الأمير تركي الفيصل يصافح وزير الحرب الصهيوني موشيه يعلون: ابتسامة أشد إيلاماً من رصاص الصهاينة

زندقة سياسية سعودية

دولة الوهابية: لا دينية، ولا قومية!

عبدالحميد قدس

يبدو من الصعب على أي باحث أن يحاكم الأفكار التي ترشح من كتابات الكتاب السعوديين، او التي يجهرون بها في مناسبات محددة. والصعوبة تكمن في أن الكثير من هذه الكتابات لا تعبر عن فكر بحثي مستقل، يسعى لتأصيل فكرة، او سياسة، او فرضية. بل هي في أغلبها الاعم محاولات لتبرير سياسات، وجهود لإلباسها الزي الملائم حسب المناسبة والظرف.

وتزداد المشكلة تعقيدا بالنظر الى ان سياسات الحكومة السعودية متقلبة بدورها، ومرتهنة لاستراتيجيات دولية من جهة، ومحكومة بأزمة النظام الملكي المتفاقمة، في بيئة متفجرة تتعرض لرياح عاتية، فجرها ما عرف بالربيع العربي.

فمنذ بداية عهده قبل ثلاثة عشر شهرا، ملكا على العرش السعودي، قاد الملك سلمان البلاد بأسلوب مغامر، واندفاع متهور في اتجاهات شتى. فزاد جرعة التمييز بين مذاهب ومناطق البلاد، وألغى كل بوادر التنوع والتعدد وهامش الحرية النسبي في التعبير الفضائي على مواقع التواصل الاجتماعي، وازداد التصاقاً برعاة وممثلي الوهابية، ومنح مؤسساتهم ومشايخهم وابواقهم الاعلامية مساحة غير محدودة، وسلطات شبه مطلقة.

عبّر الكثير من السعوديين عن خيبة أملهم من الانتكاسة الحادة التي أصيبت بها المملكة في عهد الملك سلمان، وخصوصا في ما اكدته جمعيات ومنظمات حقوق الانسان، من تغول على حقوق المواطنين، والتضييق عليهم، والتمادي غير المبرر في القمع وتكميم الافواه، واصدار احكام الاعدام بالجملة، او السجن لفترات طويلة، دون اي مبرر او شفافية، عبر المحكمة الخاصة التي أنشئت لمحاكمة الارهاب، ولكنها لم تحاكم الا الاصلاحيين، والمؤمنين بحرية الرأي والتعبير، والناشطين في الحراك الشعبي السلمي.

اما على الصعيد الخارجي، فقد تمثلت سياسة المملكة في قيادة الثورة المضادة، ونشر ثقافة العنف والارهاب والمذهبية، والانخراط الفعلي والواسع في حروب متناسلة، تزحف بدمارها وخرابها من بلد عربي الى اخر.. والقاسم المشترك بينها التمويل السعودي، ونشر منظمات الارهاب ذات المرجعية الوهابية، وتعزيز عناصر الاختلاف والانقسام. والاسوأ من كل ذلك، تبني النظام السعودي استراتيجية اعلامية وتعبوية تهادن العدو الصهيوني، وتتسامح مع جرائمه التي لم تتوقف ضد الفلسطينيين والشعوب العربية، وتركز على الصراع المفتعل مع ايران، على قاعدة مذهبية تستبطن كل أسباب الفتنة.

وللتغطية على هذه السياسات الاجرامية، رفع النظام السعودي لافتة (العروبة) حينا، و(الاسلام) حيناً آخر.

وفي سعيه لتأسيس زعامة له بطريقة ما في هذه المنطقة، استدعى هذا النظام العائلي الديكتاتوري شعار القومية العربية، واستفاق فجأة على انه عربي، وان العرب بحاجة الى قيادته «الحكيمة» و»الحازمة».

فعاصفة الحزم التي روج لها اعلاميو آل سعود، على طريقة الافلام الدعائية التلفزيونية، جاءت لتعيد الى العرب قوتهم ومكانتهم بين الامم، وهي اذ تبدأ في صنعاء، لن تتوقف في الشام وبغداد وبيروت، حتى تدك اسوار طهران، وبعضهم اوصلها الى موسكو.

ولعل الجانب المقزز في هذه السياسة الشوهاء، انه يجري تنفيذها تحت جناح العروبة التي بات يمثلها آل سعود، ويوزعون صكوك الإنتماء اليها على طريقة المكرمات الاميرية، باعتبارها من املاكهم الخاصة.

وهذا ما يجانب الحقيقة في ثلاثة عناوين اساسية:

أولا: ان الحركة القومية منذ انطلاقتها الاولى، سواء على يد مؤسسيها الاوائل، من امثال ساطع الحصري داعية القومية العربية، وأهم مفكريها وأشهر دعاتها، وعبد الرحمن الكواكبي، وشكيب أرسلان، في أواخر القرن التاسع عشر، وزكي الأرسوزي ومحمد عزة دروزة في أوائل القرن العشرين، وكما عبرت عن نفسها بالجمعيات والحركات السرية والاصلاحية، في بلاد العرب والمهاجر.. نشأت في كنف حركة التحرر، ورفض الاستعمار والهيمنة والتبعية، والغاء الشخصية القومية المستقلة.

وهي بذلك تتناقض جذريا وجوهريا مع طبيعة النظام السعودي، الذي نشأ في اطار التبعية للمستعمر البريطاني، والاميركي من بعده. والذي قايض الثروة الوطنية بنظام الحماية لحكم العائلة. ورهن مقدرات الدولة النفطية الاولى في العالم لمشاريع الغرب في داخل الوطن العربي وخارجه.

العروبة والقومية العربية، كانت صرخة، ثم سلاحا في مواجهة سياسة التتريك والهيمنة العثمانية، ثم صارت مقاومة لتقسيم الامة العربية، وبناء دويلات الامراء والملوك والرؤساء التابعين والمرتبطين بالالة الاستعمارية.. ولا يمكن لنظام ذيلي مستتبع يجاهر بارتباطه بالمشروع الاميركي ان يدعي قيادة حركة القومية العربية او الدفاع عن القضايا العربية.

ثانيا: ان الحركة القومية العربية، سواء بدعوتها التحررية من الاستعمار الخارجي، او بناء وتمتين اواصر العلاقة بين الشعوب والدول العربية، والعمل على تكاملها ووحدتها، واجهت في كل مراحلها السياسة، الرجعية السعودية، بل خاضت معها الحروب والمواجهات الفكرية والسياسية والعسكرية، على طول تاريخها. ولم تغب بعد آثار الصراع المدمر الذي خاضه النظام السعودي ضد الحركة الناصرية ورئيسها جمال عبد الناصر، الذي كان رمز القومية العربية في مواجهة الاستعمار الاجنبي والكيان الصهيوني.  

ولعل الموقف من فلسطين والعصابات الصهيونية دليل ثابت على تآمر النظام السعودي على كل حركات المقاومة، التي واجهت وتواجه المشروع الصهيوني الاستعماري، بدءا من النأي بالنفس عن الصراع المباشر مع هذا المشروع، او التقصير بتقديم الدعم الواجب، وانتهاء بالاصطفاف مع العدو الصهيوني بشكل صريح في حرب 2006 على لبنان وما تلاه من حروب على غزة بين 2008 ـ 2014؛ واستمرار الحصار الظالم على قطاع غزة وشعبه ومقاومته التزاما بالرغبة الاسرائيلية.

وفي السنوات الاخيرة تزايدت الاصوات السعودية، الرسمية وغير الرسمية، التي تدعو الى المصالحة مع الكيان الصهيوني، والتي تروج للتعاون معه على قاعدة وحدة الاهداف والمصالح، متجاهلة تماما حقوق الشعب الفلسطيني، وقضية القدس، والاحتلال غير الشرعي للأراضي العربية والفلسطينية.

وبصرف النظر عن التسريبات عن لقاءات على مستوى عال بين مسؤولين سعوديين واسرائيليين، والاجتماعات الامنية التي كشفتها جهات استخبارية واعلامية غربية عدة، فإن لقاءات معلنة شبه دورية بات يجاهر بها مستشارون وامراء سعوديون، لعل اخرها اللقاء بين الامير تركي الفيصل ووزير الدفاع الصهيوني موشيه يعلون في اليوم الذي كان فيه جنود الاحتلال يقتلون بدم بارد ثمانية مدنيين فلسطينيين.

هذا اللقاء، وتلك الابتسامة، التي علت وجه الامير السعودي، كما عبر احد المعلقين، كانت أشد إيلاما من الرصاص الصهيوني الذي يخترق أجساد الاطفال الفلسطينيين.

هذه الحقيقة التي لا يمكن انكارها هي قمة جبل الجليد، بحسب العديد من المراقبين، حيث ان تصريحات المسؤولين الاسرائيليين تؤكد باستمرار وجود لقاءات وعلاقات وتفاهمات مع دول عربية لا يسمونها، انتظارا للحظة المناسبة. وما من شك ان السعودية هي في مقدمة هذه الدول المعنية بالعلاقة السرية والتنسيق مع الكيان الصهيوني.

فكيف تكون حركة قومية، او قيادة عربية، وهي تصافح العدو الاول والتاريخي للعرب؟ تصافحه وتصفح عن جرائمه لمصلحة حسابات سياسية ضيقة، لا تتعدى حكم الفرد والقبيلة؟

ثالثا: ان الدولة السعودية هي في اساسها عدو لدود للفكر القومي والعروبة بمعناها السياسي التحرري. فما من شك بأن هذا الكيان الذي أنشئ في الجزيرة العربية قسرا وبحد السيف، قام على قاعدة المزاوجة بين سطوة آل سعود، وعصبية الوهابية المذهبية. واليوم كما تشير كافة الدلائل، فإن هذا العهد السلماني هو اشد التصاقا بالوهابية ورموزها على كل صعيد، باعتبارها عصاه الامنية لضبط شعوب ومناطق وقبائل البلاد وطوائفها.

واذا عدنا الى الفكر الوهابي، كما عبر عنه ابرز مشايخه في المرحلة السابقة، نجده فكرا متشددا تكفيريا بالمطلق، يرفض العروبة والقومية، فكرا وسياسة وعقيدة.

فالشيخ ابن باز المفتي العام السابق، يصف القومية في كتابه (نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع)، بأنها: دعوة جاهلية! إلحادية! تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه!.

وفي اصل نشأتها يقول ابن باز انها: (قد أحدثها الغربيون من النصارى لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره بزخرف من القول.. فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام، واغتر بها كثير من الأغمار ومن قلدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان). ويقول في حكمه النهائي عليها: (هي دعوة باطلة وخطأ عظيم ومكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله).

فماذا بعد؟ ما الذي يمكن ان يقال اكثر من ذلك؟! وكيف تكون دولة الوهابية راعية للقومية والعروبة؟

لم يبق الا القول ان من يتحدثون عن قيادة سعودية للعروبة والعرب في نهضة قومية جديدة، لا يدركون ما يقولون، او ان عليهم ان يطالبوا الدولة بالتبرؤ من الاحكام الوهابية على الفكر القومي. وان يحددوا مضمون هذه العروبة ليس فقط في علاقتها مع العدو الافتراضي الايراني، الذي يجري تكريسه لاسباب باتت معروفة، بل في علاقتها مع العدو الحقيقي الذي يحتل الارض والمقدسات، وينتهك حرمات ملايين الفلسطينيين والعرب باستمرار، وعلاقتها مع القوى الاستعمارية التي دمرت دولا عربية في العراق وليبيا والسودان، ومزقتها او تحاول تمزيقها وتقسيمها، وتمنع بالقوة محاولات النهوض القومي والاستقلال الفعلي والتقدم الصناعي والعلمي في بلاد العرب.

ان هذه الزندقة السياسية السعودية في المسألة القومية، تشبه الى حد بعيد دعواتها الاسلامية.

فكما ان العروبة السعودية تجسدت في اول تعبيراتها بقصف وتدمير بلد عربي اصيل، هو بلاد الايمان والحكمة، فقتلت شعبه، ومحت معالم واسعة من تراثه المعماري والثقافي، وأخّرت نموَه عشرات السنين، وبالتآمر العلني واستدعاء القوى العالمية لتدمير عاصمة الامويين وقلب العروبة النابض، كما سبق ان تعاونت وسهلت تدمير العراق.. فإن الاسلام السعودي يأتي بمضمون مذهبي مقيت، ينشر الخلاف بدل الوحدة التي دعا اليها الاسلام، ويعزز الخصام والفرقة بين مكونات ومذاهب هذه الامة، بدل الوئام والالفة، ويشيع التكفير واباحة دم المخالف للوهابية، بدل التسامح والمجادلة بالتي هي احسن، وهو المنهج القرآني والنبوي الاصيل.

ومن هنا فليس من المستغرب ان نجد المبادرات السعودية قد ماتت قبل ولادتها، فالتحالف العربي الذي أقيم للعدوان على اليمن، لم يتجسد ميدانيا، بل حل محله تحالف سعودي مع مرتزقة السنغال والنيجر وبلاك ووتر، وما تيسر من شذاذ الافاق.. يخوضون حربا شعواء تقودها غرف عمليات بريطانية واميركية.

اما التحالف الاسلامي العسكري لمحاربة الارهاب، فقد انتهى بعد كل الضجيج والتهديد، الى تسليم الامر للقرار الاميركي الذي يحدد حجم المشاركة وتوقيتها.

وهذا مما لا شك فيه امر معيب، فليس هكذا تكون القيادة التاريخية، التي تتنطح لها دولة آل سعود، التي تقزمت لتصبح دولة المحمدين، بل دولة مراهق جامح كما وصفته صحف عالمية مرموقة.

فالشرط الاول لمن يريد ان يشكل قيادة عربية، ان يتبنى القضايا العربية المعروفة، والتاريخية المتفق عليها، لا ان يجير العرب لصالح مشروع انتحاري تقوده الأحقاد لا العقل ولا المصلحة.

والشرط الاول لمن يريد ان يقود الامة الاسلامية، ان يتمثل بوسطية الاسلام، وان يكون على مسافة واحدة من مكونات هذه الامة، وهذا لا يكون لدولة تتبنى مذهبا يكفر كل من عداه، ويبيح دم كل من يكفرهم من المسلمين ناهيك بأتباع الديانات الاخرى.

هذه الفوضى والاستخفاف بالمبادئ، يعتبرها البعض بهلوانية وصبيانية سياسية لإرضاء غرور بعض الامراء.. والبعض الاخر يرى انها استكمال للمشروع الوهابي، في تمزيق وحدة الامة.. وفي الحالتين تقوم التجربة السعودية على ابتذال المفاهيم والقيم الفكرية والسياسية، بحثا عن اي رداء يغطي عورة نظام سياسي يعود للقرون الوسطى، ويفرض سلطته بالدعم الاجنبي والعنف الاعمى.

الصفحة السابقة