تركيا والسعودية بعد الإنقلاب العسكري

تراقب السعودية بقلق التحوّل الكبير في السياسة الخارجية التركية بعد الإنقلاب، خاصة فيما يتعلق بالموقف من ايران والعراق وسوريا. الرياض تشعر بأنها ستكون وحيدة في معركتها الإيرانية الخاسرة

توفيق العباد

حين تكون العلاقة بين أنقرة وواشنطن سيئة يعني حكماً أن العلاقة بين أنقرة والرياض هي أيضاً سيئة.

مواقف السعودية عشية الانقلاب كانت لافتة، وتميل الى التأييد كما ظهر ذلك في قناة (العربية) و(الشرق الأوسط) و(الحياة)..ومواقف السعودية بعدها لا ترقى الى مستوى الندم والتراجع، ما دفع القيادة التركية الى وصف موقف حلفاء أنقرة بأنه بمثابة «طعن بالظهر».

من أجل فهم تحوّلات ما بعد الانقلاب وكيف تنعكس على علاقة انقرة بالرياض، نتوقف عند انعكاس الانقلاب الفاشل على العلاقات التركية الروسية، لأن ثمة تطوّراً لافتاً طرأ عشية الانقلاب. الصحافي الباكستاني سلمان رافي كتب مقالة في موقع (آسيا تايمز) في 21 تموز (يوليو) الماضي لفت فيها الى ان الاحداث التي تشهدها تركيا سيكون لها أثر كبير على جيوسياسياتها وسياستها الخارجية التي كانت تظهر مؤشرات حصول تحول قبل الانقلاب الفاشل.

وقال الكاتب أن حالة الاحتكاك بين تركيا والغرب من جهة والتقارب بين تركيا وروسيا من جهة إنما كان مؤشراً على حصول التحوّل، مضيفاً أن الهوة بين تركيا والغرب اتسع بعد الانقلاب الفاشل.

الكاتب نبّه الى أن خسارة تركيا لصالح روسيا ستعد بالنسبة للغرب نكسة جيوسياسية كبيرة إذ أنها سترفع الحصار الذي بناه الغرب على معبر الغاز الروسي الى أوروبا الذي يمرّ عبر أوكرانيا، مشيراً الى أن واشنطن كانت تعيق بناء إنبوب لنقل الغاز الروسي من اليونان يمر عبر تركيا.

ولفت الكاتب الى أن روسيا تدرك انها تحتاج تركيا من أجل تسهيل تدفّق الغاز وأنها لن تعود بحاجة الى اوكرانيا في حال أصبحت أنقره «المحور الجنوبي» لنقل الغاز. وتابع بأن تركيا ومن خلال إظهار استعدادها لتصبح «المحور الجنوبي: فإنها بذلك تلبي حاجتها أيضاً في مجال الغاز. وعليه شدّد على ان المصالحة بين روسيا وتركيا تتناسب والمصالح الحيوية لكلاهما في المنطقة.

التقارب الروسي التركي ليس مفصولاً عن الموقف التركي الغاضب إزاء حلفائه الذين طعنوه في الظهر..

هناك من يتحدث اليوم عن تحالف ثلاثي يضم تركيا وروسيا وايران..وهذا التحالف لم يكن مخطّطاً له قبل الإنقلاب بل هو وليد اختبار الأصدقاء الحقيقيين والخصوم الحقيقيين...مع التذكير بأن من المبكر الحديث عن تحالف بالمعنى الكامل للكلمة، ولكن ثمة مؤشرات تفيد بأن تحوّلاً ما قد طرأ على العلاقات التركية الغربية من جهة والتركية الروسية من جهة، بل مجمل العلاقات التركية مع غيرها بات اليوم في حال تبدّل.

في المعلومات أن خبراء روس تحدّثوا عن مكالمة هاتفية أجراها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الإيراني حسن روحاني، ولوّح بتشكيل «تحالف ثلاثي» يضم روسيا، ما سيتطلب تعديل الموقف التركي من سوريا.

 
التحول التركي: الرياض بلا حلفاء أقوياء

ويعتقد ستانيسلاف تارانوف مدير مركز الدراسات «الشرق الأوسط - القوقاز» التابع للمعهد الدولي للدول الناشئة حديثاً، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد فشل عملية السلام الشرق أوسطية، حاول توسيع نفوذه الجيوسياسي «على أجنحة حلف الناتو»، لكنه خسر لعبته أمام الشركاء الغربيين ووجد نفسه منجرّاً إلى نزاع إقليمي شامل بمشاركة سوريا والعراق.

وقال تارانوف تعليقاً على وضع أردوغان فيما بعد الانقلاب، إن الرئيس التركي أدرك منذ فترة طويلة، أنه وقع في فخ السياسة الغربية، علماً بأن سياسة الغرب هذه هي السبب الرئيس وراء قضية اللاجئين، وسبق لأردوغان أن تحدث عن ذلك علناً مراراً حتى فتح ممرات لهؤلاء اللاجئين إلى أوروبا، ما عرًض الأمن الأوروبي لخطر كبير.

ويرى تارانوف بأن مطالب أردوغان بتسليم الداعية الإسلامي فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة لتركيا، دون تقديم أي أدلة تثبت تورطه في تدبير الانقلاب، تدل على توجه أنقرة لتعقيد علاقاتها مع واشنطن عمداً، وعلى نية أردوغان الاعتماد على «الورقة الشرقية» مرة أخرى.

وأعاد تارانوف إلى الأذهان تصريحات سابقة لأردوغان هدد فيها بتوجه تركيا نحو منظمة شنغهاي للتعاون في حال إغلاق أبواب الاتحاد الأوروبي في وجه أنقرة.

وأضاف تارانوف قائلاً: «تتغير الصورة الجيوسياسية. وإذا كان أردوغان يمارس نهجه السياسي بثبات، وأنا أعني هنا اقتراحه حول تشكيل تحالف مع إيران وروسيا، فعليه أن يقر بفعالية نظام الأسد، وأن يجري المفاوضات في هذا السياق، وهذا ما يفتح الآفاق لتسوية الأزمة السورية».

وذكر الخبير أن التصريحات التركية التي صدرت حتى الآن، لم تدل على أي تغيير جذري في موقف أنقرة من حكومة بشار الأسد. لكنه اعتبر أنه من غير المستبعد أن تواجه تركيا مزيداً من الأزمات في القريب العاجل، على خلفية مساعي المعارضة التركية الموالية للغرب. ويضيف: «من المفهوم أن أنقرة في مثل هذا الوضع تدخل في تحالفات تكتيكية. وتحاول السلطات التركية أن تحشد دعماً من جانب الحلفاء الذين يمكنهم أن يلعبوا «دور التوازن» في العلاقات المتهورة بين تركيا والغرب».

وبحسب خبير في الشؤون العربية، فإن ما يشغل بال عبد الفتاح السيسي وحليفه بنيامين ناتانياهو، ويُذهب النوم من عينيهما، هو الوساطة الجزائرية بين تركيا وسوريا، واحتمال صكّ شراكة جديدة تضمهما الى إيران...بعد طول اشتباك وعداء. ويضيف: «والأنكى ان كليهما ممتعضٌ حدّ الثمالة من تحوّل باراك أوباما من مطالبٍ برأس الأسد الى طالب قربٍ منه، لأنه ببساطة يحتاج جيشه لقتال الخطر الأكبر، أي تنظيم داعش». يشاركهما هذا الامتعاض آل سعود وآل نهيان والملك الأردني ولكن ما باليدّ حيلة !

تبدو السعودية عالقة في تشابكات العلاقة بين انقرة وتل أبيب والقاهرة وتل أبيب وكلاهما ودمشق، والتحوّلات المتسارعة في المنطقة. زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري الى اسرائيل في 10 يوليو الماضي والمحادثات التي أجراها مع نتنياهو تلمح الى العلاقات المتوترة بين الحكومتين وبين نتنياهو عبد الفتاح السيسي على وجه الخصوص.

لم يناقش شكري المسألة الفلسطينية بل إن ذكرها في المباحثات كان للتغطية على الملفات الحقيقية للنقاش. وفي الواقع كان النقاش يدور حول الحرب في سوريا ولا سيما التحوّل في النظرة الى الأسد من كونه مجرم حرب مطلوب رأسه من الولايات المتحدة وأوباما تحديداً، الى سيد النظام والجيش الذي بات مطلوباً حتى من أوباما بوصف الجيش السوري القوة العسكرية القادرة على محاربة الجماعات الجهادية ولا سيما داعش.

هذا التحوّل المدهش تصدر الواجهة منذ نهاية يونيو الماضي. وفيما كان يضع لمساته الأخيرة على المصالحة مع الكيان الاسرائيلي بعد سنوات ست من الخصومة، أرسل الرئيس رجب طيب أردوغان، بحسب مواقع غربية اسرائيلية في 10 يوليو الماضي، مبعوثين رفيعي المستوى في الاستخبارات التركية الى دمشق لإيصال رسالة الى الرئيس بشار الأسد في مهمة سريّة على أرضية طي صفحة الماضي. وقد أخذ نتنياهو هذه الخطوة في الاعتبار، ولابد أن الرياض قد أصيبت بإحباط من الخطوة التركية. في واقع الأمر، أن القيادة التركية قررت منذ شهرين ما قبل الانقلاب التخلي تدريجياً عن فكرة إطاحة الإسد، وأن ما تسعى اليه هو تحسين وضعها التفاوضي، وأبلغت ذلك الى طهران حين كان أحمد داود أوغلو لا يزال رئيساً للحكومة، وهذا ما ظهر على لسان خلفه علي بن يلدريم حين تولى المنصب وتحدث صراحة عن علاقة جيدة مع سوريا. أكثر من ذلك، فإن التنسيق بين طهران وأنقره بلغ مستويات متقدّمة، وأن وفداً تركياً كان في إيران عشية الانقلاب ما انعكس على موقف حكومة روحاني رفضاً للانقلاب ودعماً لحكومة أردوغان.

أردوغان يتصرف بهدوء وخلف الكواليس، وبعيداً عن أعين الرياض التي تبدو أنها يائسة من ضبط إيقاع أنقره، التي تجد في الرهان على السعودية مغامرة ومكلفة وتأتي على حساب علاقاتها الاستراتيجية مع موسكو وطهران..

الكلام حول ما اذا التحوّل التركي بعد الانقلاب يسير باتجاه فك ارتباط مع محور وربطه مع محور آخر مضاد، إذ لا يزال خاضعاً للتكهّنات والتخمينات دون معطيات صلبة يمكن الاستناد اليها..وفي كل الأحوال، النتائج ليست في صالح السعودية، التي تريد انحيازاً كاملاً لا تجزئة في العلاقات ولا اعتبارات لجيرة أو مصالح مشتركة أو حتى تحالفات الضرورة. الرياض تريد دولاً تصغي لها، ولمخاوفها، ولأوامرها مدفوعة الأجر. أردوغان ليس كالسيسي ولن يقبل أن يكون كذلك، إذ يرى في نفسه زعيماً لتيار في الأمة الاسلامية، وكان ينظر اليه الاخوان المسلمون على أنه «الأمل» في إعادة إحياء مشروع الخلافة العثمانية التي سقطت سنة 1924.

ما يقوم به أردوغان لا ريب أنه لا ينسجم مع رغبة الرياض، ولا التحركات التي تديرها السعودية ومصر والامارت لجهة تشكيل تحالف سني في مواجهة المحور الايراني الشيعي. على أية حال، فإن الحسابات المذهبية لدى السعودية لم تثمر حتى الآن سوى في توتير المناخ السياسي في الشرق الأوسط، ولكن لا يحقق مكاسب من أي نوع. ومع ذلك، فإن الرياض ماضية في هذا الخيار وتجرّ وراءها أطرافاً طامعة مثل باكستان ومصر والأردن السودان أو محرجة مثل الامارات والكويت، وهناك دول ترفض الانزلاق نحو الغرائزية السعودية.

في مقالة للكاتبة التركية مروة شبنام أورتش (هل تغير تركيا سياساتها في سوريا أو تبدّل الأولويات؟) في صحيفة (صباح) اليومية في 23 يونيو الماضي قراءة جادّة لتحوّلات السياسة التركية إزاء المسألة السورية، بوصفها ضابطة ايقاع في مجمل الجيوسياسات الاقليمية والدولية. تقول أورتش بأن تركيّا غيرت أولوياتها تجاه سوريا عدة مرات في السنوات الخمسة الماضية، وذلك بناء على تقييمها للتهديدات. ففي البداية، طالبت أنقرة الأسد بالقيام بإصلاحات، ثم أصبح تنظيم الأسد هو الخطر والتهديد الرئيسي لأنقرة في سنوات 2012-2013، ثم أصبح تنظيم داعش الإرهابي هو الخطر الأكبر في 2014، ثم أصبح بي كا كا الخطر الأكبر في 2015-2016. والتصريحات الصادر عن أنقرة تشير إلى هذا التقلب في الأولويات في كل مرة.

وتشرح الكاتبة طبيعة هذه التحوّلات بأنها للتماشي مع تغير الظروف. وعليه، فإنّ إجراء تغيير دوري على الأولويات يبدو أمراً لا مفرّ منه في مثل هذه الأزمات المعقدة وطويلة الأمد. وتخلص الى أن أياً من الخيارات أعلاه لن يصلح كخيار ثابت تتبعه السياسات التركية. ومع ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة التي وضعت هذه الجزرات الثلاث واحدة تلو الأخرى أمام تركيا وحبستها في متاهة، لم تتعب بعد من هذه اللعبة. ويبدو أن أنقرة مجبرة اليوم لاختيار واحدة من أدوات الابتزاز هذه. هل ستختار تركيا الأسد أم بي كا كا، وهل ستواصل الركض في هذه المتاهة، أم أنها ستضع الأمور عند نصابها الصحيح وتخاطر بتلقي نوعية جديدة من الهجمات والاتهامات كتلك التي تقول بأن تركيا تدعم داعش؟ أو ربما تصبر تركيا في محاولة لاقناع أولئك الذين تعبوا هم أيضا من سياسات ومخططات الولايات المتحدة للمنطقة، وتحارب على الجبهات الثلاثة في الوقت نفسه؟

على ما يبدو، إن الانقلاب الفاشل حسم جزءً من خيارات أنقره، فقد اختار أردوغان أن يعيد ترتيب أولوياته، وإن ذهابه ناحية موسكو مجدّداً يأتي على حساب تحالفاته مع الغرب الذي ترك تركيا وحيدة عشية الانقلاب حسب أردوغان في مقابلة مع صحيفة (لوموند) الفرنسية في 8 أغسطس الجاري، كما انتقد الزيارة المتأخرة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري الى تركيا والمقررة في 25 أغسطس، والتي وصفها أردوغان بأنها «متأخرة جداً»، وليس فيها ما يفهم منه بأنه تضامن مع تركيا في محنتها بعد الانقلاب وهي الحليف الحيوي للولايات المتحدة.

في الخلاصات، فإن علاقات أنقره مع الغرب قد تضرّرت كثيراً، وتركت انعكاساتها على علاقاتها مع حلفاء الغرب ولا سيما السعودية التي تتحدث مصادر تركية وغربية عن ضلوع في الانقلاب بالتعاون مع محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي الذي طار فجأة الى الدوحة، في اليوم التالي لفشل الانقلاب من أجل إيصال رسالة الى أنقره تنفي فيها الامارات أي دور لها في الانقلاب..بكلمة، تركيا في حال تغيّر ولكن السؤال الكبير: إلى أين يمكن أن يصل هذا التغيّر، وما هي الأضرار التي يمكن أن يلحقها هذا التغيّر بالسعودية التي تخوض حرباً مجنونة مع ايران ومحورها.

الصفحة السابقة