بن نايف على خطى سلطان لانقاذ العرش

خلفيات الحوار اليمني في الكويت

الرياض مرغمة على البحث عن مخرج لحرب عبثية وعقيمة، ما استدعى جهداً مضاعفاً لإنهائها، ولكن يبقى النظام السعودي غارقاً في هواجسه ليس بالخروج من حرب بلا نصر بل بالخروج منها بالنار والعار

توفيق العباد

في وثيقة أميركية مسرّبة نشرها موقع ويكيليكس يعود تاريخها الى 30 ديسمبر 2010، هي عبارة عن تقرير أرسله السفير الأمريكي في الرياض جيمس بي سميث إلى واشنطن حول (الموقف على الحملة العسكرية السعودية ضد «الحوثيين») في المناطق الحدودية المشتركة مع اليمن والمصنّفة يمنياً بالحرب السادسة بين 11 أغسطس 2009 و30 يناير2010.

التقرير وصف الحملة بسوء التخطيط والتنفيذ، وبالمحرجة لطول مداها والاستخدام المفرط للقوة، وتحدث عن غضب الملك عبدالله واعتزامه إقالة الأمير خالد بن سلطان لولا تدخل والده، الأمير سلطان، وزير الدفاع وولي العهد حينذاك.

الوثيقة تشتمل على معطيات بالغة الأهمية، ونتوقف هنا عند الفقرة ذات الصلة بموضوع الحوار بين السعوديين وأنصار الله.

يذكر التقرير الجهود الدبلوماسية لجهة وقف القتال، إذ أعلن الأمير خالد بن سلطان انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية في 23 ديسمبر 2009، وتلا ذلك بيان من حركة (أنصار الله)، بعرض الانسحاب من جميع المواقع الحدودية مقابل وقف الهجمات السعودية.

ما حصل، وبحسب الوثيقة والوقائع الميدانية، أن القوات البريّة السعودية أوقفت أنشطتها الهجومية، وهي أنشطة لم تكن مجدية بأي حال، ولكن تواصلت الطلعات الجوية الكثيفة وكذلك القصف المدفعي. وكانت الخطة السعودية حينذاك، بحسب التقرير، تحميل القوات الحكومية اليمنية مسؤولية أكبر في إدارة القتال ضد مقاتلي «أنصار الله». ويذكر التقرير بأن القوات العسكرية اليمنية أطلقت بالفعل عدة هجمات على مواقع حوثية في 28 ديسمبر 2009. السيناريو نفسه يتكرر حالياً، ومنذ إعلان الهدنة الجزئية بين السعوديين وأنصار الله في 9 مارس الماضي، فإن الخطة السعودية كانت تقوم على تحميل جماعات يمنية داخلية مسؤولية القيام بهجمات في محافظات تعز والجوف وحجة، وحين ردّ «أنصار الله» على الخروقات السعودية للهدنة بالتمدّد في محافظة الربوعة داخل الحدود السعودية، كان الجواب السعودي: أن الهجمات من صنع المقاومة اليمنية.. ولكن السؤال: وماذا عن الغطاء الجوي؟!

في الحرب السادسة، أملت مطالبة خالد بن سلطان أنصار الله بالانسحاب من المناطق التي سيطروا عليها داخل الحدود السعودية توضيحاً من المتحدّث الرسمي بإسم الحركة محمد عبد السلام، بربطه الانسحاب من المواقع العسكرية السعودية بوقف العدوان، وقال أن «جوهر المشكلة مع النظام السعودي ليس الأراضي أو الحدود..».

على أية حال، ليس إعادة التموضع العسكري وحده، يمثل وجه شبه بين الحرب السادسة والحرب الدائرة الآن على اليمن. يذكر التقرير سالف الذكر أن التغطية الاعلامية السعودية الرسمية انخفضت بشكل كبير في الايام الأخيرة. الحال نفسه يحصل الآن، فتسونامي الزخم الاعلامي في الأيام الأولى من «عاصفة الحزم» تقهقر بمرور الوقت، حتى بتنا اليوم أمام ما يشبه أخباراً تذكيرية بوجود حرب، فيما فرضت الهموم المعيشية نفسها على المواطنين كأولوية على ماعداها.

 
صراع المحمدين يتجلّى في اليمن سلماً أم حرباً

وشأن مكانة خالد بن سلطان داخل العائلة المالكة التي تعرّضت لهزّة عنيفة بفعل تناقض أقواله والواقع الميداني، إذ كان يراهن على الظفر بالحرب للفوز بوراثة موقع والده، الأمير سلطان، الذي دخل مرحلة حرجة بفعل استشراء السرطان في جسده، فيصبح الإبن خالد وزيراً للدفاع، ولذلك استعجل إعلان النصر.. كذلك الحال اليوم مع محمد بن نايف ومحمد بن سلمان المتسابقان نحو كرسي المُلك.

في ردود الفعل، كان الخلاف يومها يحتدم داخل العائلة المالكة حول الأداء البائس للأمير خالد، بفعل: إطالة أمد مهمة طرد المقاتلين الحوثيين الضعفاء، والخسائر البشرية الكبيرة في الجانب السعودي، وفشل أداء الجيش السعودي بالمقارنة بالمليارات التي أنفقت على تحديثه على مدى العقود الماضية، بحسب تقرير السفير الأميركي سميث. وكان قرار صدر من قبل الملك عبد الله بإعفاء خالد بن سلطان من منصبه، لولا العودة العاجلة لوالده الأمير سلطان من المغرب وحسم القرار بوقف الحرب، فيما خسر خالد فرصته في تولي منصب وزير الدفاع خلفاً لوالده.

ثمة ما يتقاسمه وزير الدفاع الحالي محمد بن سلمان مع ابن عمه خالد بن سلطان في الحرب الدائرة على اليمن، فابن سلمان كان يمنّي النفس بالدخول الى العاصمة صنعاء في غضون إسبوع، وإذا بالسيناريو نفسه يعود: طول أمد الحرب، صمود الشعب اليمني، تساقط المراكز الحدودية بأيدي مقاتلي الجيش واللجان الشعبية، والأداء الساخر للقوات البرية السعودية، وفوق ذلك إعلانات متناسلة عن وقف العمليات العسكرية الكبرى، وهدنات، وتبديل عناوين مراحل الحرب في سياق الهرب من الاقرار بالهزيمة، بانتظار سلطان آخر يتدخل لحسم الانهيار الشامل.

الطريف، وكما يلفت تقرير السفير الاميركي في الرياض سميث، أن السعودية لجأت الى الولايات المتحدة لطلب ذخائر للطوارىء، وصور واستخبارات للعمل بدقة أكبر، وهو ما تكرّر في الحرب الحالية. اشتكى خالد بن سلطان حينذاك من ضعف الاستجابة الاميركية وقال بأن «الولايات المتحدة لم تدعم السعودية خلال ساعة الحاجة الأشد إليها».

مشتركات الحرب السادسة والحرب الحالية كثيرة، وطبيعة الأداء السعودي الحالي تنبىء عن استحضار صانع القرار السياسي والعسكري في الرياض لهذه المشتركات، ولذلك يسعى الى تفادي تكرارها، لأن النتيجة سلبية في نهاية المطاف.. ولكن المفترقات بين الحربين أيضاً كثيرة أيضاً.

أولها: أن الحرب الحالية تجري على مساحة اليمن كاملة من شماله الى جنوبه.

ثانيها: أن أطراف الحرب لم تعد هي كما كانت في الحرب السادسة، حيث كانت حركة «أنصار الله» تواجه الجيش اليمني مدعوماً بالقوات السعودية جوّاً وبرّاً، أما اليوم فالسعودية تواجه الجيش اليمني وأنصار الله بل وغالبية الشعب اليمني.

جدير بإلفات الانتباه الى أن حركة أنصار الله كانت حتى نهاية 2009 معزولة نسبياً في الداخل، وكان تواصلها مع الخارج ضعيفاً، ولا سيما مع محور المقاومة. كانت عقيدة الحركة كما زرعها المؤسس الراحل السيد حسين الحوثي، تقوم على مدّ الجذور في الأرض قبل مد الجسور مع الخارج.

ثالثها: أن أهداف الحربين اختلفت، فالمعلن في الأولى «منع تسلل الحوثيين» والحقيقي هو تقويض حركة أنصار الله قبل أن تتحوّل الى قوة فاعلة في المعادلة السياسية اليمنية. أهداف هذه الحرب كشفت عن فشل أهداف الحرب السادسة، فالمعلن منها: استعادة الشرعية الممثلة في الرئيس المستقيل عبدربه منصور هادي وعودة حكومة خالد بحّاح، وسحب الصواريخ الباليستية من أيدي مقاتلي (أنصار الله)، وعودتهم الى معقلهم في محافظة صعدة. أما الأهداف غير المعلنة فتتمثل في: إنقاذ القاعدة بعد أن كادت تفنى نهائياً في اليمن، وإعادة تموضع على الخارطة الاقليمية واستعادة الدور الاقليمي الريادي للمملكة السعودية، والرهان على تثمير محمد بن سلمان للظفر العسكري في وراثة العرش.

ليس من بين الأهداف المعلنة والمستورة ما قد تحقّق حتى الان، وإن كانت المحاولات لا تزال مستمرة. ولكن أفق الحرب بات مسدوداً، فجاءت مبادرة ولي العهد محمد بن نايف، وزير الداخلية، والخصم اللدود لابن عمه، لانقاذ الموقف. أجواء العائلة المالكة محتقنة، ما استدعى تدخّل طرف ما لحسم الموقف، وإنقاذ محمد بن سلمان من ورطة الحرب على طريقة الأمير سلطان.

في المعلومات، مبادرة محمد بن نايف لم تتم بالتشاور مع الأميركيين، فقد قرّر أن يأخذ المبادرة على عاتقه بانتظار نجاحها ثم بيعها لمن يهمه أمر العرش. ليس إكراماً لعيون اليمنيين يقوم بن نايف بهذه المبادرة، فهو المسؤول عن الاغتيالات والتفجيرات في اليمن. ويتطلب الأمر الإشارة الى تمفصل التمايز بين الدفاع والداخلية على التمايز بين مقاربتي البنتاغون والخارجية الاميركية في الحرب اليمنية. فبينما يحظى محمد بن سلمان بدعم فريق البنتاغون بقيادة آشتون كارتر، فإن الخارجية مدعومة من البيت الأبيض لها مقاربة أخرى.

في سياق التباينات أيضاً، يبرز التنافس الاماراتي السعودي على الساحة اليمنية. فالامارات كانت، ولا تزال، تريد الاستفراد بالجنوب طمعاً في عدن لمنعها من أن تستبدل دبي تجارياً، وفي الوقت نفسه، تحتفظ الامارات بعلاقة ملتبسة مع جناحين متعارضين في اليمن: خالد بحّاح وعلي عبد الله صالح. أما السعودي فلا يزال يتمسّك بورقة عبد ربه منصور هادي في مقابل فيتو على علي عبد الله صالح. في كل الأحوال، يبقى صالح خياراً إماراتياً وأيضاً أميركياً، وقد يصبح في يوم ما خياراً سعودياً للحيلولة دون تمدّد نفوذ «أنصار الله»، القوة المستقبلية الصاعدة في اليمن.

 
خالد بن سلطان.. خسر حرب اليمن، فخسر مستقبله السياسي

كان قرار هادي بإعفاء بحّاح من منصبيه كنائب لرئيس الجمهورية ورئيس للحكومة، وتعيين علي محسن الأحمر في منصب نائب الرئيس، وبن دقر في منصب رئيس الحكومة، بمثابة استعلان للخلاف الكامن بين الامارات والسعودية. رد بحّاح على قرار الاعفاء كان بمثابة الرد الاماراتي على الانقلاب السعودي على التحالف، وقد يدفع الإماراتيين لاجتراح خيارات أخرى.

لابد من الإشارة الى أن الامارات تقدّم الدعم للاتجاه السلفي اليمني في الجنوب من غير تنظيمي (القاعدة) و(داعش)، اللذين يمثّلان خصمين لدودين لها. في المقابل، يوجّه التنظيمان عملياتهما في عدن والجنوب اليمني عموماً لأهداف عسكرية إماراتية، من بينها التفجيرات في عدن، وإسقاط الطائرة الحربية الاماراتية بصاروخ مضاد للجو. وبحسب مصادر يمنية، يأتي الصاروخ من ضمن الرسائل التي تبعث بها الرياض الى أبو ظبي بعدم تجاوز حدودها.

لابد من الإشارة أيضاً الى أن كل الذي تحقق من انجازات ميدانية في جنوب اليمن هي في الغالب بفعل اماراتي، كونها تحتفظ بقوات برية في الجنوب اليمني بعكس السعودية التي تعتمد على مقاتلين محليين. الخسائر البشرية والعسكرية في الجنوب كانت إماراتية وعلى أيدي مقاتلي (القاعدة) و(داعش)، وهذا ما يدركه الاماراتيون والأميركيون.

حصل الجيش اليمني واللجان الشعبية علىى معلومات وافية من خلال التحقيقات التي أجرياها مع مئات من عناصر (القاعدة) الذين يحملون بطاقات عبور الى السعودية، أو عبر اختراق أجهزة الاتصال بين مسؤولين سعوديين وقيادات ميدانية قاعدية تؤكّد التنسيق التام بين السعودية والقاعدة على الأرض اليمنية.

بالنسبة للعامل الأميركي في الحرب على اليمن، فهو بمثابة المايسترو.. يساعد الاماراتي في الجنوب ضد القاعدة وداعش، ويساعد السعودية في الشمال ضد الحوثيين.

عودة الى مبادرة محمد بن نايف، التي تواجه تحديّات جديّة من حلفاء الرياض (جماعة الرياض بكامل أعضائها ضد وقف الحرب)، ومن محمد بن سلمان الذي يريد نصراً صافياً يعلو به الى العرش، ومن فريق الحرب في واشنطن.

خرقت الرياض الهدنة المعلن عنها في التاسع من مارس الماضي باستهداف العاصمة، صنعاء، ومحافظة صعدة والتصعيد العسكري في أكثر من نقطة في محاولة لإحداث خرق ميداني يعين على التوظيف التفاوضي. وكان الجيش واللجان الشعبية ملتزمين بشروط الهدنة حتى آواخر شهر آذار المنصرم، ثم تقدّموا باتجاه نقطتين متقدّمتين في الربوعة الحدودية. اعترض الجانب السعودي على ما اعتبروه خرقاً، فجاءه الجواب بأن الجيش واللجان الشعبية التزموا بالتهدئة فيما كان الجانب السعودي يواصل خروقاته، ولم يعد بالإمكان السكوت. كان المبرر السعودي أن من يقوم بالخرق هي قوات يمنية داخلية ولا دخل لنا فيها، فرد الجانب اليمني مستنكراً: وماذا عن الغطاء الجوي لكل العمليات؟ الذريعة نفسها في حرب 2009.

وبرغم ما يوحي به السلوك الايجابي لدى (أنصار الله) في التعاطي مع أي مبادرة تفضي الى وقف العدوان على الشعب اليمني، فإن قيادة الحركة تتعاطى بواقعية وترى بأن كل الاحتمالات مفتوحة، وليست هناك من ضمانات بنجاح الحوار في الكويت المقرّر في 17 إبريل الجاري، خصوصاً وأن محمد بن سلمان وزير الدفاع لم يحقق ما كان يأمله من الحرب، ولن يسمح لمحمد بن نايف من كسب السلام لصرفه في تعزيز فرصه في العرش. يقول مصدر في الحركة: قد تنهار المفاوضات، وتالياً استعار أوار الحرب مجددّاً بصورة أشدّ من السابق.

الناطق الرسمي لأنصار الله محمد عبد السلام رسم في 2 إبريل، مسار الحوار مع الجانب السعودي بأن لا حوار بشروط أو محدّدات مسبقة، ولا حوار قبل تثبيت وقف إطلاق النار في الموعد المتفق عليه. وقال بأن الحوار في ظل اشتعال الحرب ليس سوى إسهام في إشعالها وتأجيجها.

السعودية كافأت الكويت على قبولها استضافة الحوار بين أنصار الله والسلطات السعودية بأن سهّلت استئناف الانتاج المشترك لحقل الخفجي المتنازع عليه.. وكان خيار الكويت مكاناً للتفاوض بدلاً من مسقط وجنيف مطروحاً منذ رمضان الماضي، أي بعد مضي ثلاثة أشهر على العدوان السعودي على اليمن..

وكما يبدو فإن ثمة جهوداً استثنائية يتم بذلها لوقف الحرب، وأن فريق المستشارين الاميركيين المقيم في الرياض يقدّم الدعم اللوجستي من أجل إنهاء الحرب، قبل وصول الرئيس أوباما الى المملكة لعقد قمة مع حكّام الخليج.

التهدئة بدأت تتمدد تدريجاً، وأن العمليات باتت محدودة.. محمد بن سلمان قرر سحب البساط من ولي العهد محمد بن نايف، وبدأ هو من يطلق التصريحات بقرب انتهاء الحرب. الجبير وزير الخارجية هو الآخر أصبح يطلق تصريحات لصالح ابن سلمان، بما في ذلك إطلاق شائعات من قبيل وجود وفد من أنصار الله في الرياض، وهو ما كذبته الحركة، والهدف منه كما هو واضح لرفع معنويات جمهور النظام السعودي، وإشعال خلاف بين أنصار الله والمؤتمر الشعبي العام بقيادة علي عبد الله صالح.

في كل الاحوال هناك ما يشبه القرار الدولي على وقف الحرب في اليمن، ومساعدة آل سعود على الخروج منها بأقل الخسائر. لكن هل يقبل آل سعود فعلاً بإيقاف الحرب؟ هذا مشكوك فيه الى أن يثبت العكس، ونخشى أن يطول الوقت لنكتشف حقيقة النوايا السعودية.

في النتائج، الرياض مرغمة على البحث عن مخرج لحرب عبثية وعقيمة، الأمر الذي يستدعي جهداً مضاعفاً لإنهائها، ولكن يبقى النظام السعودي غارقاً في هواجسه، ليس بالخروج من حرب بلا نصر بل بالخروج منها بالنار والعار.

الصفحة السابقة