ترحيب كبير انتهى بأزمة

الملك سلمان يثير عاصفة قلق في مصر

محمد شمس

الحديث عن زيارة تاريخية يقوم بها الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز الى مصر فيه معنيان. فإذا كان المقصود انها المرة الاولى في السنوات الماضية التي تتم فيها زيارة بهذا الحجم وهذا التركيز، فهو امر مقبول وقابل للنقاش. اما اذا كان المراد القول انها ستغير اتجاه التاريخ بين البلدين والمنطقة، فإنها مبالغة لا يمكن التسليم بها، ومن الافضل لهواة التضليل الاعلامي او تضخيم الاحداث، ان يكفوا عن هذا الامر لأنه سينعكس خيبة كبيرة على كل من يصدق هذا الاعلام.

اذا كانت الزيارة تستهدف تعزيز مكانة وقوة البلدين في مواجهة التحديات الموضوعية التي يتعرضان لها، فهي حق من حقوقهما، اما اذا كانت للدعاية والاستغلال السياسي المرحلي، دون اي رؤية مستقبلية ودراسة واقعية للامكانات والحاجات، على غرار ما جرت عليه العادة في القمم والتحالفات والاتفاقات، بل واعلانات الوحدة التي عرفها تاريخ الزعماء العرب في العقود الماضية، فإنها ايضا ستشكل صدمة إضافية تزلزل الثقة بهذه الانظمة وهذه القيادات.

لا بد من الاشارة بداية، الى ترحيب الاكثرية الساحقة من أبناء الامة بأي دعم للاقتصاد المصري، وسعي لانقاذ مصر مما خطط لها في هذا الربيع، الذي نجت منه حتى الان جزئيا، فلم تقع في اتون ما وقعت به حواضر عربية اخرى من حروب تدميرية وتمزيق لوحدة الدولة والشعب، ساهم بجزء كبير منها النظام السعودي ذاته الذي يأتي الان ليقطف ثمرة ضعف الدولة المصرية.

كما سيكون موضع ترحيب اذا ما قررت السعودية الدخول الى نادي الدول الاقليمية من البوابة المصرية، اي بوابة الاعتدال السياسي، ورفض التعصب والفتنة المذهبية، والحرص على المصالح الجامعة للأمة.

اما اذا كانت السعودية، وعبر هذه الزيارة، ترغب في استغلال الوضع الصعب للدولة المصرية، وما تعانيه في حربها المزدوجة ضد الارهاب والازمة الاقتصادية والمعيشية.. فإنها في ذلك ستحصد الفشل في تحقيق هدفها، لأنه من الصعب على الشعب المصري، بل اي شعب آخر، أن يقبل امتهان كرامته لأي سبب من الاسباب، حتى لو كان الخطر الارهابي او الحاجة الاقتصادية الماسة.

ولكن لماذ نضع دائما الاحتمالين في توصيف محطات هذه الزيارة؟

ببساطة لان الامور فعلا تحتمل هذه الاشكالية!

ففي الاطار التاريخي الذي جاءت فيه الزيارة، نجد انها لم تأت بعد تسلسل طبيعي متدرج في تحسن العلاقة بين الدولتين والنظامين. بل هي تمت إثر جدل وتجاذب استمر في الاسابيع والاشهر الماضية، حول امكانية حدوثها. اذ سبقت الزيارة بأيام فقط أنباء شبه رسمية من الجانبين، تؤكد طغيان الخلافات بينهما، واستبعاد قدوم الملك سلمان الى القاهرة.

كما ان الخطوط العريضة لسياسات البلدين حيال مواضيع إقليمية ومحلية متفجرة، كانت تشير الى خلافات واضحة وتباعد في الرؤية، بين ما تريده السعودية وما تقبل به مصر.. بدءا من العلاقة بالاخوان المسلمين، وانتهاء بالحرب على سوريا وافاق الحل فيها، مرورا بالعراق والحرب على الارهاب، والحرب على اليمن، والاحلاف التي اعلنت عنها السعودية تباعا في الاشهر الماضية.

ومثال ذلك القريب هو موقف الحكومة المصرية من المقاومة في لبنان وحزب الله. فبعد ان صدر قرار المجلس الوزاري للجامعة العربية بالاذعان لتصنيف السعودية للمقاومة منظمة ارهابية، في الحادي عشر من مارس الماضي، عاد وزير الخارجية المصري سامح شكري للقول في الثامن والعشرين من الشهر ذاته، إن تصنيف الجامعة العربية لحزب الله اللبناني على أنه إرهابي، مرتبط بتوصيف بعض التصرفات فقط، وليس إقرارا بهذه الصفة على الحزب.

الا ان مصر قدمت هدية ثمينة للسعودية، مع تأكيد حصول الزيارة، بوقف بث قناة المنار على قمر النايل سات، قبل يوم واحد من وصول الملك سلمان الى القاهرة، في السابع من الشهر الجاري.

هذا التذبذب في الموقف المصري يؤكد ان لا اتفاق مبدئيا بين الدولتين في السياسات الاقليمية، وان الامر لا يتعدى اطار الصفقات وبيع المواقف المتبادلة.

وما يؤكد هذه الرؤية النفعية والارتجالية، هو الخطاب الذي القاه الملك سلمان امام البرلمان المصري، والتصريحات الصادرة عنه طيلة فترة الزيارة.

ان منشأ القلق من أي تحالف مع السعودية، هو ما عرف من سياستها المغامرة في السنة الماضية، منذ قدوم الملك سلمان الى السلطة. اذ يتفق المراقبون على انها كانت سياسة عدوانية ومذهبية، وتسببت بالكثير من المآسي والخراب والضحايا في اكثر من بلد عربي، وخصوصا في اليمن وسوريا والعراق وليبيا، دون ان نستثني مصر ايضا.

لم تجد السعودية اي دعم لها من مصر في الواقع، باستثناء المجاملة اللفظية والاعلامية، حرصا من القيادة المصرية على تجنب غضب السعوديين الذين لا يتوانون عن معاقبة العمال المصريين، او دعم الجماعات الارهابية في مصر، اسوة بما يفعلونه في دول اخرى. كما ان القيادة المصرية ربما كانت تراهن على اللحظة التي تعود فيها السعودية الى السلوك كدولة مسؤولة.

الحكومة المصرية لم تذهب الى حد المشاركة في سفك الدم اليمني، ولم تشارك في العدوان السافر على الجار الفقير والمتواضع، كما انها رفضت الانسياق وراء الدعوات السعودية لتحريض العالم على النظام السوري، واكدت وقوفها مع الدولة السورية ضد اي تدخل اجنبي، سواء عبر مجاميع الارهابيين او عبر الجيوش الاجنبية.

وكان واضحا ان السياسة السعودية المغامرة، تعتمد على محورين للتوسع وقلب الموازين في المنطقة: التحريض المذهبي، والدعوة العلنية لتحالف سني ضد ما تتوهمه دولة الامراء من محور شيعي، من جهة، ودعم وتغطية التنظيمات الارهابية التي تمعن في تفتيت المجتمعات والدول التي تعتبرها السعودية جزءا من المحور الشيعي.

وحتى اليوم لا تزال وسائل الاعلام السعودية تسمي ارهابيي النصرة وداعش في العراق وسوريا ثوارا عندما يقتلون مواطنين وعسكريين مؤيدين للنظام في كل من البلدين.

الا ان مصر نأت بنفسها تماما في الفترة الماضية عن هذا النهج الخطير، والذي ينذر بحروب ابادة تحت مسميات مختلفة، وكانت السياسة المصرية واضحة في الدعوة الى وأد الفتنة، وانهاء الحروب، وتسوية الخلافات بالحوار، وحل الازمات الداخلية بما يحافظ على وحدة وسيادة الدول المعنية.

ولطالما اعربت مصر، عبر اعلامها ومسؤوليها، عن تنديدها ورفضها للسياسة السعودية الساعية الى اقامة التحالفات المذهبية، والمتغاضية عن الارهاب لاهداف سياسية، والمتماهية مع السياسات الصهيونية والغربية التي تستهدف المنطقة.

 
دكتوراة ووسام أعلى.. ما المقابل؟

واكثر ما كان يزعج صانع القرار المصري، هو القفز السعودي غير المنتظم في العلاقات، والتأرجح بين الاقليمي والإسلامي والعربي.. فقد سعت السعودية الى التقرب من الاخوان المسلمين لأهداف انتهازية، وهي تأمل استغلال العلاقة بهم لتبرير زعامتها الاسلامية، وسرعان ما كانت تتراجع عن هذا الاتجاه، لمصلحة العلاقة مع الامارات.. لتذهب باتجاه تركيا محاولة اضافتها الى الدول الداعمة لها، ثم تتراجع بعد ان تدرك ان تركيا ذات اهداف توسعية تتعدى الاهداف السعودية ذاتها.

وفي كل هذه التقلبات السعودية كانت مصر تراقب، بقلق واشمئزاز، وهي تعرف ان ما يحرك حكام الرياض هو رغبتهم في التزعم ومواصلة حروبهم الفاشلة في المنطقة، حتى ولو كان ذلك على حساب القيم والامن القومي العربي، الذي تتمسك به القاهرة بشدة.

تؤكد المرحلة الماضية حقيقة التباعد بين البلدين في مجمل القضايا السياسية، على عكس ما تحاول ان تظهره الزيارة الاخيرة للملك سلمان من انسجام وتكامل بين البلدين.. مع العلم اننا نتكلم هنا عن نظامين سياسيين، وليس عن البلدين كواقع تاريخي وجغرافي، من البديهي ان يكون التعاون والتكامل بينهما من بديهيات السياسة.

لذا فقد صار السؤال منطقيا: كيف امكن التقاء الدولتين والسياستين بحسب ما جاء في البيانات والمواقف المعلنة بعد هذه الزيارة؟

هل تراجعت مصر عن اعتدالها؟ ام تخلت السعودية عن نهجها التكفيري الاستعلائي في التعامل مع الاخرين؟ هل خضعت مصر للاملاءات السعودية وقررت السير في المغامرة غير المحسوبة لاشعال حروب الفتنة والصراع غير المجدي بل المدمر في منطقة لا ينقصها اسباب الصراع، ام انها وصلت الى الحائط المسدود وبدأت تبحث عن سلم للنزول عن الشجرة والحفاظ على ماء الوجه عبر التنسيق مع مصر؟

ام انها واحدة من الخبطات العشوائية التي ميزت المبادرات السعودية طيلة العام الماضي، والتي تموت قبل ان يجف حبر كتابة اتفاقاتها، ولا يبقى الا جعجعة الاعلاميين الذين نسوا ما قالوه عن عاصفة الحزم والتدخل البري في سوريا، ولم يكلفوا انفسهم السؤال: ماذا حققت حرب العدوان على اليمن غير المجازر والالام؟ ألم يكن بالامكان الحصول على نتائج افضل بالحوار والتفاهم مع اليمنيين؟

بصراحة.. لا يمكن الجزم بما تفكر به القيادة السعودية، فهي قيادة مأزومة وعاجزة، تتنطح لمهمات كبرى بوسائل بدائية ووحشية في اغلب الاحيان.

الملك سلمان في البرلمان

ما يمكن ملاحظته هو خلو الكلمة التي القاها الملك سلمان في البرلمان المصري، من اي ذكر للاهداف السعودية المعلنة في وسائل الاعلام، والبحث عن القضايا العامة والجامعة بينه وبين مصر.

فقد تحدث الملك السعودي عن القضية الفلسطينية التي تتطلب وحدة الصف والعمل الجماعي، وعن محاربة الارهاب وضرورة القضاء عليه، فكريا وعسكريا وماليا، وهو ما يبرر الاعلان عن التحالف الاسلامي لمحاربة الارهاب الذي سبق ان طرحته السعودية وتكفلت بتمويله.

وهذا الحديث لا يعني شيئا كثيرا في واقع الحال، اذ انه مجرد شعارات بحاجة الى الكثير لتصبح سياسات، في ظل الخلاف على تعريف الارهاب، والتمويه المكشوف على الدور السعودي الاساسي في خلق هذا الارهاب فكريا، وتمويله وتشجيعه بالفتوى الوهابية الجاهزة.. ومثل ذلك الاشادة التي قدمها الملك السعودي للبرلمان المصري ودوره في تشكيل وجه مصر وتاريخها الحضاري.. فالسعودية تبقى رغم ذلك عدوة الديمقراطية الاولى وهي تحرم وتجرم اي مشاركة شعبية في داخلها ولمصلحة شعبها.

كما انه لا معنى للحديث عن القضية الفلسطينية، في ظل السياسات السعودية المتجاهلة تماما لهذه القضية، والمعادية للمقاومة الفلسطينية ضمن عدائها لكل مقاومة.

الا ان ما يمكن التوقف عنده بجدية هو: تعزيز التعاون والعمل المشترك مع مصر على المستوى الاقتصادي، وامكان انتهاج السعودية سياسة للاستثمار، تعوضها خسائرها الفادحة من هبوط اسعار النفط التي حاولت به احراج الاخرين.

مخاطر الفشل وشروط النجاح

لكي نحكم على امكانية نجاح هذه المغامرة السعودية الجديدة، يجب العودة الى مسلسل الفشل الذي حكم الاستراتيجية السعودية في الأشهر الماضية. فالسياسة السعودية في الملف السوري، والتي كلفت المملكة مليارات الدولارات، انتهت بخروجها جزئيا من دائرة القوى المؤثرة، رغم احتفاظها بورقة جزء من المعارضة التي لا تعرف ما تريد، والتي تنتظر الاوامر الاميركية لا السعودية.

وباستعراض سريع لمجمل الشعارات السعودية في السنوات الخمس الماضية، والاتجاهات التي دفعت بالازمة في اتجاهها، يمكن الاستنتاج ان السعودية فشلت في اسقاط النظام، وابعاد الرئيس الاسد، كما فشلت في جر الولايات المتحدة الى التدخل المباشر لضرب الجيش السوري، وتدمير الالة العسكرية السورية التي تحمي النظام، وفشلت في تحريض تركيا على الدخول المباشر على خط الازمة، واخيرا بدا الاعلان عن استعداد السعودية للتدخل البري في سوريا اشبه بالمهزلة التي اثارت السخرية، ولم يتعامل معها احد بجدية.

باختصار، فإن السعودية اليوم هي لاعب هامشي في المسرح السوري، وتكتفي بدور المعرقل والمشاغب الذي يعمل لتحسين شروط التفاوض الاميركي مع روسيا.

الا ان الفشل الاكبر في السياسات السعودية الخارجية تمثل بالعدوان على اليمن، حيث لم تتمكن الوحشية والقتل والمجازر من تحقيق اي انجاز في الازمة، ولا تزال القيادة اليمنية العميلة للسعودية في الرياض، تعاني الكسل والفشل، بينما تقلب السعودية اوراقها، فتتحالف مع هذا يوما ومع نقيضه يوما آخر، وهي في النهاية لم تجد لها حليفا الا جماعة حزب الاصلاح، وخلايا القاعدة في الجنوب.. وتجد نفسها مضطرة للتفاوض مع انصار الله الحوثيين والمؤتمر الوطني الذي يقوده الرئيس السابق علي عبد الله صالح.. والاحتمالان المتوقعان هما: استمرار الحرب التي تستنزف قدرات السعودية المالية والعسكرية وتشوه سمعتها الخارجية، او العودة الى نقطة الصفر، والتفاهم مع اليمنيين بناء على موازين القوى اليمنية وليس الرغبات السعودية.

ايضا، ولم تكن القضية الفلسطينية يوما على الاجندة السعودية، ولكنها كانت اكثر غيابا في السنوات الماضية. وانسحبت السعودية من لبنان، بعد ان فجرت صراعا غير مبرر مع شعبه وجيشه وحكومته، لارضاء نزعة الحقد ضد أحد مكوناته، ولتعميق حدة الصراع المذهبي في المنطقة.

 
السيطرة الوهابية على الأزهر

والحقيقة ان السعودية لم تحقق اي نجاح في اي ملف تدخلت فيه، وهو ما انعكس فشلا مدويا على صعيدين: علاقاتها مع الدول الراعية لها على المستوى الدولي، وفشل مبادرتها المتتالية لانشاء تحالف عربي مرة، واسلامي مرة أخرى، وتقديم نفسها مركزا لمحاربة الارهاب على الصعيد الدولي مرة ثالثة.

امام اسباب هذا الفشل متعدد الرؤوس، فيمكن ايجازها بالتالي:

■ عدم نضوج القيادة السياسية السعودية، واستعجالها طرح نفسها قيادة اقليمية او دولية، بحسابات محلية وقبلية محض.

■ التسرع في طرح المشاريع، واخذ المبادرات للعمل المشترك، دون استشارة اصحاب المصلحة، ودون التعمق في طرح المشاريع وايفائها حقها من الدرس واستجماع عناصر القوة والنجاح.

■ النظرة الاستعلائية التي تتعامل بها السعودية مع الاخرين. فكما ان مواطنيها رعايا وليسوا مواطنين، فإن الشعوب الاخرى هي في مرتبة دونية، وكل الناس، في اعتقاد الامراء، بحاجة الى مال السعودية. وبالتالي فلا يفهم هؤلاء منطق الندية، وهو جوهر العمل المشترك.

■ العقلية السعودية محكومة بذهنية الصراع المذهبي، وهي تبعا لطبيعة النظام والقوى التي يستند اليها في الداخل، لا تنظر الى الدول العربية والاسلامية، الا من خلال كونها مذاهب وطوائف.. لأن هاجس الصراع المذهبي يهيمن على الفكر السعودي، وهي ترى نفسها تملك النقاء العقائدي والديني وعلى الاخرين اتباعها. وعلى المستوى الاستراتيجي، دفعت السعودية باتجاه تعميق الصراعات المذهبية والخلافات بين الطوائف المنتشرة في عموم المنطقة منذ مئات السنين، وكرست السياسة السعودية العداء لايران من منطلقات مذهبية محضة، وجعلته في جوهر اجندتها الخارجية والداخلية، وصنفت على اساسه القوى والدول، وشنت الحروب الاعلامية الباهظة الكلفة لتعميق الفرز المذهبي بين الشيعة والسنة.

■ لقد مارست السعودية الصراع عبر الادوات الارهابية منذ عقود عدة، وكانت مع المخابرات الاميركية رائدة في بناء جيش من الارهابيين (الذين سمتهم مجاهدين)، لشن الحروب في الصومال والسودان وافغانستان والعراق.. وفي سوريا والعراق اليوم النسخة المتطورة من هذا الارهاب، القائم على الفكر الوهابي التكفيري الذي يبرر القتل بسهولة ما بعدها سهولة، ولديه وصفات وفتاوى جاهزة لتصنيف الناس والقتل الوحشي بمبررات لا يقبلها العقل، كما ان السعودية خبيرة بتمويل هذه الجماعات من اموال المساجد والمؤسسات الدينية التي تفرخها في كل مكان من العالم.

■ ومارست السعودية في السنوات الاخيرة نفوذا اساسيا عبر هذه القوى المتطرفة في الدول الاسلامية، واستقطبت قطاعات واسعة من المتدينين والفئات الشعبية، كما انها باتت تشكل مراكز ضغط ضد الانظمة المعروفة في اعتدالها، بدءا من اندونيسيا وماليزيا الى باكستان وافغانستان ونيجيريا والدول الافريقية، ناهيك بالعالم العربي. وهنا لا بد من الاشارة الى الحضور السعودي الفاعل في مصر عبر هذه الجماعات والمؤسسات المرتبطة بها.

فالسعودية ببساطة تريد فرض زعامتها على المنطقة، ولا تتعفف عن اي وسيلة لبلوغ هذا الهدف.. وهذا ما انتهى بكل مشاريعها الى الفشل.

والسؤال هو: هل تعلمت السعودية من تجاربها وباتت اكثر نضجا، للتعامل مع الاخرين بمنطق الشراكة واحترام الاخر والمصالح المتبادلة؟

ان الاجابة على هذا السؤال تحكم مستقبل علاقاتها مع مصر، وليس الاتفاقيات والوعود، ولا شهادة الدكتوراه الفخرية والدروع التكريمية والحفاوة التي يمكن مسح غبارها بسهولة بالغة.

حقيقة الدعم السعودي

هل قدمت السعودية فعلا الدعم لمصر على المستوى الاقتصادي؟

كان الحديث سابقا يدور حول هذا السؤال عند تناول العلاقة بين السعودية واي دولة أخرى.. فالسعودية دولة مانحة للمساعدات، تمتلك فائضا ماليا هائلا، ويمكنها بالفعل ان تمد يد العون في الازمات، او عبر الاتفاقيات لتطوير وتدعيم الانظمة الاقتصادية للدول الشقيقة والصديقة.

ولكن السعودية لم تفعل ذلك في الماضي، في اي مكان في العالم، ولا يعرف اي نظام عربي ان المساعدات السعودية ساهمت في احداث نهضة اقتصادية، او اقامة مشاريع تنموية حقيقية.

لقد اقتصرت تلك المساعدات في حال حدوثها، في الستين عاما الماضية، وإبان الطفرة النفطية خصوصا، على مجرد رشى لتلميع وجه النظام، او وسيلة سياسية لدعم الحلفاء وقهر الخصوم، او استجابة شكلية لضغوط دولية.

والامثلة على ذلك كثيرة، بل اكاد اجزم بأنها سمة دائمة للمال السعودي، الذي ذهب بالمليارات الى العراق لتمويل حروبه على جيرانه وشعبه ابان حكم صدام حسين، ولسوريا لنشر الفوضى وتمويل الحرب الاهلية والحروب الارهابية فيها.. وفي لبنان لتمويل الانتخابات او شراء ذمم الزعماء والمسؤولين، او لتمويل الجماعات المذهبية المتشددة في مصر وتونس والجزائر وليبيا والمغرب.. وصولا الى نيجيريا.

كان ذلك مع وجود الفائض المالي المتراكم جراء اسعار النفط العالمية، فلا شيء يدعونا الى انتظار غيره في فترة تراجع الاسعار، وشح الموارد، والعجز في الموازنة السعودية ذاتها.

لقد قصر المال السعودي في احداث التنمية المطلوبة داخليا وعربيا على امتداد المرحلة التاريخية الماضية. وهذه حقيقة لا مجال للجدل فيها. اما الاسباب فهي تحتاج الى بحث مستقل، لان الامر لم يكن صدفة بل هو في اطار الوظيفة السياسية لهذا النظام والثروات الوطنية.

هذا اذا افترضنا حسن النية بالمطلق، وهو ما يحذر منه محللون مصريون يعتقدون ان العلاقة بين السعودية ومصر لا تسير على هذا المنوال في المطلق، بل هي علاقة تودد وقلق في الآن ذاته.

اذ ان السعودية التي ترغب باستمرار في الاستفادة من مكانة مصر وقدراتها البشرية والاعلامية والسياسية، عطفا عن مكانتها الدينية وما يمثله الازهر الشريف الذي يمتد تأثيرة الى مختلف الدول الاسلامية والجاليات الاسلامية في الخارج، ويستقبل الآلاف من طلاب العلوم الدينية من كل ارجاء بلاد المسلمين.. السعودية التي ترغب في الاستفادة من هذه القدرات المصرية، هي في الوقت ذاته تتوجس ريبة من الدور المصري الذي سيأكل من حصتها وسيكون على حساب دورها وتأثيرها في الميادين كافة.

وعلى مدار العقود الماضية، حافظ حكام السعودية على علاقة تودد مع مصر لتجنب خطرها كما يتوهمون دائما، الا انهم حافظوا ايضا على المسافة التي تبعدهم عنها سياسيا ودينيا.

ولكن انهيار النظام المصري، واجواء المرحلة التي سميت الربيع العربي، وما أشاعته من اندفاعة في الحركات الاسلامية وسيطرتها على المشهد السياسي، وما صاحبها من فراغ في السلطة المصرية، اثار شهية النظام السعودي ليتمدد في مصر وهو يرى دولة مثل قطر تقود الحراك السياسي فيها، ويعمدها الاخوان المسلمون زعيمة للمنطقة.

وبالنظر الى طبيعة العقلية السعودية، فإن ما يمكن قوله انها اليوم ترغب في احتواء مصر الضعيفة، وهي تريد فعلا ان تحافظ عليها بهذا الضعف والتفكك السياسي والانهيار الاقتصادي لتسهل السيطرة عليها.

واكثر ما تخشاه السعودية ان تعود مصر الى وضعها الطبيعي، وقدرتها العسكرية والاقتصادية وتماسكها السياسي.. اذ لا يمكن لأي محلل ان يصدق ان مصر التسعين مليونا، وذات القدرات العسكرية والامكانات العلمية والادبية والفنية، ان تنضوي تحت قيادة دولة لا تملك مقومات القيادة والريادة في اي مجال.

فمصر الضعيفة هي مصر الحليفة بالنسبة للسعوديين، ومصر القوية هي مصر المخيفة.

جسر الملك سلمان وهوية الجزيرتين

 
باع السيسي الجزر على السعوديين وانفجر المصريون بوجهه

لعل ما فعله الملك سلمان اثناء زيارته الى مصر تطبيق للمثل الشعبي: جاء ليكحلها فعماها.. اذا انه في خضم التطبيل والتهليل للمساعدات الاقتصادية وانقاذ الاقتصاد المصري، اقدمت السلطات المصرية على خطوة تنبئ بنتائج خطيرة في المستقبل القريب، بدأت تباشيرها تظهر على الفور.

والقشة التي قصمت ظهر البعير السعودي، هي اصرار الرياض على اقتناص جزيرتين مصريتين في البحر الاحمر هما صنافير وتيران. تنازلت عنهما الحكومة المصرية، وجرى تمرير الصفقة في اطار الحديث عن بناء جسر الملك سلمان بين شرم الشيخ المصرية وتبوك السعودية، مرورا بالجزيرتين المعنيتين.

الصفقة التي وصفها المعلقون المصريون بالمشبوهة وغير الشرعية، اثارت عاصفة عاتية من ردود الفعل لم تهدأ منذ لحظة اعلان الخبر. وتوالت الردود من مختلف قطاعات وفئات الشعب المصري.

فقد دعا المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي، الرئيس عبد الفتاح السيسي والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز إلى سحب توقيعهما واعتبار اتفاقية ترسيم الحدود البحرية كأن لم تكن، وقال إن جزيرتي تيران وصنافير جزء لا يتجزء من إقليم الدولة المصرية بموجب اتفاقية اول أكتوبر 1906 بين الدولة العلية العثمانية ومصر الخديوية، بينما لم تنشأ الدولة السعودية ككيان الا في العام 1932 وبعد احتلال آل سعود للحجاز.

رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة الاسبق اللواء عبد المنعم سعيد، اكد ان الجزيرتين مصريتين، وان القوات المسلحة المصرية موجودة فيهما باستمرار وحتى الان.

وتساءل محللون عن سبب فتح هذا الملف دون غيره من الملفات التاريخية: فهل كانت هناك ازمة بين مصر والسعودية على الجزيرتين؟ من المؤكد انها لم تكن، والدليل ان العلاقة بين البلدين كانت ممتازة في جميع المراحل ايام الملوك السابقين والرؤساء اللاحقين حتى عهد مبارك والى اليوم، ولم يثر هذا الامر ولو لمرة واحدة. وكما قال احد الباحثين انه من بين مئة وثلاثة وعشرين نزاعا حدوديا عربيا عربيا، لم تكن الجزيرتان من بين هذه النزاعات.

وفي بيان رسمي قالت جماعة الإخوان المسلمين انه «لا يحق للملك سلمان أن يستغل الإنقلابيين ويحتل الجزر المصرية».

وأضافت الجماعة أنه لا يحق للسعودية وللملك سلمان احتلال المناطق المائية في مصر وما فيها من غاز وغيرها لتعطي مصر فقط الفتات. واعتبرت التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، مقدمة للتفريط في مقدرات اخری للشعب المصري.

وتقدم المحامي الحقوقي خالد علي، بطعن أمام مجلس الدولة ضد قرار التوقيع على اتفاقيه ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، وما ترتب عليه من تنازل عن السيادة الوطنية بالتنازل عن جزيرتي صنافير وتيران، وأكد فيه أن التنازل مخالف للدستور، وأنهما تتبعان مصر حصرا.

كما أعلن المحامي الحقوقي طارق العوضي، عن البدء في جمع عدد من التوكيلات القضائية؛ لرفع دعوى ضد الحكومة تحت عنوان: لا لبيع تيران وصنافير- أرضنا عرضنا.

 وبالنظر الى ردة الفعل الشعبية، ومواقف القوى السياسية من مختلف الاطياف المصرية، فإن هذه الاتفاقية تحولت الى نقطة ضعف للنظام، وجردته من هيبته الوطنية التي كان يقابل بها خصومه، زاعما ان النظام السابق كان يريد بيع قناة السويس وماسبيرو لقطر، وهذا ما نفاه الرئيس السابق محمد مرسي حينها، وها هو الرئيس السيسي يفعلها، ويتنازل عن ارض مصرية مقابل الدعم المالي.

ولعل البعض يتساءل عما اذا كانت السعودية قد تقصدت ذلك، لاضعاف النظام المصري وإبقائه رهين الحاجة اليها، تماما كما تفعل مع الانظمة الاخرى في المنطقة التي تزرع فيها اسباب الخلاف والصراع، لتفتيتها سياسيا، ان لم يكن جغرافيا.

العلاقة مع اسرائيل

لا شك ان الكيان الصهيوني يتربص في كل ما يجري في المنطقة، ولفت المراقبون ان جسر الملك سلمان كان في العام 2007 جسر الملك عبدالله عندما ارادت السعودية اقامته في عهد الرئيس حسني مبارك. وهو مشروع قديم يعود الى ثمانينات القرن الماضي. الملك فهد بن عبد العزيز كان أول من طرح الفكرة عام 1988، خلال القمة التي جمعته بالرئيس المصري حسني مبارك، ليتراجع الأخير عن الفكرة بعد أيام.

وفي العام 2007، أعادت وسائل الإعلام السعودية طرح المشروع، ومجدداً جاء الرفض على لسان مبارك بحجة أنها ستؤدي إلى الاضرار بالمنشآت السياحية في شرم الشيخ. يومها عزا المحلل السياسي بمركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية عمرو الشوبكي موقف مبارك إلى أسباب أبرزها الضغوط الإسرائيلية والأميركية الهائلة للحيلولة دون تنفيذ المشروع، موضحاً أن إسرائيل تعتبر إنشاء هذا الجسر خطراً على أمنها الإستراتيجي.

وتزامنت تصريحات مبارك مع تهديدات نشرها موقع “ديبكا” الاستخباراتي والذي هدد بإمكان تفجر صراع مسلح، مذكراً بأن إسرائيل أعلنت الحرب عام 1967، عندما أغلق عبد الناصر مضيق تيران.

بعد إسقاط الرئيس مبارك، تحديداً في العام 2012، عادت وسائل الإعلام السعودية للحديث عن ربط السعودية ومصر بجسر الملك عبدالله، بكلفة مبدئية تبلغ 3 مليارات دولار. الإذاعة الإسرائيلية علقت على المشروع يومها، ورأت فيه تهديداً استراتيجياً للكيان ومخالفة للاتفاقية التي وقعتها مصر (كامب ديفيد).

لذا، فقد كان لافتا ان يمر المشروع اليوم باسم جسر الملك سلمان دون اعتراض اسرائيلي.

وبحسب «مجتهد»، المغرد السعودي الشهير، فإن الكيان الصهيوني وضع شروطاً للسماح بتشييد جسر يصل بين السعودية ومصر. من هذه الشروط أن تراقب اسرائيل كل مراحل التشييد، وأن تشارك في إدارته، مضيفاً أن «السعودية ومصر وافقتا على تلك الشروط». اما موقع «الخليج أفيرز» فتوقع ان تكون تلك الجزر بوابة للتفاوض المباشر بين السعودية وإسرائيل، خصوصا في ظل انباء متواترة عن لقاءات بين الجانبين في الاشهر الماضية، للتنسيق في المجالات الامنية والسياسية.

وقال الخبير السياسي المصري محمد سيف الدولة، إن تنازل مصر عن جزيرتي «تيران» و»صنافير» للسعودية بموجب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة بينهما مؤخرا، يعني أن تصبح السعودية في هذه الحالة شريكا في الترتيبات الأمنية في اتفاقيات التسوية السياسية بين مصر و «إسرائيل» والمعروفة باسم «كامب ديفيد»؛ وهو ما اكدته صحيفة هآرتس الاسرائيلية في الثاني عشر من الشهر الحالي وقالت ان إلتزام السعودية بالاتفاقيات حول جزيرتي صنافير وتيران يعد بمثابة اعتراف غير رسمي باتفاقيات كامب ديفيد. ليظهر بعدئذ تصريحات وزراء صهاينة تقول بأن الرياض قدمت تعهداً مكتوباً لاسرائيل بأنها ستحافظ على حماية الممر المائي.

ما هي محصلة هذه الزيارة؟

الحكم على نتائج الزيارة الملكية لمصر بشكل دقيق يحتاج الى وقت اضافي حتى تهدأ الضجة الاعلامية الغوغائية التي رافقتها. الا ان المشهد الجدير بالملاحظة والذي ينبئ بمسار الاتفاقيات التي اعلنت خلال زيارة الملك السعودي، يمكن استقراؤه من مقارنة بسيطة، بين دخول الملك سلمان الى القاهرة وخروجه منها.

فقد غابت مظاهر الحفاوة والترحيب، ولم ينتبه المصريون الى مراسم الوداع، بعكس ما كان عليه الحال لدى استقبال الضيف السعودي وما توهمه المصريون من نتائج وثمار لزيارته.. فاستبدلوا الترحيب بالاتهامات له وللنظام ببيع ارض مصر والمتاجرة بحقوقها، وبأن المملكة تريد ان تتزعم المنطقة وهي راكبة على اكتاف مصر، بعد ان عجزت عن تحقيق اي انجاز بقوتها الذاتية، وهي خسرت اغلب علاقاتها بالدول العربية، وباتت مهجوسة بالقوة العسكرية، والتفرد بالقرار والزعامة.

مصر اليوم مشغولة بمعالجة الاثار السيئة لزيارة الملك السعودي، بدل حساب الفوائد التي جنتها، وجميع المصريين يشعرون بالجرح العميق الذي اصاب كرامتهم واحساسهم الوطني.

اما على الصعيد الاقليمي فإن تأكيدات المسؤولين السعوديين انهم سيحترمون نصوص اتفاقية كامب ديفيد، تعيد الى الواجهة الهواجس من اقدام هذا النظام على التطبيع الفعلي مع الكيان الاسرائيلي، بذرائع ترتيب وضع الجزيرتين، مما يسدد طعنة اضافية لقضية العرب الاولى فلسطين.

الصفحة السابقة