أجج الفتنة وأهان الشعب وخالف الأعراف الدبلوماسية

العراق يطرد سفير السعودية

هاشم عبد الستار

العراق يطرد السفير السعودي الذي أمضى أقل من سنة في منصبه، بعد قطيعة امتدت مع العراق لربع قرن.

والمملكة تبتلع الموسى، وتنتصر لنفسها على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى صفحات الجرائد المحلية، ولكنها تعيّن لها سفيراً جديداً حسب الرغبة العراقية.

كيف تنظر السعودية للعراق في رؤيتها الاستراتيجية إن كانت هنالك من رؤية؟

هل هي بصدد تحسين العلاقات معه، أم إثارة الفتن فيه؟

وكيف هو مستقبل العلاقات بين البلدين؟

منذ أن تأسس العراق كدولة قطرية، وحتى قبل ذلك، كان للطبقة الحاكمة النجدية السعودية مشكلة مع العراق.

مع أكثريته المختلفة مذهبياً، ومع قيادته السياسية السنيّة، سواء كانت ملكية هاشمية، او جمهورية قاسم، او بعثية صدام حسين، أو نصف الديمقراطية الحالية المحكومة من الأكثرية الشيعية.

أسباب العداء السعودية للعراق ككينونة سياسية.. كثيرة: مذهبية، وسياسية، واستراتيجية.

ورغم ان الرياض ساهمت بشكل كبير في إسقاط حكم صدام حسين، ودعم الحرب ضدّه، إلا أنها لم تقبل بالبديل، وحاولت تدميره بجهاد دواعشها وقواعدها، وحسب الشيخ اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى فإن (الجهاد في العراق) وليس في السعودية.

وحاولت الرياض محاصرة النظام الجديد سياسياً حتى لا يكون له دور فاعل في محيطه الإقليمي.

وحاصرته اقتصادياً بتهديد الشركات النفطية من خسارة العقود اذا ما وقعت عقوداً نفطية مع الحكومة العراقية.

بل كان إغراق السوق بالنفط، يستهدف اضافة الى آخرين، العراق بالدرجة الأولى، باعتباره المنافس الأول في المخزون النفطي العالمي.

وحين أسقطت داعش الموصل، طلبت الرياض من أمريكا ان لا تتدخل، وأن تكمل داعش مهمتها.

لكن السحر انقلب على الساحر، وتشكل الحشد الشعبي، وأنهى حلم السعودية باسقاط النظام الحالي.

قيل ان عداء الرياض لشخص رئيس الوزراء المالكي، لكنها لم تكن على علاقة جيدة مع الجعفري قبله، ولا حتى مع العبادي بعده، بل انها لم تساعد اياد علاوي حين كان بحاجة اليها، وحين قربته منها كان قد انتهى سياسياً.

بتراجع داعش في العراق، قبلت الرياض على مضض ان ترسل سفيراً لها الى بغداد بعد اكثر من خمسة وعشرين عاماً.

فكان ثامر السبهان اول سفير لها، وبدأ خدمته بداية يونيو ٢٠١٥. وفي نهاية أغسطس ٢٠١٦ طلبت الحكومة العراقية من الرياض أن تستعيد سفيرها مجدداً.

الرياض عيّنت سفيرها السبهان بعد أكثر من عقد من محاولات خليل زاد سفير امريكا الأسبق في بغداد، والذي ألحّ على الأمراء السعوديين بتحسين علاقتهم مع بغداد، حتى لا يذهب بعيداً بنظره باتجاه طهران. لكن الرياض كانت ترى إسقاط النظام كاملاً. وحين عجزت عادت متأخرة، ولكن من باب مصادمة ايران، والأكثرية السياسية فيه، بل والأكثرية الشيعية.

ظن السعوديون ان بإمكانهم استكمال لعبتهم السابقة، بشكل مختلف لتحقيق نفس النتائج.

ارادت السعودية تأسيس موقع قدمٍ لها في بغداد على أساس صراع طائفي من جديد، يبثه السبهان بين العراقيين، وعلى أساس مصادمة أعزّ ما لدى العراقيين وهو (الحشد الشعبي) الذي تصدى لداعش ويكاد يقضي عليها؛ بل ومصادمة أكبر كتلة برلمانية يرأسها نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق، وهو حزب رئيس وزراء العراق الحالي العبادي.

لهذا قيل له: إرحل بعد ضغوط شعبية وبرلمانية وسياسية، بل وبعد تهديدات بقتله مبطّنة حيناً وصريحة حيناً آخر.

وهذا ما تم فعلاً.

السبهان والهياط السياسي

قبل أن تطلب الحكومة العراقية من الرياض سحب سفيرها، كان واضحاً أن السبهان قد تجاوز كل حدود اللياقة الدبلوماسية، ووصل الأمر الى حدّ الصفاقة في التدخل المباشر، ومهاجمة أطراف سياسية حاكمة، وقال أموراً لا يجرؤ السفير الأميركي في العراق قولها دون أن تسبب ثوراناً هائلاً.

تغريدات السبهان في موقع تويتر، التي أهان فيها العراقيين، وطعن في عروبتهم، وشتمهم ووصفهم بالطائفية بتبجح غير عادي، وافتعل مؤامرة لم تقع بشأن اغتياله، وان كانت هناك دعوات لذلك.. كل هذا كان يدل على أن عمر السبهان وهو رجل عسكري وأمني في الأساس، قد اصبحت معدودة.

أيضاً، قبل أيام من طرد السبهان، كتب الصحفي طراد العمري مقالاً ضد السبهان وطالب وزارة الخارجية بالإعتذار وسحبه وتعيين سفير جديد، بعنوان: (السبهان والمهايط السياسي)، اعتبر فيه تغريدات السبهان (خروجاً سافراً عن اللياقة والأعراف الدبلوماسية، تصيبه بالضرر شخصياً، وتنعكس سلباً على حكومته، وتحديداً وزارة الخارجية، كما تؤدي إلى شرخ في العلاقات السعودية/ العراقية على المستوى الرسمي والشعبي). وأضاف بأن (أسلوب السبهان كان متعجرفاً ومليئاً بالغرور وأقرب إلى «المهايط» حسب التعبير المحلي السعودي).

طراد العمري قال ان خلفية السبهان العسكري (لا تقبل أو تجيز له عدم التهذيب واللياقة. وكان حرياً به أن يعتذر مباشرة بعد تغريداته الغير لائقة التي لا يقبلها أي عرف دبلوماسي، كما كان من الواجب أن تعتذر الخارجية السعودية ويتم إستبدال السبهان بأسرع وقت ممكن، من دون أن تطلب الحكومة العراقية رسمياً. إذ أن الحكومة السعودية ووزارة الخارجية، لن تقبل من أي سفير دولة أجنبية لديها، كائنة ما كانت الدولة، أن يصرح بمثل ما صرح به ثامر السبهان في العراق).

ولاحظ العمري غياب صوت العقل في الكتابات الصحفية المحلية التي تدعم السبهان، حتى قبل استبعاده، وانتقد صمت وزارة الخارجية السعودية عنه، وعدم اعتذارها عن تصرفاته العنجهية، وشرح بأن تبرير خطأ أي مسؤول ليس عملاً وطنياً (بل دليل عصبية جاهلية لمحاولة جعل الباطل حقاً).

وفي التقييم لطراد العمري، فإن السفير السبهان (هاجم العراق الموكل إليه تحسين العلاقة معه، واتهمه بعدد من الأمور التي تجرح كبرياء الدولة والحكومة والشعب، وبدلاً من أن يكون سفيراً يتعامل مع الجميع ويتصادق مع كافة الطوائف من دون عاطفة معلنة في الحب أو الكره، عمل السبهان على تأجيج الطائفية المشتعلة أساساً في دولة كالعراق).

كلّنا ثامر السبهان!

كان من المستحيل بقاء السبهان سفيراً.

وقد ابلغت الخارجية العراقية الحكومة السعودية بأن تسحب سفيرها، بعد ان استدعته مراراً وحذرته من تصريحاته وتدخلاته، ولكن لم يستمع للتحذير. وأصدرت الخارجية العراقية بيانا اوضحت فيه تجاوزات السبهان وعدم لباقته الدبلوماسية وتدخلاته غير المقبولة، وقالت انها طلبت من الحكومة السعودية سحب سفيرها هذا.

 
السفير المطرود ثامر السبهان

لم ترد الرياض ببيان، فحجتها ضعيفة، ولكنها نفّست عن جمهورها وغضبها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فوضع هاشتاق بعنوان: (كلّنا ثامر السبهان)؛ ولا يوجد لدى هذا الجمهور من انتصارات إلا على تويتر، في حين ردّ العراقيون بهاشتاق مقابل: (ثامر السبهان برّا).

في الصحف السعودية كانت هناك مناحة حكومية؛ لكن لا تستطيع الرياض التصعيد، ولم يكن أمامها سوى الإذعان وتغيير السفير او قطع العلاقات. رئيس تحرير الشرق الأوسط سلمان الدوسري قال بأنه لا يوجد سفراء سعوديين هواهم فارسي حتى تطلب الحكومة العراقية استبدال السبهان!

أما السبهان نفسه، فقد طاف على عشرات القنوات الفضائية، وصرّح للعديد من الصحف، مؤكدا على ثابت موقف حكومته، وأنه لم يرتكب خطأ، وأن المجرم الحقيقي هو إيران!

قال السبهان لصحيفة الوطن السعودية بأن (السعوديين كلّهم ثامر السبهان). وفي مقابلة مع قناة الإخبارية السعودية، وضع السبهان قرار طرده في إطار صراع بلده مع ايران، او بعبارته (هناك ضغوط خارجية خلف صدور بيان الخارجية العراقية). فهو لا يعترف باستقلال العراق، وظّنه ضيعة سعودية، ولم يهتم بإهانة العراقيين انفسهم ومسؤوليهم.

وهذا الإحتقار السعودي للعراق شعباً وحكومة انعكس على الصحافة، كما في كلمة اليوم (استباحة إيران القرار العراقي)؛ وفي صحيفة الرياض حيث تقرأ (السبهان وسيادة العراق وعروبته)، حيث الطعن في عروبة العراقيين مسألة عادية في اللغة الشوارعية السياسية الرسمية السعودية. وكذلك عكاظ التي كتبت عن (السفير الذي يغيظ إيران وأبواقها). وكأن هذا السفير لم يغظ العراقيين انفسهم حين طعن فيهم وأجج الصراع الطائفي، وتدخل في الشأن الداخلي، واستخدم العراق منصّة لحروب السعودية مع ايران.

الإخواسلفي الشيخ عوض القرني وصف السفير السبهان بأنه (بطل) وأنه ممثل صادق للمسلمين السنّة. وهاهنا تكمن مشكلة الرياض وجمهورها ومشايخها المتطرفين. فالسعودية نفسها متنوعة مذهبياً ويفترض ان يمثّل كل مواطن بغض النظر عن مذهبه؛ وفي علاقة السبهان مع العراق يفترض أن يهتم بجميع العراقيين وتقوية الأواصر معهم. لكنه لم يفعل، ولو فعل، لعدّ ذلك تحوّلاً في الذهنية الوهابية النجدية الحاكمة.

أيضاً فإن الإخواني الصحفي خالد العلكمي، توتر هو الآخر من هزيمة طرد السبهان، وقال ان سببها (كلاب دولة الشيطان في العراق)، مؤكداً ان السبهان لا شغل له ولحكومته في العراق في تقوية الروابط بين البلدين، بل بالصراع مع ايران. اما الإعلامية جواهر لافي فتندب العراق، وتقول انه فقد عروبته: (نريد العراق عربياً).

وهذا طعنٌ في الشعب العراقي الذي أصبح يتكلم الفارسية بدل العربية مثلاً؟ ولا يكون العراق عربياً إلا اذا رضيت عنه السعودية التي ـ وبنفس الموازين ـ فقدت عروبتها وصارت تتكلم العبرية او الإنجليزية بلهجة أمريكية.

فإما أن تكون وفق الهوى السعودي وإلاّ فأنتَ غير مسلم، وغير عربي حتى!

اذا كان العراق غير عربي، وحكومته عميلة لإيران بزعم آل سعود، فلمَ إذن تفتح الرياض سفارة لها هناك؟

هذا ربما ما دار بخلد أحدهم حين كتب: (أتمنى ان تُغلق الدولة سفارتنا في العراق وتقطع العلاقات الدبلوماسية، لأنه حالياً لا يوجد فرق بين الحكومة العراقية والإيرانية). أو كما قال آخر: (لا مبرر لوجود سفير في دولة محتلّة).

ليت الرياض واصلت مسيرتها في قطع العلاقات مع العراق، فرعونتها جعلتها تخسر نفوذها بشكل متسارع.

نعم.. العراق كان بحاجة الى علاقة مع السعودية تكفيه غائلة الدواعش والقواعد والتآمر السعودي.

اما وقد فعلت الرياض كل ما بإمكانها طيلة 13 عاماً في تدمير العراق، فماذا ستفيد علاقة مع السعودية، خاصة اذا ما كانت الأخيرة مصرّة حتى الآن على تدمير العراق وتأجيج الفتنة فيه، من خلال استثمار التمثيل الدبلوماسي؟

نعم.. اقطعوا العلاقات مع العراق غير العربي، بزعمكم، وقووا روابطكم مع الصهاينة وافتحوا لهم سفارة في الرياض، فهم العرب الأقحاح، وحبّذا يكون دحام العنزي او اللواء أنور عشقي او حتى تركي الفيصل، أول سفير لكم في تل أبيب.

لكن الصحفي الخديوي، جمال خاشقجي، يرى إبقاء السفارة مفتوحة حتى لا تستفرد ايران بـ (عراقنا)!

عراقكم؟ حلال أبوكم الملك المؤسس ابن سعود؟ منذ متى كان عراقكم؟ وأنتم لا ترونه سوى مزرعة للشرك والكفر والخطر؟ ولماذا بعد خمسة وعشرين عاماً تكتشفون ان ايران تستفرد بالعراق؟

اعلامية عراقية تسأل السعوديين: (هل العراق إرث سعودي؟ أم ضيعة سعودية؟ لكي يتفلسف كل جاهل عنه؟).

أغلب تغريدات السعوديين تدور حول ان ايران يسيطر على العراق، وان طرد السفير السعودي من بغداد لم يكن ليتم لأنه أخطأ، ولكن لأن إيران لم ترضَ عنه بزعمهم.

الاعلامي عبدالمحسن المقرن لا يميّز عمداً بين العراق وايران، ويحذر العراقيين بأن السفير وإن تغيّر، فإن السلوك لن يتغيّر. يعني على خطى السبهان؛ وعبدالرحمن البلوي يقول ان ايران لا تريد لعربي ان يكون ذا صوت مرتفع على ارض العراق، وأنها أصدرت لأذنابها في بغداد (يقصد المسؤولين العراقيين) بأن يطلبوا تغيير السفير السعودي.

والأمير خالد آل سعود يقول ان المجوس هم الحاكم الشرعي في العراق. طبعاً هذا لا يعتبر تكفيراً ان تخرج الناس من الملّة؛ وهذا يبين ان العراق لا قيمة له في الذهنية السعودية الرسمية أساساً. ويتحدّى الاعلامي وليد الفراج حكومة بغداد: (لن نرسلَ لكم سفيراً إلا بمعاييرنا)، يعني ان النية تتجه لإرسال سفير وليس لقطع علاقة، وان السفير الجديد سيقوم بذات ما قام به السبهان.

ليست الرياض هي من أخطأ في فهم الواقع العراقي فحسب، وكانت سياساتها بدعم القاعدة وداعش وتأجيج الصراع السني الشيعي قد أججت النقمة الشعبية عليها. كلاّ فالسعودية لم تخطيء أبداً كما يرى الاعلامي جمال خاشقجي. الأخير يرى ان حكومة العراق هي التي (أخطأت وضيّعت بوصلتها بزعمه. هي من خرج من ثوبها ومن هويتها وتاريخها وقوميتها). هذا تحقير واحتقار سعودي للعراق الذي يوصف بأنه جمجمة العرب!

وبنظرة استعلائية يكتب الإخواني السعودي محمد العزّام بأن السعودية هي الدولة الوحيدة التي تشتغل لاسترداد العراق للعرب.

فهل هذا عمل له علاقة بالدبلوماسية.

فالعراق بزعمهم، مسروق ليس من الأمريكان، ولكن من ايران. والرياض تلعب دور البطولة في استرداده ليس لها ولكن للعرب!

ومن الاهانة ما كتبته الإعلامية ريم سليمان بأن لا بديل في العراق عن الإسلام والعروبة.

أيّ رعونة هذه؟ هذا طعن في اسلام العراقيين وعروبتهم إذ أصبحوا كفاراً وغير عرب لأنهم خالفوا سياسة السعودية التي توزع شهادات الاسلام والعروبة على من تريد، وهي الدولة التي تجلس في حضن الأمريكان وبحمايتهم!

ومن إعلامي الى آخر. يقول مالك نَجَر ان ايران تقف وراء قرار الخارجية العراقية بطرده، ويخلص الى أن (العراق يحكمه اللصوص وحمير إيران).

الطريف ان الناقد عبدالله الغذامي الذي عاد الى قوقعته المذهبية والمناطقية يصرخ بعد طرد السبهان: (واعراقاه)!

ما أعظم حبّكم للعراق الذي زرعتموه بالمفخخات وأرسلتم اليه شبابكم الداعشي ليفتك به بالتفجيرات في المساجد والأسواق.

وعبدالله الشمّري، الإعلامي والأكاديمي، يهدد العراقيين بأن عدم تقديرهم للقرار التاريخي للملك سلمان بتعيين سفير لديهم في بغداد سيكون مكلفاً.

يعني ماذا ستصنعون أيها السعوديون؟ هل سترسلون على العراق عاصفة حزم، بعد عاصفة القاعدة، وعاصفة داعش، وعاصفة الإحتلال الأمريكي للعراق الذي دعمته الرياض؟

الرياض بحاجة الى مراجعة سياستها الخارجية بشأن العراق كما ملفات سياسية أخرى، وإلا فإنها ستجد نفسها تغرد وحيدة معزولة عن العالم، حتى عن حلفائها الغربيين.

الرعونة والإستعلاء وتقمّص دور البطولة في ظل هزائم متتالية، لا ينمّ إلا عن جنون سعودي كامل!

الصفحة السابقة