغيرها في المنطقة وبحماية جوية من الناتو.. حماية فلول الجماعات المسلحة والعناصر الارهابية المهزومة في سوريا، واقامة ملجأ آمن لها بين سوريا والعراق.. فهذه القوى مآلها القريب الهزيمة والهرب.. وواشنطن قالت ذلك صراحة لـ»حلفائها».

مشاركة الرياض العسكرية لن تكون كبيرة، فهدف الرياض جرّ الآخرين الى مستنقع الحرب، وستشارك برياً ببضعة آلاف من الجنود، فيما يقع العبء الأكبر على الأتراك. هنا لن تضيف الرياض شيئاً كثيراً، اللهم إلا التغطية السياسية المشفوعة بالروح الطائفية. فالرياض نفسها تعيش أزمة حرب استنزاف طويلة في اليمن، وهي بلا خبرة عسكرية، لكنها ـ رغم ازمتها الإقتصادية ـ قد تتحمّل بعضا من تكاليف الحرب، وقد تدفع ثمن ارسال قوات دول اخرى ـ وإن كانت قليلة ـ كجزء من مساهمتها.

ولكن هل الخطوة الجديدة ستعوض واشنطن عن خسائرها؟ وما مدى حظوظ هذه المغامرة من النجاح؟ وهل وضعتها واشنطن موضع التنفيذ؟ وهل ستعمد واشنطن الى الايغال في مشروعها التقسيمي الذي يتناسب مع الهدف السعودي، واقامة دويلة مذهبية وهابية أخرى في المنطقة، بعد تغيير اسم داعش؟ ام انها ستكتفي بالمناورة والابتزاز، لضمان مصالحها ومنع انتصار كامل لروسيا وحلفائها؟

ليس من السهل على واشنطن حتى الان ان تقر بخسارتها الكبيرة على المسرح السوري. فمرة أخرى تثبت التطورات ان الوضع في سوريا هو مفتاح الصورة المرتقبة للمنطقة بأكملها. الا ان واشنطن جربت كل الاحتمالات، ولم تستطع انة تقلب الاوضاع السياسية، او تحقق اي انجاز، باستثناء حالة الدمار الواسعة، والمآسي الانسانية لملايين اللاجئين السوريين الذي تقطعت بهم السبل في البر والبحر. ولا يمكن لواشنطن ان تعيد الكرة وتراهن على حلفاء اثبتوا ضعف قدراتهم وعجزهم عن القيام بواجبات المواجهة. بل ان هؤلاء الحلفاء باتوا اليوم اكثر ضعفا وهشاشة، عسكريا وماليا وسياسيا، بعد ان اصبح كل منهم متورطا في ازمة فرعية، اضافة الى ازماته الداخلية العديدة الأخرى.

كما ان المخططين الاميركيين لا بد ان يأخذوا في حساباتهم الوقائع التالية:

- فالقوى المتحالفة ضد أمريكا ومشاريع تركيا والسعودية، أثبتت خلال خمس سنوات من الحرب، قدرتها على المواجهة، بالصبر والنفس الطويل وتحمل الخسائر على كل صعيد. وهي مزودة اليوم بتراكم كبير من الخبرة والتجربة العسكرية القتالية، ليس متوافراً لدى القوات السعودية وحتى التركية.

- ان اللعب بجغرافية المنطقة سيجر على الولايات المتحدة وحلفائها ويلات كثيرة، اذ ان مجرد فتح هذا الباب، سيجعل تركيا والسعودية والاراضي الفلسطينية مسرحا لنشوء دول جديدة، معالمها واضحة لكل ذي عين. ولهذا فإن تركيا والسعودية واسرائيل تجمعها مصلحة واحدة في المراهنة على داعش لتدمير الخصوم دون السماح بنشوء دولة جديدة على انقاض الدول المدمرة... واذا كان صحيحا ان سوريا قد تخسر جزءا من اراضيها لمصلحة المشروع الاميركي، الا ان خسائر حلفاء اميركا ستكون اعمق واوسع.

من هنا فإن الكلفة التي ستتكبدها الولايات المتحدة لحماية المجموعات الارهابية، المهزومة في سوريا والعراق ولبنان، تفوق أي مكاسب تتوقع الحصول عليها.. وهي تعلم ان القوى التي أفشلت الاجزاء السابقة من مخططها في المنطقة، وهي في حالة دفاع، ستكون اكثر قدرة على هزيمة المشاريع الاخرى ، بينما واشنطن وكل حلفائها في حالة تراجع وانكسار.

من هنا فإن واشنطن تبقى اقرب الى البحث عن سبل للتفاهم مع روسيا، صاحبة الكلمة الاولى في سماء سوريا، ومع ايران الدولة الاقليمية الأكثر فعالية. وما نراه من تصريحات من هنا وهناك، تبدو بهلوانية في الشكل، الا انها موحى بها من الدوائر الاميركية لابتزاز الخصم وبناء معادلات جديدة.

وستبقى تصريحات المسؤولين السعوديين سواء جاءت على لسان عسيري او عادل الجبير، وسيلة شحن وتوتير ومصدر الهام للباحثين عن الكوميديا السوداء.

اجتماع الرعناء والمتهورين

لكن يبقى ولو احتمال صغير بدخول الرياض وأنقرة الحرب البريّة مهما كانت الأحوال.

ما يدعونا لهذا، هو تلاقي الرعونة التركية السعودية، أي تلاقي الخاسرين، ما يدفعهم للمغامرة العسكرية البريّة، مع ان الرياض قالت أنها لن تدخل حرباً برية بدون قيادة امريكية.

اذا حدث ذلك، فغرضه وضع الحليف الأمريكي في مأزق للدفاع عن حلفائه. وسيكون الناتو في مأزق هو الآخر، لأن تركيا عضو فيه، بل هي الدولة التي تمتلك أكبر قوة بريّة في حلف الناتو.

ستحاول واشنطن الخروج بصفقة مع روسيا ستكون (صفقة الممكن) لتجنّب الصدام، وهي صفقة لن تكون مقبولة من قبل تركيا والسعودية، نظراً لأن هدفيهما اوسع بكثير من شماعة محاربة داعش. فتركيا ترى الخطر الكردي السوري أكبر من خطر داعش. والرياض لا تهمها سوى الحرب لإسقاط نظام الأسد.

قد نسمع تحذيرات امريكية وغربية لكل من تركيا والسعودية، بعدم الدخول برّاً، وأنهما لن تلقيا المساعدة في هذا الشأن من حلفائهما. وحتى هذا قد لا يردع أردوغان، ولا الملك سلمان (الذي ستكون مغامرته محسوبة العواقب).

وعليه يبقى التدخل البرّي مرهوناً بعوامل ذاتية وخارجية. وأهم العوامل: اتفاق روسي أمريكي، يفسح الطريق للتدخل المحدود، في منطقة بعينها. إذ لا يخفى أن هناك اتفاقاً روسيا أمريكياً بشأن الهجمات الجوية في سوريا؛ لكن القضية تختلف تماماً بشأن الأرض، والحرب البريّة. ولا يمكن للروس ان يتفقوا مع الأمريكيين بدون العودة الى الحكومة السورية، والى الحليف الإيراني. بدون هذه الترتيبات والإتفاقات لا يمكن السماح بأي حرب برية.

هذا يستدعي سؤالاً آخر: أين ستتدخل القوات البريّة ـ بغض النظر عمّن يشارك فيها؟ فكما هو معلوم، فإن كل المناطق التي خططت تركيا لجعلها ملاذاً آمناً للمعارضة السورية المسلحة، تمّت السيطرة عليها في الاشهر الثلاثة الماضية.

من يريد حرب داعش، كما هي حجة الأتراك والسعوديين، فعليه ان يذهب الى معقلها وهي الرقّة. حيث لا توجد الا ثلاث محافظات يمكن نظريا جعلها مقراً للملاذ الآمن، وهي: الرقّة، والحسكة، ودير الزور. الحسكة تحت سيطرة الأكراد، ولا يقبل الأمريكيون مواجهتهم باعتبارهم حلفاء. ودير الزور يتقاسم السيطرة عليها النظام وداعش؛ والرقّة هي المعقل الرئيس. فهل لدى الرياض وتركيا أو حتى من اولوياتهما الذهاب الى الرقّة لقتال داعش؟ وهل تفلح قواتهما في السيطرة عليها، وتسليمها الى ما سمي بالمعارضة السورية المعتدلة؟!

سؤال ثالث: ما هو شكل العلاقات الروسية ـ السعودية؟ فالرياض لا تريد مواجهة مع روسيا، بل تسعى لتوسعة خيار مناورتها السياسية مع حلفائها الأميركيين، ولهذا أُعلن عن زيارة سيقوم بها الملك سلمان لروسيا في منتصف مارس القادم، لمناقشة امرين أساسيين: الموضوع السوري مع اغراءات سعودية اعتادت عرضها كرشوة لتغيير مواقفها؛ والآخر: موضوع أسعار النفط الذي أصاب جميع المنتجين بأزمة مالية حادّة. لكن بدا أن الأحداث السورية قد تسارعت بشكل لم تعد هناك فائدة من زيارة سلمان لموسكو، أو لم تعد موسكو راغبة في زيارة سلمان بسبب مواقفه وتوتيره للأوضاع من جديد. لهذا أعلنت وزارة الخارجية السعودية، بصورة ملتوية بأن موعد زيارة الملك لموسكو غير دقيق، ولم تطرح موعداً.

بالنسبة لموسكو فإن الرياض تقول أنها تدافع عن الحكومة الشرعية، وهذا رأي موسكو أيضاً، ولهذا اقتربت من موقف الرياض بشأن العدوان على اليمن. ولكن حين جاء الدور على سوريا، رفضت السعودية، ما فتح المجال لتغيير موسكو لموقفها من اليمن، نكاية بمواقفها. أما في الموضوع النفطي، فيبدو ان الضرر الذي أصاب جميع المنتجين من تدني اسعار النفط، سيفرض عليهم الإلتقاء وتخفيض المعروض في السوق، بغض النظر عن التوتر السياسي القائم بين ايران والعراق وروسيا وحتى فنزويلا من جهة، وبين السعودية من جهة اخرى.

الصفحة السابقة