الوهابيون وآل سعود ينتفضون:

الفلوجة.. سعودية، والحرب شيعيّة ـ سنيّة!

يحي مفتي

تطييف السياسة صار شغلاً سعودياً وهابياً بامتياز.

لا يوجد حدث في الدنيا إلا وقام مشايخ الوهابية، وتحالف الإخواسلفيين، ومن ورائهم وأمامهم النظام وإعلامه، بتحويله الى موضوع ضمن الصراع المذهبي في المنطقة، تماشياً مع السياسة السعودية، التي حوّلت الخلافات السياسية الى خلافات مذهبية، لتجييش الرأي العام، والفوز في صراع سياسي ليس مع ايران، فحسب، بل مع كل الشيعة، بتنوعاتهم الداخلية، واختلافاتهم السياسية، والإثنية، واللغوية، وغيرها.

اليوم هناك حديث عن تحرير الفلوجة في العراق من سيطرة داعش، وقد تحوّل الموضوع لدى الوهابيين الى حرب شيعية سنيّة، وصار موضوعاً محلياً، لا شأناً عراقياً. وقبل هذا بأسابيع كان هناك موضوع اعدام بنغلاديش لزعيم الجماعة الاسلامية في بنغلاديش مطيع الرحمن نظامي؛ وحوّله وهابيو وإخواسلفيو السعودية الى موضوع شيعي سنّي، ببهاراته المحليّة أيضاً.

لنقرأ قصة إعدام مطيع الرحمن ثم نأتي الى موضوع الفلوجة.

مطيع الرحمن، رحمه الله وغفر له، اتهم بجرائم ومجازر حرب، أثناء حرب الإنفصال بين بنغلاديش (باكستان الشرقية يومها) والباكستان الحالية بداية السبعينيات الميلادية. وكان ضد الإنفصال وشارك في حربها، ثم بعد الإنفصال صار نائباً في البرلمان، ووزيراً أيضاً.

حين أعدم، كان يُفترض ـ لدى البعض ـ ان تندد الحكومة السعودية بذلك، كما فعلت الباكستان؛ وكان بامكان الرياض التدخل لمنع اعدامه، وكان يفترض ان يتحول النقد الوهابي الى الصامتين عن ذلك، وفي مقدمة الصامتين هيئة كبار العلماء والمفتي السعودي.

لكن الذي حدث غير ذلك، فقد ربط الوهابيون بالمعركة الكبرى التي تدور في أذهانهم بين الشيعة والسنّة، وربطوا إعدام نظامي في بنغلادش، باعدام الشيخ نمر النمر من قبل الحكومة السعودية، مع ان هذا الأخير، كان يرفض استخدام الحجر ضد قوات السلطة التي تستخدم الرصاص. وكأن مشايخ الوهابية وأتباعها لا يستطيعون تحفيز شارعهم المحلّي إلا بالضرب على الوتر المذهبي والصراع الطائفي.

الشيخ الوهابي محمد الفراج كتب شعراً:

أينَ مَن شنّعوا لمقتلِ نِمْرٍ

ما لهم عن مطيعٍ بنِ نظامي؟

شغلونا لمجرمٍ رافضيٍّ

وتصامَوا عن مُصلحٍ بالنظامِ

ردّ أحدهم عليه فقال: (قَبُحَ القولُ والقائلْ. ألا يسعكم الدفاع عمّن تحبّون، دونما تشنيعٍ أو طعن بالآخرين، الذين هم ضحايا ذات الطاغية الظالم المفترس؟).

الداعية الوهابي علي التمّني، حول مقتل مطيع الى موضوع ايران فقال: (الإعدام لعلماء السنّة، والتمكين لدعاة ايران الصفوية). داعية وهابي آخر قال: (ايران وبنغلاديش مستمرة في اعدامات رموز الدعوة)؛ والإخواني كساب العتيبي يعتب على منظمات حقوق الإنسان التي صمتت، وهي التي صدّعت رأسه بإعدام النمر وغيره؛ فهو لا يقرأ او يتابع ما تنشره المنظمات عن اعدام مطيع، وانما يتقمص المظلومية ويؤيد اعدامات ال سعود للمواطنين الشيعة على خلفية طائفية.

وفي حين اعتبر الوهابيون إعدام مطيع (مؤامرة صليبية رافضية يهودية ضد المسلمين)، جاء الأمير محمد آل سعود وفي نفس الخط ليتساءل عن الاعلام المعادي لعائلته بعد اعدام الشيخ النمر، وقد بقي صامتا بعد اعدام مطيع، وهو كلام في الهواء غير صحيح.

اما الشيخ سليمان العجلان، فيسأل: هل أُعدمَ رجل دين كتابي او وثني أو مجوسي؟ والاخوان امتدحوا موقف اردوغان الذي ندد بالإعدام لمطيع الرحمن؛ ولاستدعاء تركيا لسفيرها في بنغلاديش.

فلمّ لم تفعل السعودية ما عليها، وهي التي تزعم قيادتها للعالم الاسلامي؟ ولمَ لمْ تندد بذلك هيئة كبار العلماء؟

إحدى السلفيات تمنّت من الله ان ينوّر بصيرة المفتي آل الشيخ (ليقف مع مآسي المسلمين)؛ فردّت أخرى: (رفضتم التدخّل الخارجي في أعدام نمر النمر، فلماذا تتدخلون الآن في شأن غيركم؟). ودافع مغرد موالٍ للسلطة السعودية فقال بأن ما حدث لمطيع الرحمن هو عين العدالة وهو ما حصل للشيخ النمر. في حين تمنّى ابراهيم الرشيدي التالي: (ودّي لو سكرتير او كاتب أو حارس من هيئة كبار العلماء يتكرم ويستنكر هذا العمل الاجرامي. بس استنكار فقط). هنا رد عمرو بن طلال: (كل من يقبل بمنطق رفض ايران اعدام النمر لكونه سعودي، ولوجوب احترام القضاء، فيجب ان يصمت لأن مطيع بنغلاديشي).

وطالب وليد السليمان ان تتخذ السعودية موقفا صارما من بنغلاديش مضيفاً (ما فائدة ان نكون بلد إسلامي؟)؛ فرد موالٍ للسلطة مدعيا ان: (حكومة البنغال العميلة تعدم العلماء نكاية بالمملكة لأنها منعت عمالتها) من العمل في السعودية، وهذا كلام مضحك. فبعد يوم من اعدام مطيع الرحمن؛ اصدرت سفارة السعودية في بنغلادش بيانا توضح فيه فتح باب العمالة الرجالية البنغالية في السعودية. وعلق المحامي سلطان العجمي: (الاستقدام من بنغلادش منع لأربع سنوات. وبعد اعدام مطيع الرحمن فُتح بابُ الإستقدام منها)؛ في حين طالب آخر بمعاقبة العمال البنغال بدلاً من حكومتهم، وطردهم من السعودية!

وهكذا يتم تجيير حدث خارجي في صراع داخلي، وفي خدمة الصراع المذهبي على المستوى العربي والإسلامي، لصالح الحكومة السعودية في نهاية الأمر، التي هي مقصرة في اقل الأحوال في القيام بواجباتها الوطنية والإسلامية.

 

نعود الى موضوع الفلوجة، التي تسيطر عليها داعش؛ ففي ابريل الماضي، كانت هناك بوادر حملة عسكرية لتحريرها؛ فقامت الدنيا بين الوهابيين والإخواسلفيين السعوديين بأن الفلوجة تجوّع وتموت وتُذبح، الى آخر القائمة التي تحولت الى هاشتاقات على مواقع التواصل الاجتماعي استمرت أياماً. هذه المرة لم تكن مختلفة، فما أن بدأت معركة تحرير الفلوجة، إلا وعلا الصراخ في الرياض، بل في نجد، وبين الوهابيين في كل مكان، وتم العمل على تحويل المعركة الى طائفية بامتياز. والتحم الدواعش مع القواعد مع التيار الوهابي مع قسم من الإخوان المسلمين المتدعشنين، مع رجال المباحث، وكتَبَة آل سعود، فكانت هناك هاشتاقات هذه عناوينها: ‫# الفلوجة تُباد؛ ‫# الفلوجة تُذبح؛ ‫#‬ الفلوجة تحت العدوان؛ ‫#‬ الفلوجة تحت النار؛ ‫#‬ الفلوجة تواجه ايران؛ ‫# انصروا الفلوجة بالدعاء.

وفي المقابل ظهرت هاشتاقات عراقية مقابلة: ‫#‬تحرير الفلوجة؛ ‫#‬ الفلوجة تتحرر؛ ‫#‬ الفلوجة توحدنا؛ ‫# ‬الفلوجة: محررين لا معتدين؛ ‫#‬ الفلوجة يحررها العراقي؛ ‫# آل سعود يدعمون تدمير الفلوجة‬.

‬في الأصل، فإن موقف مشايخ الوهابية من داعش المحتلة للفلوجة وغيرها لا يخرج عما يقوله ثلاثة من نماذجهم:

الشيخ النجيمي، الموظف في وزارة الداخلية، وكان مسؤولا عن مراكز مناصحة الدواعش يرى التالي: (داعش، مهما بلغوا، فهم من الخوارج، والخوارج من المسلمين. أما الرافضة، فهم مجوس ليسوا منا، والتاريخ يشهد بغدرهم وخيانتهم). والشيخ سليمان العجلان يرى التالي: (لو كانت داعش تقاتل الروافض بكل وضوح وشفافية، لوقف معها القاصي والداني، ولكنها تقاتل كل من لم يؤيدها ولو لم يقاتلها). والشيخ سعد الدريهم يرى التالي: (لو مارس المجاهدون في العراق الغِلظة والقتل، حتى في من وقع أسراً حتى لو كان طفلاً أو امرأة، لهابَهم الرافضة. لكن المثالية هي من جعلتهم يتمادون). يعني ان الدريهم اكثر داعشية من وحوش داعش.

حين بدأت المعركة ضد سيطرة داعش في الفلوجة، قال الشيخ المتطرف عبدالعزيز الفوزان، الذي هو عضو في هيئة حقوق الإنسان الرسمية، انها حجة لإحداث مذبحة مروّعة لأهل السنّة. والشيخ الإخواسلفي سلمان العودة يدعو للفلوجة بالنصر على الجيش العراقي، لا نعلم ان كان لأهلها أم للمقاتلين فيها، أم امتزج الإثنان، حيث أن معظم من تبقى في الفلوجة إنما هم عوائل المقاتلين، وقد طلب الجيش العراقي مرارا من الأهالي مغادرتها. في حين ان مدير قنوات المجد الشيخ حمد الغماس قد قرر ابتداء ان الفلوجة تُذبح ولفت كدليل الى صورة الشيخ نمر النمر على إحدى الآليات العسكرية العراقية، كمادّة لتحويل المعركة الى حرب شيعية سنيّة، وليست حرباً ضد داعش.

ومع أن الوهابيين يقولون ان داعش صناعة ايرانية، وأحيانا ايرانية سورية امريكية الى آخره، إلا أنهم يرفضون الحرب ضدها، وهم لا يقبلون أن يقوم من صنع داعش بزعمهم بإنهائها.

الشيخ محمد الشنار يدعو الله بصراحة ان يجعل الفلوجة مقبرة للشيعة. وعلى نهجه دعا الشيخ سعد البريك، فالمعتدي بنظره ليس داعش المسيطر على الفلوجة منذ عامين، وإنما من يريد أن يحررها منه. والإخواني الشيخ عوض القرني يفترض مسبقاً أن عدو أهل الفلوجة هي الحكومة العراقية وقواتها بمن فيهم العشائر السنية المشاركة في تحرير المدينة. أما الشيخ محمد السعيدي، فبدل ان يطالب بوقف التحريض الطائفي، لما له من تداعيات داخلية سلبية، وأنه يؤدي الى تقوية داعش ورفدها بشباب الوهابية للحرب، فإنه طالب بمعاقبة من يتعاطف مع القوات التي تقاتل داعش فهم (حشد المجرمين، وعصائب المبطلين). والشيخ صالح المغامسي يرى المعركة بين حقد شعبي شيعي وجيش صفوي وظلم امريكي من جهة، وبين (أهلنا السنّة في الفلوجة)، ولكن المغامسي كما غيره من المشايخ لا يتحدث بكلمة سوء عن داعش، وكأنها غائبة عن المشهد السياسي والعسكري، وليست طرفاً أساسياً فيه وفي الحرب.

الأمير خالد آل سعود يقول ان داعش صنيعة المخابرات الأجنبية، وان راعيها هي إيران، والهدف هو تشويه عقيدة التوحيد والسلف الصالح، ويقصد العقيدة الوهابية. والناقد عبدالله الغذّامي لا يرى فرقاً بين داعش ومن يقاتلها في الفلوجة، بل ان من يقاتلها هو صانعها والمستفيد الوحيد منها. اذن لمَ هذا الصراخ، ان كان الصانع يقاتل مصنوعه؟ والوهابي وليد الطبطبائي قرر وقوع مجازر حتى قبل ان تبدأ الحرب؛ وأما داعش فصنيعة امريكا وايران برأيه. حقاً: لا يوجد في الفلوجة إلا تنظيم داعش، ما دعا أحدهم أن يسأل: (وِشْ مشكلتكم أن يُباد هذا التنظيم؟ اليسوا خوارج وارهابيين؟). لا يستطيع مشايخ السلطة واعلامها القول ان داعش منّا! قلوبهم معها، وان اضطروا لقول عكس ذلك.

جمال خاشقجي، الصحفي المعروف، لم يستطع ان يقول انه مع حرب داعش في الفلوجة، فالوضع بالنسبة له مُلتبس وبالتالي: (الصمت أخفُّ وطأة) بزعمه. لكن المفكر محمد علي المحمود كان جريئاً، فقال: (علينا ان نعترف بأن ثمة مشكلة في الفلوجة طوال الـ ١٣ سنة الماضية. لماذا كانت كل التشكيلات الإرهابية تأوي اليها بالذات؟). وحلل سبب الصراخ حالياً بقوله: (الغاضبون من تحرير الفلوجة، كانوا صامتين مبتهجين طوال هذه الفترة التي تحكم فيها داعش الفلوجة. ما يزعجهم حقيقة هو دحر داعش).

وحسب تجربة الماضي، ففي كل الحملات التي تستهدف داعش، كان هناك تهويش مماثل لما يجري في الفلوجة: قالوا تكريت تُباد، وتحررت ورجع أهلها اليها. وقالوا الرمادي تُباد، وتحررت ورجع أهلها. والآن الفلوجة مع نفس الفيلم الهندي ونفس الممثلين. ولفت آخرون الى أن مشايخ السلطة ودعاتها كانت على الدوام خالية من استنكار واحد للقتل اليومي للعراقيين لسنوات عديدة. من يصدّق نياحهم ونباحهم اليوم؟. وسخر أحدهم فقال: (حدّثني أحد الثقات من أبناء الفلوجه، أنه شاهد ملائكة داعش السعودية، تفرّ من ملائكة الشعب العراقي)، في اشارة الى مقولة الشيخ محمد العريفي بأن الملائكة تقاتل في سوريا.

وحين كتب الشيخ السعيدي محرّضاً بشكل طائفي مقيت، رد عليه الصحفي صالح الطريقي: (ما رأيك ان احتلّ غزاةٌ مدينتك، فأصدرت الحكومة قراراً بتحريرها؛ فشنّ رجال دين من العراق حملة لمنع تحرير مدينتك؟). لكن تغريدة غير متوقعة ظهرت للدفاع عن الحكومة السعودية جاءت من السفير السعودي في العراق، حيث قال: (تم بحث العلاقات مع وزير الدفاع العراقي، وأكد الوزير أن تحرير الفلوجة من داعش يقوم بها الجيش العراقي، والتحالف الدولي، وأنهم حريصون على أهلها). وعاد المفكر المحمود فقال: (الإرهاب يأخذ بعضه برقاب بعض. لاحظ كيف أن الغاضبين جداً من رأيي يُظهرون عنفاً غير طبيعي، فكيف لو امتلك هؤلاء سلطة؟). واضاف: (لا أعجب من وعاظ التقليدية ـ يقصد الوهابية ـ المتطرفين وجماهيرهم، بل أعجب من بعض المثقفين الذين يشجبون تحرير الفلوجة، مع علمهم بكونها حرباً ضد الإرهاب). وواصل: (ليس مصادفة ان الغاضبين اليوم من دحر الدواعش، هم أنفسهم الذين لازالوا يبكون على صدام، وهم أنفسهم الذين يطالبون باطلاق سراح شيوخ التطرف). وذكّر المحمود بأنه (عندما بدأت داعش تنتشر وتستولي على المدن والقرى، قالوا: ثورة العشائر. وقلت: هو الإرهاب الداعشي، ثم انجلى الغبار عن داعش). وختم: (لا يضحك بعضنا على بعض، ولا تستفزنا الطائفية بخصوص تحرير الفلوجة. للأسف كانت هذه المدينة طوال الـ ١٣ سنة الماضية حاضنة للإرهاب).

وكان الصحفي محمد آل الشيخ قد علّق على موضوع الفلوجة فقال أنها (عاصمة الدواعش، وأن تسعين بالمائة من أهلها دواعش، فلماذا تجلجلون وتولولون عندما اقتحمها العراقيون لتطهير الأرض منهم؟)؛ وشرح بأن القضاء على داعش يتطلب اقتحامها، واذا كان هناك ضحايا من غير الدواعش تتمترس بهم، فهؤلاء غير مقصودين. لكن دواعش الداخل دعوا الى (الحَجْر على محمد آل الشيخ)، ووصفه الشيخ محسن المطيري بالمعتوه والخائن لأنه يقف مع الرافضة وامريكا.

تطييف الصراع السياسي في المنطقة جهد سعودي بامتياز. كان هدفه في البداية (حمائي) للنظام من خصومه المحليين، ثم تطور الهدف الى حماية الذات من آثار الربيع العربي الذي انقلب خريفاً، ثم استخدم الجهد لتكتيل الأنصار في معركة سياسية تتعدى الشعوب الى الحكومات لإقحام العالم السنّي في معركة بينيّة، لعل الرياض تسترد فيها بعض ما خسرته من نفوذ.

الرياض ارتكست في الفتنة الطائفية، رغم علمها بتداعيات الصراع الطائفي على كل بلد عربي وإسلامي؛ ورغم علمها أيضاً بأن هذه المعركة الطائفية تحوّل فلسطين الى معركة ثانوية جداً.

الصفحة السابقة