عهد سلمان بين النفوذ والفوضى

محمد قستي

في الحصاد النهائي لعهد سلمان، وبعد عام ونصف على حكمه، هل يمكن القول بأنه نجح في تعزيز نفوذ المملكة إقليمياً ودولياً؟

هل يمكن المجادلة على قاعدة أن سياسة «الحزم» التي اعتنقها سلمان، جلبت الاستقرار لدولته، وأنقذت النظام السياسي من خطر الانزلاق الى الفوضى، والتفكك، والانهيار؟

هل استعاد سلمان «الدور المحوري» للدولة السعودية، بحيث بات قادراً على أن يملي سياسات وتوجّهات، ويشارك في صنع قرارات دول إقليمية، ويؤثّر على قرارات أممية؟

في جبهة المناصرين للرأي القائل بأن السعودية في عهد سلمان باتت أكثر نفوذاً وقوة من ذي قبل، يقدّمون سرديّة مدجّجة بتفاصيل صغيرة للخروج بتصوّر كبير وعام.

لا شك أن السلوك السياسي العام للملك سلمان والفريق الذي اختاره، ينبىء عن طموح غير عادي. بل قد تكون صفة «الرشاقة» لدى هذا الفريق، هي الأقرب للواقع من أي فريق بيروقراطي آخر حكم المملكة السعودية.

ولا ريب أن العهد الجديد يريد أن يكون مختلفاً، ومختلفاً جداً أيضاً عن العهود السابقة، سواء كان في خياراته، ورهاناته، أو في رؤيته، وسياساته، بل وحتى في مغامراته.

في الداخل، وعلى مستوى شكل الحكم، بدأ سلمان عهده بعمليات جراحية خاطفة، لاعادة تشكيل السلطة وتركيزها، بعد استبعاد أي منافس حقيقي أو محتمل. فقد أبعد عشية استلامه السلطة في 23 يناير 2015، جناح الملك عبد الله، بعزل مهندسه خالد التويجري، ومعه أبناء عبد الله من إمارتي مكة والرياض، وتم تحجيم الامير متعب بن عبد الله، وزير الحرس الوطني، عبر تخفيضه الى مستوى عضو في لجنتي الشؤون السياسية والأمنية، برئاسة محمد بن نايف، ولي العهد ووزير الداخلية، كما استُبعد من لجنة الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة محمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع.

وفي ضربة أخرى خاطفة، أُطيح بولي العهد الأمير مقرن بن عبد العزيز في 29 إبريل 2015، كما تم تعيين محمد بن نايف بدلاً منه، ومحمد بن سلمان ولياً لولي العهد.

وبذلك، حسم سلمان معادلة السلطة، ولو الى حين، وضمن مكاناً لإبنه محمد بن سلمان، على الأقل حتى الآن، وقبل أن يقدم على خطوة أخرى لاحباط أي خطة مستقبلية للملك القادم، باقتفاء خطى سلمان نفسه في إقصاء الخصوم.

في الداخل أيضاً، وعلى مستوى أوضاع حقوق الانسان، تبنّى سلمان سياسة شرسة في التعامل مع الناشطين والمناصرين للحريات والإصلاحات السياسية. وأطلق يد ابن نايف، وزير الداخلية، الذي أراد أن يثبت لعمه، الملك، جدارته في تولي المنصب، ولاية العهد، وأنه رجل المهمات الصعبة، والجدير بمسؤولية الحفاظ على مستقبل العائلة المالكة وعرشها.

بدا الملك سلمان غير آبه بما يقال عن بلاده، وعن سجلها الحقوقي، في الخارج، فقد رصد مبالغ مالية طائلة لدفعها «رشاوى» لمؤسسات دولية حقوقية، أو سياسية أو أمنية، فيما أعطى توجيهاته للداخلية، بأن تبطش بقوة بكل من يطالب بالتغيير، أو يعارض، أو يتبنى آراء مخالفة لسياسات الدولة. وقد استعان في ذلك بمؤسستين: الأمنية، والدينية.

لا ريب أن تقارب سلمان مع رجال الدين الوهابيين، قد أوجد له مسوغاً للبطش. فأحكام الاعدام، وعقوبات السجن بآجال طويلة، تصدر عن قضاة ينتمون الى المؤسسة الوهابية، وإن العلاقة المتّسقة بين المؤسستين الأمنية والدينية، تجعل من ممارسة الاستبداد عملية مريحة ومأمونة العواقب.

بإمكان المراقب، وبسهولة متناهية، أن يلحظ التدهور المتسارع في النشاطات الأهلية الحقوقية والثقافية، في عهد الملك سلمان. فلم يعد يلحظ التفوق الذي كان سابقاً في مواقع التواصل الاجتماعي، ولاسيما في موقعي «تويتر» و»فيسبوك» للسعوديين، نتيجة تباين الآراء وجرأتها. فقد باتت مواقع التواصل الاجتماعي حكراً على مناصري الحكومة، فيما تعرّض الناشطون الأهليون للاعتقال والتخويف، وقد نشرت الصحافة المحلية تصريحات تبطن تهديدات لمغردين على «تويتر» من بينها ما نشرته صحيفة (مكة) في 5 أكتوبر 2015 نقلاً عن مصدر قضائي في وزارة العدل السعودية، بأن «عقوبة القتل أشد العقوبات التعزيرية، ستطبق على مطلقي الإشاعات المثيرة للفتن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بما فيها تويتر، كونها تؤجج الرأي العام، وتسبب إرباكا للمجتمعات».

تتولى المؤسستان الأمنية والدينية دائماً، وضع التفسيرات المحددة لعبارات «إطلاق الشائعات» و»إثارة الفتن»، والتي تعني: أي رأي يستبطن مخالفة لتوجهات وسياسات الحكم السعودي، وأيديولوجيته الدينية.

من جهة اخرى، قامت الداخلية السعودية بتنفيذ أحكام بالأعدام تعدّ قياسية بالمقارنة مع العهود السابقة، إذ ارتفع عدد أحكام الإعدام في المملكة في عام 2015 إلى 152 على الاقل، استناداً إلى بيانات رسمية، متجاوزاً بكثير عدد حالات الإعدام في عام 2014، الذي بلغ 87 حالة. وفي النصف الأول من 2016، بلغ عدد حالات الاعدام حتى 20 إبريل الماضي، أي في غضون أقل من أربعة شهور 85 حالة إعدام، فيما ينتظر العشرات أحكام بالإعدام، نفذ منها في 2 يناير 2016 اعدامات ضد 47 شخصاً، من بينهم الرمز الديني الشيعي الشيخ نمر النمر، وأربعة آخرين من الناشطين في حراك شعبي في القطيف، بدأ منذ مارس 2011. فيما ذكر تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية نشر يوم 27 مايو 2016 بـأن «المملكة العربية السعودية قد نفذت حكم الاعدام لـ أكثر من 100 شخص في الأشهر الستة الأولى من هذا العام». وبحسب جيمس لينتش نائب مدير المنظمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فإن: «الإعدام في المملكة العربية السعودية قد ارتفع بنسبة كبيرة منذ عامين، ولم يظهر هذا الاتجاه المروع أي مؤشر على تباطؤ».

إن الوتيرة الارتدادية للحراك الشعبي في مواقع التواصل الاجتماعي، كأحد أقنية التعبير عن الآراء الحرة، يمثّل، دون ريب، علامة سلبية فارقة، بالنظر الى الآفاق التي يوفّرها الفضاء المفتوح للشعوب، من أجل تحقيق تطلعاتها، والارتقاء بعلاقاتها الداخلية، وكذلك مع العالم الخارجي. إن خروج عشرات الآلاف من فضاء التواصل الاجتماعي، لا يعني تبدّل قناعات، فضلاً عن أن يكون تماهياً مع السلطة السياسية، بقدر ما هو ترقّب مشوب بالحذر، بانتظار الفرصة السانحة للعودة بشكل أكبر، لأن ثمة حقوقاً أساسية لدى المواطنين مرتبطة بهويتهم، وتكوينهم، ووجودهم ولا يمكن التنازل عنها.

يترافق مع سياسة القمع الشاملة ضد الناشطين، والفئات الاجتماعية والسياسية الفاعلة في البلاد، التراجع المتسارع في الأوضاع الاقتصادية.

فقد وصل سلمان الى العرش وكان في خزينة الدولة ما يربو عن 700 مليار دولار، ولكنّه تبنى سياسة اقتصادية راديكالية تقوم على أساس ضريبية عالية، والغاء الدعم عن السلع الأساسية، ولا سيما المشتقات النفطية، وعن الكهرباء، والاتصالات، والماء. وبعد عام على توليه السلطة، أعلن عن ميزانية بعجز فلكي غير مسبوق، كما ورد في بيانات الموازنة لعام 2016، والتي أعلن عنها في 28 ديسمبر 2015، إذ قدّر إجمالي الواردات بـ 608 مليار ريال، فيما قدّرت المصروفات 975 مليار ريال، أي بعجز بلغ (367) مليار ريال، أي ما يعادل 97.8 مليار دولار (أنظر موقع وزارة المالية السعودية، بيان الموازنة لعام 2016

https://www.mof.gov.sa/arabic/downloadscenter/pages/budget.aspx

تقارير المؤسسات المالية الدولية، من بينها صندوق النقد الدولي، تحدثت عن أخطار جديّة تواجه الاقتصاد السعودي قد تصل الى حد الإفلاس، نتيجة سياستها النفطية الراديكالية، والصرف المتهور على الحروب وغيرها. وقد حذر صندوق النقد في ديسمبر من العام 2015 من أن المملكة السعودية تواجه خطر الإفلاس خلال مدة 5 سنوات مقبلة، إذا استمر انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية في حال عدم خفض هذا البلد نفقاتها بسرعة كبيرة (قال محمد بن سلمان ان الإفلاس كان سيحدث في غضون عامين)، فيما تراجعت الاحتياطات من العملة الاجنبية للسعودية من 750 مليار دولار الى 654 مليار في غضون أقل من عام.

من المعروف أن السعودية دخلت في أكتوبر من العام 2014، في مغامرة خطيرة بإغراق الأسواق العالمية بكميات كبيرة من النفط بغرض الحاق أضرار فادحة بالاقتصادين الروسي والإيراني، في وقت كان الاقتصاد العالمي يعاني من انكماش وتراجع في مستوى الطلب على النفط، لاسيما في أوروبا والصين. كان التنسيق السعودي الأميركي في تنفيذ خطة استخدام النفط لأغراض سياسية واضحاً، إذ كانت الولايات المتحدة والغرب عموماً يخوضان حرباً مع الروس في ملف أوكرانيا وانفصال القرم، ومع إيران التي تخوض تجاذباً مع الغرب حول ملفها النووي.

كانت الرياض تدرك بأن حربها النفطية ليست دون تداعيات على اقتصادها المحلي، إذ إنها الدولة المصدّرة الأولى للنفط في العالم والتي تسيطر على ثلث انتاج النفط في منظمة «أوبك»، وهي سوف تتكبد خسائر باهظة.. وهذا ما حصل، في تكرار تفصيلي لما قامت به عام 1985.

كان على السعودية بعد عامين من إعلان الحرب النفطية، أن تستعد لمرحلة الإفلاس كما توقّع خبراء اقتصاديون، بل ربطها البعض بأزمة وجودية بحلول نهاية العقد الحالي. ولم يكن محض صدفة تزامن إعلان محمد بن سلمان رؤية السعودية 2030 بعد عامين من التحذير الصادر من أكثر من جهة دولية. وإذا كان بالامكان استخلاص عبر الحرب النفطية التي أشعلتها السعودية في أكتوبر 2014 هي هذه الرؤية التي نقلت الدولة ليس الى مستوى الدول الصناعية، بل الى شكل آخر من النظام الرأسمالي القائم على أساس شرعنة أدماج الواردات والاحتياطات المالية في الدورة الرأسمالية الأميركية، لا يكتفي فيها بمداخيل النفط، بل يضع كل مداخيل الدولة في خدمة النظام الرأسمالي الأميركي تحت عنوان المشاريع الاستثمارية، بما يعزّز من فرص الاستلاب والارتهان لإرادة الأجنبي، على حساب تنمية روح الاستقلال والانتاجية، والتحرر من أشكال الهيمنة الخارجية كافة.

من منجزات عهد سلمان: تقويض منظمة «أوبك» التي تحوّلت الى مجرد جثّة هامدة، بفعل السياسة السعودية الرافضة لأي صيغة تسووية للخروج باستراتيجية انتاجية وتسعيرية طويلة الأجل، مع أن أكثر الدول الاعضاء كانوا يأملون في اجتماعهم الأخير في مايو الماضي التوصّل الى اتفاق، ينقذ المنظمة والدول المصدّرة. ولكن لحظنا كيف أن أحد المشاركين في اجتماعات أوبك الأخيرة خلص للقول «أوبك ماتت».

السعودية مصرّة على الاحتفاظ بحصتها السوقية في المنظمة بواقع 10.4 مليون برميل يومياً، وتملي على الدول الأخرى الالتزام بحصّص تقرّرها لهم، وترفض إجراء أي تغييرات هيكلية، بل حتى الاتفاق الرباعي الذي جرى الحديث عنه في الدوحة بمشاركة فنزويلا والسعودية وروسيا وقطر في منتصف فبراير 2016 انتهى بصدمة في منتصف إبريل الماضي، حين تم استدعاء وفد الرياض على عجل من الدوحة، لتقدم بعدها الرياض شروطاً جديدة، تتعارض مع تجميد سقف الانتاج، وكان ذلك مطلباً أميركياً، ثم تلاه إعفاء الوزير المخضرم علي النعيمي في 7 مايو 2016 بطريقة مهينة، إذ كان على رأس وفد الرياض الى الدوحة، وإن طلب استدعائه قد تسبب في حرج بالغ له.

وفي كل الاحوال، فإن أوبك المنقسمة على نفسها، لجهة التعامل مع انخفاض أسعار النفط، والتوتر المتصاعد بين السعودية من جهة وايران والعراق، يجعل التوصل الى اتفاق حول تسعيرة ثابتة أو سقف محدود للانتاج أمراً متعذّراً. وإذا كانت السعودية تتحكم على مدى العقود القليلة الماضية في زيادة وتخفيض الانتاج، فإنها اليوم والتي تتبنى حسب قولها مبدأ المنافسة، وليس الاحتكار، للهرب من أي اتفاق داخل أوبك بين الدول الاعضاء.. تواصل اطلاق الرصاص على أرجلها، تعويلاً على رؤية السعودية 2030، وعلى الاحتياطات النقدية التي بدت غير قابلة للاستخدام بسهولة، لاندماجها في الدورة الرأسمالية الاميركية، فيما تضطر الى الاقتراض المتواصل من مؤسسات مالية أجنبية، أو من البنوك المحلية.

لم تكن السياسة النفطية السعودية بلا ارتدادات داخلية، فقد شهدت البلاد اضطرابات عمالية، خصوصاً بعد قرار شركات كبرى في المجال العقاري وحتى النفطي تسريح عشرات الآلاف من موظفيها. يضاف الى ذلك، ما تركته تدابير التقشف القاسية على الأوضاع المعيشية للمواطنين، ما يساهم في توفير ظروف لاضطرابات إجتماعية وأمنية قد تشهدها المنطقة. ففي نهاية العام 2015، قام آلاف من عمال البناء بإحراق الحافلات خلال تظاهرات لهم في مكة المكرمة، احتجاجا على عدم تقاضيهم رواتبهم منذ شهور. شركات كبرى مثل بن لادن وأوجيه للحريري، وغيرها في القطاع العقاري، واجهت تحدّيات كبرى انعكس على أدائها العام، فيما أوقفت الحكومة مئات مشاريع البناء، برغم من أن المجال العقاري يمثل ثاني أكبر مجال اقتصادي في البلاد.

في ظل هذا المشهد القاتم، ينصّب الملك سلمان نجله، محمد، في موقع بالغ الحساسية لإدارة مصير البلاد ومستقبل العباد، ويكون مسؤولاً عن خطط إقتصادية بعيدة المدى، وتكون مقدّرات البلاد كاملة في صميم تلك الخطط. هذا عدا عن منصبه العسكري كوزير دفاع.

وأما منجز الملك سلمان العسكري، فاليمن حاضرة كدليل.

ومنجزه السياسي، يكشف عنه الإتفاق النووي الإيراني، والوضع السوري، والأزمة في البحرين.

شرعية النظام تهاوت، والدولة تسير الى المجهول، وهذا أيضاً من منجزات الملك غير المبجّل سلمان!

الصفحة السابقة