تاريخ من التواطؤ والعمل المشترك وصولا الى التحالف

جذور العلاقات السعودية الإسرائيلية وآفاقها

جدد اللقاء بين تركي الفيصل ومستشار الأمن القومي الصهيوني السابق الجنرال يعقوب اميدور في ندوة أعدها معهد واشنطن، الحديث عن العلاقات السعودية الإسرائيلية، وخلفياتها، وسوابقها، فكان هذا التحقيق

عبد الوهاب فقي

حين نستعرض سيرة العلاقات السعودية ـ الإسرائيلية نكون أمام سؤالين مفتاحيين وفي الوقت نفسه متداخلين:

 
رفض الشريف بيع فلسطين فخسر مملكة الحجاز، وابن سعود ساوم عليها

ـ ليس سؤال العلاقة وجوداً وعدماً هو المطروح حالياً، بل المستوى الذي وصلت اليه، فما هو هذا المستوى؟

ـ وليس مستوى العلاقة الذي بلغته هو الجوهري، بل درجة الاستعلان لكل مستوى، فما هي درجة الكشف عن مستوى العلاقات بين المملكة السعودية والكيان الاسرائيلي؟

وبادىء ذي بدء، تفرض العلاقة الشائكة والمعقّدة والمحفوفة بكل أشكال السريّة، والريبة، والتوجيه  بين المملكة السعودية والكيان الاسرائيلي حذراً شديداً في التعامل مع كل ما يتّصل بهذه العلاقة. هي دون ريب علاقة حبلى بكل ما هو عار، وتستوجب مكاشفة مفتوحة وملاحقة لكل ذيولها لأنها العلاقة الوحيدة التي تنسج بطريقة ذكية وتشارك فيها أطراف عدّة وتستهدف حقيقة «كي الوعي» العربي والاسلامي وصولاً الى بلوغ مرحلة التطبيع والتسليم.

ليس من قبيل المصادفة أن تتظهّر العلاقة بين السعودية واسرائيل على وقع الانقسامات المتواصلة على قاعدة سياسية ومذهبية عربياً وإسلامياً. إن أخطر ما ينتجه تظهير العلاقة تلك إطاحة المفاهيم القومية والدينية التي أسست لوعي جمعي يكون فيه مجرد التفكير في الانفتاح على الكيان الاسرائيلي خيانة. في ظل غياب مرجعية قيمية راسخة أو عقب تدميرها سواء على قاعدة قومية عربية أو أممية إسلامية، يصبح ما كان يراه العرب والمسلمون خيانة بات اليوم خياراً سياسياً مشروعاً.

إن التشظي الذي تعيشه الأمة على مستوى الوعي، وعلى مستوى علاقات الشعوب مع بعضها البعض بفعل السلاح الطائفي الفتّاك، وعلى مستوى الدول التي تزداد ترهّلاً ووهناً بعد الربيع العربي، يجعل من أي قيم عليا مجرد ذكريات لم يحسم بعد ما إذا كانت جميلة أم قبيحة..

لقد بات طرح ملف العلاقات السعودية الاسرائيلية شديد الإلحاح، لأنه يؤسس لمرحلة قادمة سوف تحمل في طياتها تهديدات على هوية، مسار، مصير الشعوب العربية. مستوى الشراكة الاستراتيجية الذي بلغته علاقة الرياض وتل أبيب ليس ناجماً عن تطوّر طبيعي لعلاقات الدول، وإنما، وفي هذه العلاقة على وجه الخصوص، كان الإرتجال آخر ما يمكن التفكير فيه، وإنما هي علاقة مدروسة بعناية فائقة.

سوف نعتمد هنا على ما ثبت في مصادر موثوقة سواء كانت وثائق أو مراجع عالية الثقة. على سبيل المثال، هناك أقاويل شتى عن مجالات تعاون وطلب مساعدة سواء في حرب اليمن في الستينيات، ولقاءات في فترات متفرّقة، وهناك من المصادر ما يكفي لإثبات ذلك ولكن سوف نؤجّل الكلام فيها وحولها في هذه المرحلة ريثما تتوافر معطيات أخرى تسندها. ولابد من التذكير الدائم بأن النظام السعودي وهو يمضى في إرساء روابط متينة مع الكيان الاسرائيلي يتلطى وراء السريّة والكتمان.

على سبيل المثال،  نقلت صحيفة (يديعوت أحرونوت) في 26 (إبريل) سنة 2013 خبر لقاء جمع ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز، الملك الحالي، ووزير الدفاع الاسرائيلي السابق إيهود باراك في مؤتمر وزراء الدفاع بألمانيا في شباط (فبراير) من العام نفسه. قصة اللقاء، بحسب رواية الصحيفة الاسرائيلية، أن الأمير سلمان كان يسير في رواق ومن خلفه مجموعة مستشارين ومساعدين وحُراس. ووقف فجأة منفصلاً عن المجموعة ليصافح بحرارة وزير الدفاع الاسرائيلي آنذاك ايهود باراك الذي مرَّ بجانبه. ووقف الحُراس من الطرفين حائرين حينما كان ربّا العمل يتحادثان كمن يبدوان على معرفة قديمة. وبعد دقائق معدودة ومصافحة وتسليم انفصلت الحاشيتان بعضهما عن بعض.

كادت أن تمر رواية (يديعوت أحرونوت) بهدوء، ولكن قيام صحيفة (السفير) بإعادة نشرها نقلاً عن الصحيفة الاسرائيلية، أجبر  السفارة السعودية في بيروت في 29 ابريل 2013 على إصدار بيان تنفي فيه حصول اللقاء وقالت إنها «روايات ملفّقة»، وأكّد  البيان بأن الأمير سلمان «لم يقم بأي زيارة الى ألمانيا في التاريخ الذي أوردته الصحيفة ولم يشارك في أي مؤتمر وأن كل ما تمّ حياكته حول هذه الزيارة هو من باب التضليل».

على أية حال، وفي ضوء هذا الخبر، نحن أمام ميلين متناقضين: الميل الاسرائيلي الى استعلان العلاقة طمعاً في تسريع مسار تطبيعها، والميل السعودي نحو الابقاء على سريّة العلاقة، وفي أحسن الأحوال التطبيع البطيء كما يجري حالياً.. ظهر هذان الميلان بوضوح في اللقاء الأخير الذي جمع يعقوب أميدور مستشار الأمن القومي الاسرائيلي السابق لرئيس الحكومة نتنياهو  والأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة في المملكة السعودية في 6 حزيران (يونيو) الجاري برعاية معهد واشنطن لدراسات الشرق الأقصى. تحدّث أميدور بما نصه: «إن هناك الكثير من اللقاءات غير الرسمية بين إسرائيل والسعودية، ضمن محاولات متعددة للوصول لمصالح مشتركة، والمساهمة في العلاقات مع الجيران، سواء كانوا فلسطينيين أم سواهم..».

من جانبه، نفي الفيصل «حصول لقاءات رسمية ما لم توافق إسرائيل على حل الدولتين والالتزام بحدود الـ67، داعياً لعدم البناء كثيراً على هذا اللقاء».  لقد بات معلوماً الغرض من لعبة الإثبات والنفي بين الطرفين، فهي تحقق تدريجياً ما هو مطلوب من تطبيع العلاقة بين الرياض وتل أبيب.

توطئة تاريخية

في مؤتمر القاهرة في الفترة ما بين 12 ـ 23 مارس 1921 بهدف إرساء سياسية بريطانية موحدة في الشرق الأوسط، في أعقاب إلإرباكات المتوالية التي أحدثتها مراسلات مكماهون سنة 1915 (مع الشريف حسين والتي تدور حول المستقبل السياسي للأراضي العربية في الشرق الأوسط)، ثم اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916 وتالياً وعد بلفور سنة 1917. وزير المستعمرات الجديد حينذاك وينستون تشرشل استدعى القادة العسكريين والمدراء المدنيين في الشرق الأوسط لحضور المؤتمر واجتمع بهم  في القاهرة، وتمّ الاتفاق على بقاء لبنان وسوريا تحت الإدارة الفرنسية، فيما تحافظ بريطانيا على الانتداب في فلسطين وصولاً الى تأسيس الوطني القومي لليهود. وتقرّر انهاء الحماية البريطانية في العراق وأن يصبح فيصل الأول ملكاً عليه، والابقاء على الدعم المالي لكل من الشريف حسين في مكة، والملك عبد العزيز في نجد. 

بعد المؤتمر أرسل تشرشل الكولونيل لورانس، للقاء الشريف حسين وعرض هديّة سخيّة عليه للقبول بالمشروع البريطاني في فلسطين. وكان أول عرض مالي قدّمه لورانس للشريف هو 80 ألف روربية، ولكن الشريف رفض. ثم زاد لورانس في العرض المالي وكان عبارة عن 100 ألف جنيه استرليني سنوياً ولكن الشريف رفض المساومة وبيع فلسطين لليهود(١). 

تسبّب قرار الشريف في خسارته مملكته، وهدّده لورانس بإطلاق العنان لجيش ابن سعود لاحتلال الحجاز، فيما بدأت بريطانيا بتخفيض المعونة المالية السنوية الى أن تمّ إيقافها بصورة كاملة فيما بعد. وفي آذار (مارس) 1924 قدّمت بريطانيا معونة مقطوعة مهّدت لحملة عسكرية واسعة على الحجاز انتهت بإطاحة حكم الشريف حسين وسيطرة عبد العزيز، الذي نال اعتراف بريطانيا في فبراير 1926، أي بعد شهر من استكماله السيطرة على الحجاز.

 

تدور الأيام، ويلتقي العرب في مؤتمر آخر ولكن هذه المرة في لندن في 7 شباط (فبراير) 1939 واستمر المؤتمر حتى منتصف آذار (مارس) من العام نفسه وأطلق عليه مؤتمر المائدة المستديرة، لمناقشة المسألة الفلسطينية واحتواء خطر الحرب. أوفد الملك عبد العزيز إبنه فيصل للمشاركة في المؤتمر، وحضره مندوبون من مصر وسوريا والعراق والاردن واليمن. كان المقترح البريطاني يقوم على الجمع بين اليهود والعرب  في جولات نقاش منفصلة، فيما كان الموقف الفلسطيني المبدئي يقوم على إقامة حكومة وطنية عربية في فلسطين، ووقف تام للهجرة اليهودية، وحظر بيع الأراضي لليهود، ومنح الحقوق الكاملة للأقلية اليهودية في فلسطين. ديفيد بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية حينذاك، طرح أربعة مبادىء لاستراتيجية التفاوض بين اليهود والعرب تنسف الخطوط الحمر الفلسطينية كافة وعلى رأسها مسألة الهجرة اليهودية الى فلسطين والوطن القومي لليهود.

لقاءات سريّة جمعت ممثلين عن الملك عبد العزيز وكبار المسؤولين الصهاينة حينذاك مثل ديفيد بن غوريون، ووزير خارجيته موشيه شاريت، وحاييم وايزمان أول رئيس لدولة إسرائيل، على هامش اجتماعات المائدة المستديرة. التقى فؤاد حمزة، المستشار المقرّب من الملك عبد العزيز وأول سفير سعودي ووزير مفوّض في باريس ثم أنقره، حاييم وايزمان بدعوة من جيمس روتشيلد، من عائلة روتشيلد اليهودية والداعمة لمشروع الدولة العبرية، لمناقشة مقترحات تقدّم بها الجانبان اليهودي والسعودي. الرواية السعودية تضع اللقاء في سياق آخر، وأن فؤاد حمزة يحضر اللقاء بصفته الفلسطينية وليس السعودية. ذات الرواية تتكرر اليوم بنفي الصفة الرسمية عن لقاءات الأمير تركي الفيصل بالمسؤوليين الاسرائيليين.

ديفيد بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية حتى عام 1943 وأحد مؤسسي الكيان الاسرائيلي، وأول رئيس وزراء فيه، أفصح ذات لقاء في لندن مع مستشار الملك عبد العزيز، حافظ وهبة، أول مفوّض من وزارة الخارجية السعودية سنة  1930، في ثلاثينيات القرن الماضي بأن «آل سعود وحدهم قادرون على التأثير على المصالحة التاريخية بين العرب واليهود في فلسطين»، كما يذكر ذلك ميخائيل كهانوف في كتابه بعنوان «السعودية والصراع في فلسطين» الصادر سنة 2008 ضمن اطروحات الدكتوراه عن جامعة تل أبيب.

في الأرشيف الوطني البريطاني وثيقة بعنوان (هجرة اليهود الرومانيين)، تتعلق بمفاوضات بين الرئيس الاسرائيلي حاييم وايزمان والمبعوث الخاص للرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت، الكولونيل هوسكينس وجون فيلبي وعبد العزيز بن سعود.  وتذكر وثيقتان محفوظتان في الأرشيف القومي البريطاني في سنة 1943 وهما بحسب التسلسل: CO 733/443/18 ،CO 733/443/19   بما نصّهما: 

اقترح الاكاديمي والمتخصص في الشؤون العربية هاري سانت جون فيلي (والد الجاسوس السوفياتي كيم فيليبي) تسليم الأراضي الفلسطينية لليهود في مقابل تعويض بمبلغ 20 مليون جنيه استرليني (نحو 32 مليون دولار). وكانت المؤامرة والمفاوضات السرية تدور بين فيليبي وعبد العزيز ابن سعود (ملك المملكة السعودية)، وحاييم وايزمان (رئيس الوكالة اليهودية في فلسطين ولاحقاً أول رئيس للدولة الاسرائيلية)، والكولونيل هوسكنس (المبعوث الخاص لرئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت الى الشرق الأوسط)، وروزفلت نفسه أيضاً. ولكن، وبعد أن قام فيليبي بتسريب خبر الصفقة الى قادة عرب آخرين، انسحب ابن سعود من المفاوضات ونفى أي علاقة سابقة له في الموضوع.

تحدّث ميخائيل كهانوف عن تباين في وجهات النظر الاسرائيلية حيال ابن سعود. موشيه شاريت الذي كان مسؤولا عن الشؤون السياسية في الوكالة اليهودية والمسؤول عن قسم العربية، كان يعتقد بأن ليس هناك أي وسيلة للتوصل إلى تسوية مع ابن سعود لأنه كان رجل من الصحراء وهو وهابي متطرف متعصب. حاييم وايزمان كان لديه رأي مخالف تماماً. فبناء على ثقته في قدرته على التوصل إلى تسوية مع ابن سعود، حاول إشراك البريطانيين والأميركيين في خطة بدأها سانت جون فيلبي. يشرح كهانوف قصة الـ 20 مليون جنيه استرليني التي قدّمت لابن سعود لقاء بيع فلسطين، ويقول بأن ثمة خطة مقترحة تفيد بإقامة منطقة حكم ذاتي يهودي يتم تضمينها في اتحاد عربي برئاسة بن سعود. وأشير إلى أن ينقل اليهود 20 مليون جنيه استرليني لابن سعود لتنفيذ الخطة. فشلت الخطة  بسبب الأخطاء التكتيكية في تنفيذه، ولأن المنطقة لم تكن جاهزة لقبول فكرة الاتحاد العربي بقيادة ابن سعود. وأدى ذلك في النهاية إلى تفاقم موقف بن سعود تجاه اليهود عندما رأى هذه الخطة بأنها محاولة من قبل اليهود لتقديم رشوة له. التقى بن غوريون مع مسؤولون في الحكومة السعودية أكثر من القادة الصهاينة الآخرين ولكن من دون نتيجة.

وكان بن غوريون يرى لزاماً تعزيز اليشوف أولاً. عندها فقط يمكن إجراء محاولة للتوصل إلى تسوية مع العرب مع الحفاظ على الاستقلال السياسي اليهودي.

حافظت الوكالة اليهودية على علاقات وثيقة مع عبد الله عاهل إمارة شرق الأردن، الذي كان على استعداد لقبول بعض مطالب الصهاينة، على أساس تفاهم يقوم على أن يحكم هو الجزء العربي من فلسطين. وهذه الصفقات كانت معلومة لابن سعود وبقدر معرفته بها، فإنه استبعد أن تكون القيادة الصهيونية شريكاً في أي اتفاق. وعلى الرغم من الاتصالات على مختلف المستويات، ومحاولات وساطة، رفض ابن سعود أي اتصال مباشر مع أي ممثل اليهودي.

وقال إن الادارة العربية في الوكالة اليهودية لا توصي بسياسة إقليمية شاملة لمعظم هذه الفترة الزمنية. وتضمنت سياسة بن سعود العناصر التي يمكن أن تكون بمثابة أساس للتوصل إلى تسوية مع اليشوف:

1. يعترف بأن المفتاح لإيجاد حل للنزاع في المنطقة هو بيد  القوى العظمى. وكان واضحاً  بالنسبة له أن كلاً من بريطانيا العظمى والولايات المتحدة لن تقبلا جميع المطالب الفلسطينية وتجاهل قوة اليشوف والشتات اليهودي.

2. الحفاظ على الاستقرار في المنطقة ومنع النزاعات كان هدفاً رئيسياً لسياسته.

3. المستوطنات اليهودية في فلسطين من شأنها أن تمنع عبد الله من الاستيلاء على الأرض بأكملها.

4. ابن سعود كان يعرف أهمية الحدود بين الدول. على الرغم من هذا،  فانه قبل لفترة طويلة أن تبقى بلاده بدون حدود ثابتة. واعترف بأن الاتفاقات المؤقتة يمكن أن توفر الاستقرار. (كان هذا هو الحال في شرق المملكة السعودية وكذلك الحدود مع الأردن. المملكة السعودية لم تعترف بمنطقة العقبةـ  معان كجزء من الأردن إلا بعد وفاة ابن سعود).

5. يعرف بن سعود سلفاً الخصومات والخلافات بين العرب. كان يعرف بأن قوتهم العسكرية محدودة ومنقسمة. وأن كل زعيم عربي يتصرف وفقا لمصالحه الخاصة.

6. كان ابن سعود أولاً وقبل كل شيء زعيماً سياسياً. على هذا النحو، تبنى سياسة «الواقعية السياسية»، والاستعداد العملي لقبول الواقع.

في ضوء إطروحة ميخائيل كهانوف التي يستند فيها على الأرشيف الاسرائيلي، كان الاستيطان اليهودي (يشوف) في فلسطين محور الخلاف بين اليهود والعرب في فلسطين، وكان السماح بتمدّد الاستيطان يعني مآلاً نجاح مشروع الدولة اليهودية في سنة 1948 والحرب اللاحقة.

 
تركي الفيصل مع اميدور

المقاومة الفسطينية حينذاك كانت تتمحور حول منع تشكّل الكيانية السياسية الاسرائيلية القائمة على نجاح مشروع الاستيطان، ولذلك لجأ الثوار الفلسطينيون لطلب مساعة البلدان العربية. ابن سعود كان بحكم مكانة الجزيرة العريبة ومقدساتها الدينية والمدعيات الإيديولوجية التي يعتنقها مرغماً على التفاعل مع الطلب الفلسطيني لما يحمله من تداعيات على المنطقة والمملكة، بالنظر الى القدس وما تمثّله من رمزية دينية وقومية..لا ننسى الدور الذي لعبه الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، بصفته الدينية والسياسية والذي شكّل تهديداً لمكانة عبد العزيز، الذي أسبغ عليه رشيد رضا خادم الحرمين الشريفين، وكاد الحسيني أن ينال صفة القائد الاسلامي والعربي بفعله النضالي دفاعاً عن المقدّسات وصميمها القدس.

شكّلت التزامات ابن سعود مع الإنجليز، حكّام فلسطين حينذاك، عنصراً ضاغطاً للتعاون معهم لاحتواء التحديات التي كانوا يواجهونها في فلسطين. ولذلك، لم يكن ابن سعود مستعداً لتقديم أي مساعدات فضلاً عن تضحيات للفلسطينيين قد تضّر بالمملكة السعودية. ويقول كهانوف بأن «مساعدة عبد العزيز للفلسطينيين من حيث الأمول والأسلحة كانت محدودة للغاية وتتم سراً. ولم يكن لديه ثقة بالمفتي، الزعيم الفلسطيني، الذي حاول إقحامه في النزاع. ورأى ان الانقسامات في المجتمع الفلسطيني، وقبل كل شيء لم يكن هو مستعداً لتعريف نفسه باعتباره مؤيداً للثوار الفلسطينيين الذين يعملون ضد البريطانيين».

في عام 1936 تدخل عبد العزيز مع ملوك عرب آخرين مثل فاروق وبالتنسيق مع البريطانيين لوقف الإضراب الفلسطيني الكبير في تلك السنة. وأقنع اللجنة التنفيذية العربية بالتعاون مع لجنة بيل التي عينها البريطانيون في عام 1937، في محاولة لتسوية المسألة الفلسطينية. وعارض توصية اللجنة بتقسيم الأرض لأن ذلك سوف يمنحح قوة لإمارة شرق الأردن التي يديرها عبد الله. كان نهج بن سعود واضحاً في مؤتمر سانت جيمس في لندن (1939)، عندما دعا ممثله الأمير فيصل لمبادرة بريطانية لوضع حد للنزاع. وقال انه يؤيد سياسة «الكتاب الأبيض» البريطانية بعد أن فشل المؤتمر. «الكتاب الأبيض» قبل بعض المطالب الفلسطينيية ولكن اعترض معظم العرب عليها.

وفي عام 1940 عمل ابن سعود على رفض المقترحات التي من شأنها أن تضر بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى. وتجنب الالتزام بتقديم مساعدات كبيرة للفلسطينيين وعارض الحرب ضد اليهود. وقام على وجه السرعة بالمصالحة مع قرار الأمم المتحدة الصادر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 لتقسيم البلاد. وبعد الإعلان عن قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين سنة 1948 وشنّت الجيوش العربية هجوماً واسعاً على الكيان الاسرائيلي، اكتفى هو بمشاركة رمزية - بإرسال قوة غير مدرّبة صغيرة تحت القيادة المصرية التي ساهمت قليلًا في المجهود الحربي العربي...ودفع الواقع الجديد في المنطقة بعد هزيمة الجيوش العربية ابن سعود إلى الكف عن التدخل في شؤون فلسطين.

وبرغم من مشاعر الكراهية لليهود لدى ابن سعود، كما هو شائع، فإن حقائق أخرى تفيد نقيضها تماماً. ونلحظ ذلك في سياسات أبنائه وورثته من بعده، مع إجراء تعديلات بحسب الظروف المتغيرة. وهنا يبدو مناسباً التوقف عند المعلومة الجديدة في كتاب كهانوف حول رحلة العلاج التي قام بها  فهد بن عبد العزيز ومنصور بن عبد العزيز أثناء الحرب العالمية الثانية،في مستشفى هداسا بالقدس في جبل سكوبس يطلق عليه ايضاً جبل المشارف وجبل المشهد. الأمير منصور، أصبح فيما بعد أول وزير للدفاع بالمملكة، والثاني فهد بن عبد العزيز الذي كان وزيراً للداخلية ثم ولياً للعهد واخيراً الملك، وقد كتب الأخير خطاباً متوهجاً بالشكر الى المستشفى على ورق ملكي رسمي، يمدح فيه الرعاية التي تلقاها من الاطباء والممرضين بالمستشفى. 

لم يكن أي من هذين المريضين ليذهبا الى مستشفى هداسا بدون الموافقة الصريحة من الملك ابن سعود. 

في عام 1981 أعلن ولي العهد الأمير فهد، الملك لاحقاً، عن خطة سلام بثمان نقاط. ويتضمن الباب 7 منها اعترافاً ضمنياً بإسرائيل وحقها في الوجود سلمياً في المنطقة. وأيضاً، اعترفت مبادرة شباط (فبراير) 2002 التي تقدّم بها ولي العهد الأمير عبد الله، الملك لاحقاً، بإسرائيل كدولة يهودية. في الأساس، تقترح المبادرة عودة إسرائيل إلى حدود عام 1967 مقابل التطبيع الكامل للعلاقات مع كل الدول العربية.

يخلص كهانوف في تقييم سياسة ابن سعود بالقول: «ظّن القادة الصهاينة، الدبلوماسيون الغربيون والعديد من الباحثين خطأ في موقف ابن سعود إزاء اليهود والنزاع في فلسطين. فقد أعطي وزن كبير جداً لكلماته البغيضة وصورته الوهابية المتطرفة، وليس بما يكفي للنظر في الاعتبار الاستراتيجي بالنسبة له. وكان لصالح مملكته، التي وجّهت بن سعود لانتهاج سياسة معتدلة ومدروسة نحو النزاع في فلسطين».

في المذكرة السرية التي قدّمت الى الرئيس الأميركي بيل كلينتون في بداية عهده بعد انتخابات كانون الأول (ديسمبر) 1991، والدوائر ذات العلاقة (وزارة الخارجية، ولجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ)، جاء ما يلي: 

«إن العربية السعودية تعتبر الحجر الأساس في سياستنا القومية والدولية. فقد كنا نعتقد على الدوام بأن سياسة حماية إسرائيل وإبقائها قوية يمكن ترسيخهما بوجود النظام السعودي الذي برز مؤخراً في المشهد العربي كقوة مؤثّرة. كان مشروع الملك فهد للتسوية مع اسرائيل نقطة البداية التي يمكن الإنطلاق منها لكسر جبهة الرفض العربية وتحقيق التسوية التي تقترب الآن من مرحلة الاستكمال. فبدون النظام السعودي والسياسة المصريّة التي يتبناها الرئيس مبارك في القيام بخطوات عملية، لن يكون من الممكن تدمير العراق وإزالته من معادلة المنطقة».

وتقول المذكرة في فقرة أخرى، بأنه بعد نشأة إسرائيل وبروز تيارات فكرية قومية وراديكالية في المنطقة، أصبح النظام السعودي هاماً بدرجة كبيرة لقمع طموحات هذه القوى لأنها كانت تهدّد أمن ومستقبل إسرائيل. 

وتضيف: «وكما هو دارج في عدم إدراك أبناء آل سعود، فإن فهد (=الملك) فهم من حديث بينه وبين الرئيس الأسبق جورج بوش، بأن إقامة علاقات واضحة وقوية مع إسرائيل سيحقّق الأمن في المنطقة. وقد فسّر فهد أمن المنطقة بأنه يعني أمنه الشخصي. ولهذا السبب، ذهب بعيداً في إقامة علاقات إجتماعية مع إسرائيل على المستويين السياسي والعسكري. وبالرغم من المشاركة السعودية في تمويل الدعم العسكري لإسرائيل خلال حرب العراق، في سبيل إبقائها خارج مجال العمل على أمل تفادي أي مواجهات مع الشعب العربي وإفشال أهداف قوات التحالف، والتي تمّت بناء على إتفاقنا مع الملك شخصياً، فإنه لا يزال ينظر الى أن ذلك مبدأ أساسي أو قانون من أجل السيطرة على سير المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية.

ولسوء الحظ هناك قوى في إسرائيل تستغل ذلك لمصالحها الخاصة، بما قد يهدّد عملية السلام بصورة كاملة كما يهدّد أمن السعودية، وخصوصاً في حال تسرّب وثائق محددة عن علاقتها بها (أي بإسرائيل). ومن المحتمل جداً أن يتم ذلك بأيدي الإسرائيليين، في حال لم يستجب النظام ـ السعودي ـ لمطالب محددة بالنسبة لإسرائيل. ويزوّد النظام السعودي إسرائيل بالخطط المالية والتنسيق في إطار مشاريع مشتركة، سواء داخل أو خارج السوق الشرق أوسطية».

وتلفت المذكرة إلى إن الخطوات السعودية ـ الإسرائيلية غير المحسوبة تتسبب في مشاكل كثيرة بالنسبة للولايات المتحدة ولن تفضي إلى علاقات أمنية صحيّة بين فهد واسرائيل خارج سياق سياستنا. وقد نبّه اللجنة المسؤولة عن إعداد المذكرة الطرفين لذلك. ولكن فهد يحاول أن يجد مبرّراً، بمعنى أنه يريد هذه العلاقات كإستمرار للعمل المشترك في اليمن في الستينيات (القرن الماضي) في ضوء تسارع الأحداث بين الحكومتين في اليمن. 

 
الفيصل مع وزير الدفاع الصهيوني يعلون

يلفت الملحق المضاف الى المذكرة إلى أنه: «بالنسبة لأولئك الذين صاغوا المذكّرة كانوا صائبين، بالرغم من الطريقة المهذبة والدقيقة التي عبّروا فيها عن أنفسهم، فليس هناك ما يمكن إضافته سوى التعاون العسكري السعودي ـ الإسرائيلي الذي يتم الآن بصورة سرية، والذي قد يضع نهاية لمستقبل النظام في حال انكشافه من خلال وثائق ـ وهو أمر قمنا بمنعه حتى الآن من الوقوع، في ضوء استجابة إسرائيل لنا دونما فقدان المكاسب المادية والإستراتيجية والمصالح، بما يشمل، على سبيل المثال، سيطرتها على ست جزر سعودية في البحر الأحمر (ملاحظة: لم يشر التقرير الى أسماء الجزر إن كان المقصود بها تيران وصنافير في شمال البحر الأحمر، أم الجزر الواقعة في جنوبه والمحاذية من المناطق الجنوبية من المملكة والتي تستعملها اسرائيل لمشاريع تجارية مثل رعي الأغنام)، وتبادل المعلومات حول المعارضة السعودية والحركات الإسلامية داخل المناطق المحتلّة وخارجها. كما كنا قادرين على وقف عمل سعودي ـ إسرائيلي مشترك للتسلل الى الجيش السوري لأن أية أخطاء في هذه العملية المريبة ستؤدي الى تقويض كل الجهود من أجل التسوية السلمية، وقد تتسبب في نزاع عربي مرير وقد يكون راديكالياً للغاية في الشكل الذي تأخذه. فالسوريون أذكياء جداً في هذه القضايا، وهم أفضل من الإسرائيليين في قضايا الإبتزاز». 

ماسبق كان فقرات من المذكرة سالفة الذكر، وتعود الى ما قبل خمسة وعشرين عاماً، وحينذاك كانت العلاقات بين آل سعود والكيان الاسرائيلي على قدر من القوة بما يجعل الطرفين يخططان لقلب نظام الحكم في سورية، فكيف يمكن تخيّل طبيعة التعاون الحالي، ليس في الملف السوري فحسب بل في كل الملفات ذات الاهتمام المشترك، خصوصاً بعد أن بدا واضحاً، على سبيل المثال، أن ايران باتت عدواً مشتركاً لآل سعود وللكيان الاسرائيلي، وكذلك لحركات المقاومة مثل حزب الله وحماس والجهاد وبقية حركات المقاومة في المنطقة.. 

الرياض وتل أبيب بعد الحرب الباردة

ثمة تحوّل طرأ على التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وكلاً من الرياض وتل أبيب بعد تبدّل نظام القطبية بتفكّك محور الاتحاد السوفييتي. نشير الى أن السعودية واسرائيل لعبا دوراً وظيفياً مركزياً إبان الحرب الباردة، ولا ريب أن السياسات والإمكانيات الضخّمة التي وظّفها الطرفان في صراع القطبين أفضت الى تفوّق القوة الأميركية. 

وبرغم من الوقائع الاعتراضية (حرب الخليج الثانية 90/91، هجمات 9/11 ومتوالياتها: حرب أفغانستان 2001، والعراق 2003، وحروب اسرائيل مع لبنان وفلسطين بين 2006 ـ 2013، وثورات الربيع العربي منذ 2010) فإن ثمة مساراً استراتيجياً ارتسم أميركياً أفضى الى تخفيض الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط وبالحلفاء الحيويين وفي المقدّمة: السعودية واسرائيل. 

بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، كانت أول مكافأة يقدّمها النظام السعودي هو مبادرة الملك عبد الله في قمة بيروت في مارس 2002، والتي أعلن فيها عن استعداد الدول العربية التطبيع مع الكيان الاسرائيلي في إطار عملية سلام شاملة، مستبعداً قضيتي: اللاجئين والقدس. 

لقاءات متكررة تشاروية وتنسيقية بين أمراء سعوديين ونظرائهم الإسرائيليين بدأت تظهر بصورة شبه علنية منذ عام 2006، استهلت بلقاءات الأمير بندر بن سلطان، رئيس مجلس الأمن الوطني ورئيس الاستخبارات العامة سابقاً، ومائير داغان، رئيس جهاز الموساد، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت في العاصمة الأردنية، عمّان، ثم لقاءات أخرى في مصر ونيويورك وغيرها..

صحيفة (يديعوت أحرونوت) ذكرت في 25 إيلول (سبتمبر)  2006 أن رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت عقد في الآونة الاخيرة محادثات مع احد أفراد العائلة المالكة السعودية بشأن السلام في الشرق الاوسط والبرنامج النووي الايراني.

لاشك أن ما ظهر من مواقف خلال حرب تموز سنة 2006 وما بعدها من لقاءات شبه علنية بين أمراء آل سعود والمسؤولين الاسرائيليين لم تكن بمثابة نبتات عشوائية، فالعلاقة كما يبدو من موضوعات التعاون بين الطرفين أعمق بكثير وتعود كما تكشف المذكرة الى بدايات نشوء الكيانين، كما يلفت طبيعة الدور المنوط بالسعودية للحفاظ على استقرار الدولة العبرية وبقائها مقابل التهديدات المحتملة التي يمكن أن تواجهها نتيجة ظهور تيارات وقوى معادية لها.. 

ثمة دون ريب أسرار خطيرة مازالت خافية عن العلاقة الاسرائيلية السعودية، خصوصاً من طرفين يتقنان فن إخفاء الحقائق وتضليل الرأي العام.

 
الفيصل مع أيالون نائب وزير الخارجية الاسرائيلي

بخصوص التخطيط لعملية انقلابية في سوريا سنة 2006، بالتعاون بين الولايات المتحدة والموساد والسعودية، كشف جوليان أسانج من ملجئه في سفارة الأوكوادور في لندن منذ 2012، بأن الخطة الاميركية تقضي باستخدام مجموعة عوامل لخلق حالة هلع داخل الحكومة السورية ودفعها للمبالغة في رد الفعل وإشعارها بالخوف من وقوع انقلاب عسكري. يستند اسانج على برقية سرّية تشتمل على تفاصيل خطط إثارة نزاع طائفي في المنطقة وإظهار إيران على أنها التهديد الأكبر لنظام بشار الأسد، والترويج لشائعات تفيد بأن ايران تعمل على تحويل الفقراء السنة في سوريا الى شيعة، وفي الوقت نفسه العمل مع السعودية ومصر لخلق اعتقاد في سبيل تعقيد المهمة على ايران من أن يكون لها تأثير في الساحة السورية وكذلك الحكومة السورية من أن يكون لها نفوذ على شعبها..

برقيات ويكيليكس تكشف أن الخطط جاءت من الحكومة الاسرائيلية  وأن الولايات المتحدة كانت تنوي العمل مع السعودية وتركيا وقطر ومصر لتشجيع تفكيك نظام الأسد كسبيل لإضعاف ايران وحزب الله(٢).

وقام موقع (ويكيليكس) بتسريب وثائق تتعلق بالتعاون الاستخباري بين السعودية والموساد، وهي عبارة عن مراسلات من شركة الاستخبارات الأميركية (ستراتفور) وتعود الى شهر أيار (مايو) سنة 2007 وتتعلق بتقديم مساعدة سرية للاستخبارات السعودية. 

وقامت صحيفة (الاخبار) اللبنانية بترجمة الوثيقة ونشرها في 6 آذار (مارس) 2012، وتضمنت مناقشات بين نائب رئيس (ستراتفور) لشؤون مكافحة الإرهاب، فريد بورتون، ومحللين في ما يتعلق بالتعاون السري السعودي ـــ الإسرائيلي، كما تشير إلى اهتمام (ستراتفور) بإنشاء علاقات تجارية خاصة مع نظام الحكم في السعودية. 

بدأت المناقشات بإرسال بورتون رسالة قصيرة إلى أحد المحللين، نقلاً عن مصدر استخباري (بشري) لم يسمّه، وزعم أن الموساد الإسرائيلي عرض مساعدة (سرية) على الاستخبارات السعودية في (جمع المعلومات الاستخبارية وتقديم المشورة بشأن إيران). ومن الواضح أن (مركز العبور الأساسي إلى الرياض) كان مدينة نيقوسيا في قبرص. 

وفي سياق ما يشبه النصيحة، لفت المصدر إلى أن السعودية تلعب (على جانبي السياج، مع الجهاديين والإسرائيليين، خوفاً من ألا يكون لدى الولايات المتحدة قدرة على السيطرة على أي منهما). 

وفي الختام، كشف المصدر أن (مجموعة من ضباط الموساد الطموحين، السابقين والحاليين، يعقدون حزمة من الصفقات لبيع السعوديين معدات أمنية، معلومات استخبارية، وخدمات استشارية). وهذه الجملة تعني أن علاقة أمن وتجارة جمعت الدولة العبرية والنظام الحاكم في المملكة السعودية. 

الرئيس والمدير المالي في (ستراتفور)، دون كايكندال، شارك في رسالة بورتون أيضاً، حيث سأل الأخير: (هل ضممنا وزارة الخارجية السعودية واستخباراتها إلى لائحة عملائنا؟ إنني أقترح إرسال مايك باركس (أحد موظفي ستراتفور المعنيين باستقدام العملاء)، صديق الأمير بندر بن سلطان، لإقناعهم)(٣). 

في 29 آذار (مارس) 2007، عقدت القمة العربية في الرياض، وجدّدت السعودية تأييدها لمبادرة السلام مع الكيان الاسرائيلي. في تلك القمة استقبلت الرياض أول مراسلة إسرائيلية من صحيفة (يديعوت احرونوت)، وتدعى اورلي ازولاي التي لاقت ترحيباً من فريق التشريفات في الرياض وأرسلت تقريراً للصحيفة عن القمة. وعادت أزولاي مرة أخرى، بحسب الصحيفة نفسها في عددها الصادر في 15 كانون الثاني (يناير) 2008 وكانت ضمن حاشية الرئيس الأميركي. ونشرت الصحيفة صورة للمراسلة من الرياض وعنوّنت مقالتها (إسرائيلية في أرض الإسلام).

وتقول الصحافية: « بعد وصول الطائرة إلى مطار الرياض الدولي، قام ممثل وزارة الإعلام السعودية بمنحها بطاقة الصحافة السعودية الرسمية، وأنها افتتحت مكتباً مؤقتاً للصحيفة (الإسرائيلية) في العاصمة السعودية..ولفتت الصحافية في تقريرها الذي وصل مباشرة من الرياض، أنها فوجئت عندما وصلت إلى غرفة الصحافة وشاهدت لافتة وقد كتب عليها باللغة الإنكليزية صحيفة (يديعوت أحرونوت)، مؤكدة أن جميع هذه الإجراءات تمت بعلم وبموافقة من السلطات الرسمية في المملكة. مؤكدة أن ممثل وزارة الإعلام السعودية كان في انتظارها في بهو الفندق وقال لها: (إنه يأمل أن يتم السلام هذه المرة بين (إسرائيل) وجميع الدول العربية).

وفي 16 كانون أول (ديسمبر) سنة 2010 نشرت وكالة الأنباء الفرنسية خبر زيارة أبرز المؤرخين الجدد في الكيان الاسرائيلي افي شلايم الرياض بدعوة من الأمير تركي الفيصل، وألقى محاضرة في مركز الملك الفيصل للأبحاث والدراسات الاسلامية، واكتشف حينذاك «براغماتية» السعوديين واستعدادهم للاعتراف باسرائيل مقابل قيام الدولة الفلسطينية. والتقى شلايم في زيارته الرياض التي دامت اسبوعاً دبلوماسيين ورجال اعمال واكاديميين سعوديين، وقال أن الذين التقاهم كانوا «براغماتيين» ومستعدين للاعتراف بحق اسرائيل بالوجود اذا ما قامت دولة فلسطينية ضمن حدود العام 1967.

يمكن في ضوء ما سبق فهم خلفية قيام موقع وزارة الخارجية الاسرائيلية بإعادة نشر مقالات كتّاب سعوديين (وضعت أسماؤهم ضمن قائمة أطلق عليها قائمة العار) خلال الحروب الاسرائيلية على غزة، وأيضاً فهم سر لقاءت الصدفة بين تركي الفيصل ومسؤولين اسرائيليين وكذلك محازبيه من قبيل أنور عشقي وأضرابه، وكذلك حوار الأديان الذي شرع الباب أمام الإسرائيليين للدخول المريح الى عالم العرب..

 
الملك عبدالله حوار أديان، أم حوار مع الصهاينة؟

حوار الأديان الذي رعاه الملك عبد الله، وعقد من أجله عدداً من المؤتمرات في مدريد في تموز (يوليو) 2008، ونيويورك في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 وتتويجاً بافتتاح (مركز الملك عبد الله العالمي للحوار بين أتباع الأديان) في فيينا في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 واختيار الحاخام الأرثوذوكسي الإسرائيلي دافيد روزين ضمن مجلس إدارة المركز المؤلف من تسعة مقاعد. وقد شكر روزين الملك عبد الله على (شجاعته في تعيين حاخام إسرائيلي ضمن مجلس إدارة المركز).  ولم يتردد الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز في أن يخاطب الملك عبد الله معلناً تأييده للمبادرة السعودية للسلام، وجلس الملك على المائدة مع شيمعون بيريز، ولم يكن في ذلك حرج.

أخطر نتائج تلك الحزمة التطبيعية المنتظمة هو ما ورد على لسان الرئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز إبان العدوان على قطاع غزّة في تموز ـ آب 2014، إذ قال في مؤتمر صحافي عقده في بئر السبع ونقلته الإذاعة الإسرائيلية العامة: «أن هذه هي الحرب الأولى التي تشنها تل أبيب وغالبية العرب معها»، مشيراً إلى «أن العالم العربي يمارس العزلة على المقاومة الفلسطينية».

إن ذروة تظهيرات التطوّر في العلاقة بين النظام السعودي والكيان الاسرائيلي ما جاء في تفاصيل اللقاء الذي جمع مستشار الأمن القومي الاسرائيلي السابق يعقوب أميدور ورئيس الاستخبارات العامة الأسبق في المملكة السعودية الأمير تركي الفيصل. فقد تناول الأخير أهم مجال للتعاون السعودي الاسرائيلي وهو إيران، القاسم المشترك في العلاقة بين الطرفين. وذكّر الفيصل بالمبادرة السعودية للسلام مع اسرائيل وقال بأن «إسرائيل لديها سلام مع العالم العربي، واعتقد أن بإمكاننا مجابهة أي تحدي، ومبادرة السلام العربية المقدمة من السعودية في العام 2002 تقدم أفضل معادلة لتأسيس السلام بين إسرائيل والعالم العربي...»

وأثنى الفيصل على كلام الجنرال أميدور بقوله «كما قال الجنرال، فإن التعاون بين الدول العربية وإسرائيل لمواجهة التحديات مهما كان مصدرها سواء كانت إيران أو أي مصدر آخر ستكون مدعمة بصورة أقوى في ظرف يكون فيه سلام بين الدول العربية وإسرائيل، ولا أستطيع أن أرى أي صعوبات بالأخذ بذلك.» وتابع قائلا: «أقول دائماً للمشاهدين اليهود أنه وبالعقول العربية والمال اليهودي يمكننا المضي قدماً بصورة جيدة، وفكروا ما يمكن تحقيقه في المواضيع العلمية والتكنولوجيا والمسائل الإنسانية والعديد من الأمور الأخرى التي بحاجة إلى النظر إليها..»

من جانبه، أبدى الجنرال الاسرائيلي أميدور وجهة النظر الاسرائيلية على أساس أن ايران سوف تمتلك في يوم ما القدرة النووية بطريقة من الطرق وعليه «فإن هذا تهديد لوجودنا، ولن نسمح بحصول ذلك، بمساعدة الأمريكيين أو بدونهم، إسرائيل مستعدة للدفاع عن نفسها.» وأضاف الى ذلك دعم ايران لحزب الله الذي يملك «أكثر من مائة ألف صاروخ وقذيفة، والعديد منها دقيق ويهدد وسط إسرائيل وأهداف أخرى حساسة داخل إسرائيل..»، وراح يتحدّث عن نشاط ايران في سوريا الأمر الذي يجعلها قضية مشتركة مع الجانب السعودي، على قاعدة منع ايران من بناء قاعدة للانطلاق منها إلى إسرائيل..ويمضي في شرح الأخطار المتخيّلة للوجود الايراني في الإقليم بأن الايرانيين « يحاولون بناء شبكة للإرهاب حول العالم من أفريقيا إلى آسيا، ومن آسيا إلى أوروبا وهذه حرب مستمرة..”(٤).

خلاصة الأمر، إن ما كان يطلبه بن غورويون بأن تكون السعودية المدخل لتطبيع العلاقات بين اسرائيل والعرب بات حقيقة شاخصة، فقد أنجزت دون علاقات رسمية ما لم تنجزه مصر والاردن والمغرب مجتمعة. يكفي أن اسرائيل لم تعد في قائمة الأعداء بل تقترب من صفة الدولة الحليفة وليست الصديقة فحسب..

ونختم بتقريرين نشرا في 13 نيسان الماضي، الأول في موقع “Veterans Today”  الأمريكي المختّص بالشؤون العسكرية عن إبرام مذكرة تفاهم حول التعاون العسكري المشترك بين إسرائيل والسعودية في البحر الأحمر منذ العام 2014. ونشر الموقع أسماء الجنرالات والضباط السعوديين  والرمز العسكري لكل منهم والذين شاركوا بدوراتٍ عسكرية بحيفا عام 2015.

يستند الموقع سالف الذكر إلى وثيقةٍ كشف عنها أحد المسؤولين في حزب «ميرتس» الإسرائيليّ، حيث خلص الاتفاق، إلى أنّ السعودية وإسرائيل ستُديران مضيق باب المندب وخليج عدن وقناة السويس، بالإضافة إلى الدول المطلّة أيضًا على البحر الأحمر.

الموقع ذكر أيضاً أن إسرائيل استضافت عدداً من الضباط السعوديين للمشاركة في دورات تدريبية عسكرية في قاعدة البولونيوم من ميناء حيفا في عام 2015.

وقال الموقع إنّه بحسب الاتفاق السعوديّ- الإسرائيليّ: «ستقوم الدولتان بمُحاربة العناصر الإرهابيّة التي تنشط بالقرب من البحر الأحمر، بالإضافة إلى الحفاظ على الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط». وبناء على مصادر اسرائيلية فإن  طاقمًا مُشتركاً من البلدين يُدير هذه العمليات، حيث يترأس الجانب الإسرائيلي الجنرال دافيد سلامي، أمّا الجانب السعوديّ فيترأسه الميجور جنرال صالح الزهراني(٥).

وتحدّث الموقع عن التعاون العسكري المشترك بما يشمل تدريب العسكريين السعوديين في اسرائيل والتنسيق العملياتي في البحر الأحمر ولا سيما في مضائق تيران.

في اليوم نفسه، نشرت صحيفة (الواشنطن بوست) تقريراً للكاتب بعنوان (How two Red Sea islands shed light on secret relations between Israel and Saudi Arabia) جاء فيه: ليس لدى الدولتين علاقات رسمية،  ولكن هناك ايحاءات بالتعاون الهادىء ـ أو على الأقل حوار استراتيجي ـ حول قضايا محدّدة مثل النفوذ الإيراني في المنطقة.

موشي أيالون، وزير الدفاع الاسرائيلي كشف عن أمرين: ان عودة تيران وصنافير الى السعودية تمّت بالتوافق بين أربع دول: الولايات المتحدة، اسرائيل، السعودية، مصر، وثانياً أن السعودية هي من تتحمّل مسؤولية تسهيل مرور السفن الاسرائيلية(٦). 

ويبقى السؤال الكبير: هل دخلت السعودية في مرحلة الشراكة الاستراتيجية الكاملة؟

ثمة، دون ريب، عوامل تسهّل هذه المهمة وعلى رأسها:

ـ حالة التشظي التي تعاني منها الأمة العربية والاسلامية نتيجة الحروب والخلافات السياسية والاقتصادية.

ـ حملة الشيطنة المفتوحة ضد حركات المقاومة التي تقودها السعودية عبر مكائنها الاعلامية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية..

ـ انهيار النظام الرسمي العربي الذي يؤول الى إسقاط آخر مرجعية رسمية يمكن الاستناد اليها في إقامة علاقة مع الكيان الاسرائيلي.

ـ غياب المرجعية الايديولوجية القومية والدينية التي يمكن الاعتصام بها إزاء هذا النوع من الجنوح نحو علاقات على حساب قضايا الأمة ورهاناتها المصيرية..

وفي الأخير، فإن المرحلة المقبلة سوف تشهد تحدّياً كبيراً على مستوى قبول أو رفض شعوب المنطقة والسكّان في المملكة السعودية لجهة التعامل مع مخطط إدخال الكيان الاسرائيلي الى المجال العربي والاسلامي وتقديمه بوصفه كياناً طبيعياً يمكن التعايش والدخول في شراكة استراتيجية معه..


هوامش

(1) Askar H. al-Enazy, “ The Creation of Saudi Arabia: Ibn Saud and British Imperial Policy, 1914-1927” (London: Routledge, 2010),  p. 105-106, 109, 111

(2) This article (WikiLeaks: US, Israel, and Saudi Arabia Planned to Overthrow Syrian Govt. in 2006) originally appeared on MintPressNews.com and was used with permission ; see Julian Assange on:

https://www.youtube.com/watch?v=W3HWiydFlJc&feature=youtu.be

(3) https://wikileaks.org/gifiles/docs/12/1233507_re-humint-mossad-covert-assistance-to-saudi-intelligence-.html

(4) http://arabic.cnn.com/middleeast/2016/05/06/   prince-turkey-saudi-israel-iran-threat 

(5) http://www.veteranstoday.com/2016/04/13/formation-of-joint-militia-between-saudi-arabia-and-israel-in-red-sea/

(6) https://www.washingtonpost.com/news/worldviews/wp/2016/04/13/how-two-red-sea-islands-shed-light-on-secret-relations-between-israel-and-saudi-arabia/

الصفحة السابقة