لطمة مصرية للسعودية في مجلس الأمن

آل سعود: مصر التي تبتزّنا!

محمد قستي

لم يبقَ لآل سعود من صديق.

لقد فتح الملك سلمان بالذات النار على أهم الدول الإقليمية في المنطقة، وعلى جيرانه من الدول بما فيها سلطنة عُمان، واليمن، والعراق، والآن جاء دور مصر.

عاصفة حزم سلمان السياسية لم تعصف إلا بالنظام السعودي نفسه.

والاستعلاء على الدول الأخرى وتضخيم الذات هي منبع الآثام السياسية التي تودي بالدولة السعودية لأن تكون محاصرة سياسياً من معظم الدول التي تزعم الرياض انها تمثلها وانها قيادتها، مثل القول بانها زعيمة العالمين العربي والإسلامي.

مصر.. كانت بنظر البعض تمثل (الإنجاز) النادر للسعودية، من جهة تغيير نظام الحكم الإخواني بعد الإطاحة به بالتعاون مع السيسي ومع دولة الإمارات.

لكن هذا المنجز السياسي، في وقت الانحطاط السياسي السعودي، يكاد يتبخّر، هو الآخر أيضاً.

بالأمس القريب كان الملك سلمان في زيارة لمصر، وظنّ الجميع انه اشتراها. اشترى جزرها، وسياسييها، وأزهرها، وصحفييها، وقواتها المسلحة، بل وأراضيها وجُزرها.

لكن في المحصلة النهائية: استلمت مصر الأموال، او بعضها على الأقل. وحتى الآن لم تصبح جزر تيران وصنافير سعودية بسبب معارضة المحكمة الدستورية، وعدم تصويت مجلس النواب المصري على تسليمها. وأما بناء جسر الملك سلمان الى سيناء، والذي اعتبر حجراً أساس في الرؤية السعودية الاقتصادية ٢٠٣٠، فقد اصبح في خبر كان، ولا يبدو انه سيرى النور لا قريباً ولا بعيداً.

والأزهر الذي ظنّت الوهابية انها وضعته في جيبها، كشف عن وجهه الحقيقي في مؤتمر الشيشان حيث عزل الوهابية عن (أهل السنة والجماعة).

والصحافة المصرية بل الإعلام المصري بمجمله ليس إلا أداة بيد حكومة السيسي ـ من وجهة النظر السعودية ـ يستخدمه لابتزاز الرياض، والضغط عليها للإيفاء بتعهداتها. ولازالت الرياض تشكو من الإعلام المصري ومن يوجهه ضد الحكم السعودي.

بيد أنه كانت هناك مساحة لمصر متوافرة في السياسة الخارجية، تتعلق بسوريا، حيث موقفها يختلف عن السعودية باعتبار سوريا العمق الاستراتيجي لمصر. وقد تقبلت الرياض موقفاً مختلفاً من مصر بشأن سوريا، مقابل عدم تغيير موقفها من ايران، بمعنى عدم إعادة العلاقات السياسية معها.

في جلسة مجلس الأمن الأخيرة، حيث نوقشت قضية الحرب الأهلية السورية.. سقط المشروعان الروسي والفرنسي، وقد وقفت مصر مع كلا المشروعين اللذين هما في جوهرهما ـ بعيداً عن الظاهر ـ متناقضين من حيث الغايات. لكن الرياض انزعجت لتصويت مصر مع موقف روسيا.

الموقف المصري لم يتغير، لكن توقعات الرياض هي التي تغيرت، وكانت اكبر مما يمكن لمصر ان تقوم به.

حُسب الموقف المصري على انه ابتزاز للسعودية.

في ذات الفترة، قالت وكالة رويترز ان شركة ارامكو النفطية المملوكة كاملاً للحكومة السعودية، قد أبلغت مصر بأنها لن تعطيها نفطاً مجانياً، اي نحو مليون برميل يومياً، وهو ما اتفق عليه ووعدت به الرياض مصر قبل بضعة أشهر.

فما كان من مصر الا ان أزعجت الرياض بالمقابل.

السعودية ردّت بسحب سفيرها من القاهرة بحجة التشاور. وظهر السيسي في خطاب له مؤكدا على استقلالية وسيادية القرار والموقف المصري بشأن سوريا وقال انه لن يتغير، وكرر موقف مصر القائل بوحدة الأراضي السورية؛ وتجريد المسلحين من سلاحهم، وضرورة الحل السياسي، وان يقرر الشعب السوري مصيره بنفسه.

الاعلام السعودي تم توجيهه لمهاجمة السيسي. ومواقع التواصل الاجتماعي ضجت ضد مصر. وفرح اخوان السعودية وغيرهم من الصدام بين مصر والسعودية، وكان لدى قناة الجزيرة أعيادها وتأجيجها، رغم ان تصعيد العداء ليس في صالح السعودية بتاتاً، بل يخرجها من المعادلة السياسية الإقليمية بنحو شبه كلي.

بعد التصويت على المشروع الروسي في مجلس الأمن مباشرة، ظهر الممثل السعودي عبدالله المعلمي ليتحدث الى الإعلام بأسى مبالغ فيه فقال: (كان من المؤلم ان يكون الموقف السنغالي والماليزي أقرب الى الموقف التوافقي العربي من موقف المندوب العربي “المصري”. هذا بطبيعة الحال كان مؤلماً، ولكن اعتقد ان هذا السؤال يوجه الى مندوب مصر. كانت تمثيلية مهزلة [في مجلس الأمن]. تقديم قرار مضاد لم يحصل إلا على أربعة أصوات؛ وأنا أرثي لهذه الجهات التي صوتت لصالح القرار [الروسي] لأنها واجهت رداً عنيفاً وقوياً. اليوم يوم مظلم بالنسبة للشعب السوري).

دخلت هذه التصريحات في عمق التراشق الاعلامي السعودي المصري، لأنه تراشق موجّه ابتداءً من مصر، وكانت قناة الجزيرة القطرية تغذّيه.

ولربما كانت للأزمة الإقتصادية السعودية دوراً في زيادة وتيرة التراشق الإعلامي، الذي ظهر جزء غير قليل منه على مواقع التواصل الاجتماعي. فكثير من المواطنين يعتقد بأن المساعدات الخارجية السعودية، خاصة الى السيسي، كانت سبباً رئيسياً في إفلاس السعودية وتدهورها الاقتصادي، بما انعكس سلباً على حياة المواطنين بتخفيض الرواتب، وزيادة الرسوم والضرائب، وتراجع الخدمات، وزيادة البطالة وغيرها.

الذي يهمنا في موضوع المواجهة المصرية السعودية الجديدة عدة أمور:

الأول ـ ان السلوك السياسي للرياض ـ ومنذ تولي سلمان العرش في السعودية ـ يعتمد على المواجهة الحادة، سواء مع الخصوم السياسيين او حتى الحلفاء. هناك حدّة في المواقف قاعدتها: (إما معنا أو ضدّنا). ولهذا السبب فإن السعودية دخلت في صدام حتى مع جهات لا تريد ولا تسعى الى خلافات مع السعودية، وإنما تمارس حقها السيادي كدولة في اتخاذ مواقف لصالحها. ولهذا لم يكن غريباً ان تتوتر العلاقة بين سلطنة عُمان مع السعودية، على خلفية استضافتها للمحادثات الايرانية الأمريكية سراً؛ ثم على موقفها من عدم اشتراكها في الحرب على اليمن، وأيضاً لعدم قطعها العلاقات مع سوريا، وغير ذلك. ولهذا السبب ايضاً فإن الرياض التي كانت تتفهم الموقف المصري تجاه سوريا، وهو موقف مختلف عنها منذ البداية، أصبحت اليوم لا تتحمل هذا الإختلاف الذي ليس بجديد.

إن السلوك السعودي يميل اكثر فأكثر الى الصدامية، ما يفقد الرياض حلفاءها، حتى المحليين على مستوى السياسة الداخلية. فلا يملك (ملك الحزم) من حزمٍ سوى في الصدام لأتفه الأسباب، ويعتمد العقاب المادي للخصوم في الداخل: (اعدامات وسجون وفصل من الوظائف والمنع من السفر)؛ وفي الخارج: (قطع المساعدات، وتأجيج مشاعر العداء عبر الإعلام والجيش الإلكتروني السعودي على مواقع التواصل الاجتماعي).

ثانياً ـ إن سياسة الصدام السلمانية مكلفة، وتؤدي الى عزل السعودية بشكل واضح. ومع هذا هناك اصرار على مواصلتها. جوهر الخطأ يكمن في الذهنية السعودية التي تعتقد بان الأموال والمساعدات بما فيها سياسة اعتماد المنع والحرمان وايقاف الهبات (كما حدث للبنان) على خلفية سياسية.. سياسة صحيحة، ويجب مواصلتها.

لا شك ان توظيف الأموال في السياسة الخارجية امرٌ لا إشكال فيه من حيث المبدأ؛ فكل الدول الغنية او الباحثة عن النفوذ، تعتمد ذلك؛ شرط ان يكون للدولة المانحة مشروعاً حقيقياً للنفوذ؛ وشرط ان يكون المردود السياسي بحجم الأموال التي يتم انفاقها؛ وبشرط أن لا تقتصر سياسة المساعدات على الهبات، بقدر ما تعتمد التعاون الاقتصادي في المشاريع وغيرها، وليس الهبات المالية والنفطية، وذلك من أجل تشبيك الأوضاع الإقتصادية وتعميق العلاقات السياسية.

لكن الرياض ترى بأن الأموال وحدها كافية لإحداث نقلة سياسية في نفوذها. هذا أدّى في الأساس الى ان بناء العلاقات السياسية مع الخارج كان على جرف هار. لقد تعود الخصوم والأعداء، على أن يستلموا مقابل مواقفهم السياسية. وإذا لم يجدوا المقابل، وقفوا بوجه الرياض. هذا خطأ الأمراء، فسياسة: (أعطيك فتصطف معي)؛ يقابلها (أعاديكَ إن لم تُعطني). والحال ان السياسة تتسع لمبدأ المصالح المشتركة واحترام الاختلاف في المواقف السياسية، وعدم الصدام بين الدول، والابتعاد عن الإبتزاز السياسي، سواء من المانح أم من الممنوح.

آن للأمراء ان يتعلموا بأن الأموال لها أثر محدود أو مؤقت في تشبيك العلاقات بين الدول. فكل علاقة أساسها الدفع المالي بمقابل سياسي، لا تكون علاقة ثابتة وقوية. وتنتهي بانتهاء المانح للأموال. وفي حال السعودية، فإنها خسرت الكثير من نفوذها حين توقفت عن الدفع المالي؛ وهي في الطريق لأن تخسر دولاً أخرى، والسبب ان الرياض تواجه أزمة اقتصادية لا تستطيع من خلالها تمويل نفوذ سياسي قوي ومستمر.

ثالثاً ـ من الصعب اليوم تعديل الذهنية الملكية السعودية فيما يتعلق بسياسة (الدفع بالتي هي أخشن)؛ ومن الصعب اكثر تغيير ذهنية رؤساء الدول الأخرى الذين اعتادوا ان يستلموا ثمن مواقفهم السياسية؛ فحتى اللاموقف له ثمن. بمعنى ان صمت دولة ما عن الاعتراض على سياسة سعودية معيّنة لها ثمن. فما هو الحل هنا؟ وماذا يمكن للرياض ان تفعل إزاء مصر.

الثابت ان خسارة الرياض لمصر سياسياً لا تعوضها أموال قارون. خاصة في هذا الظرف السياسي الذي تجده فيه الرياض انها محاصرة ومعزولة ومتهمة ولا يوجد لديها صديق حقيقي تركن اليه: لا باكستان، ولا أدنى من باكستان كالمغرب او الأردن او لبنان، فضلا عن أن الدول العربية الكبيرة كلها ضد السعودية، بما فيها سوريا والعراق والجزائر. ان السياسة التي ابتنيت خلال عقود وفق ذهنية معينة يصعب تغييرها من المانح كما من الممنوح. ولأن الظرف عصيب، فليس أمام الرياض إلا أن ترضخ لمصر. وإذا كان هناك من ابتزاز مصري كما يقال، فالحقيقة الساطعة تقول ان هناك ابتزاز سعودي مقابل ايضاً. وبالتالي فإن من مصلحة السعودية عدم توتير العلاقة مع مصر، وأن تواصل سياسة الدفع المالي، على الأقل الى حين تنقذ نفسها من الحروب والمشاكل السياسية العديدة التي وقعت فيها.

لكن ليس كل ما هو عقلاني في السياسة، يفعله آل سعود. فقد جربنا خلال العامين الماضيين الملك سلمان وتبين انه ملك متوتر، في مملكة متوترة، وكثير من السياسات كانت مجرد حماقات وردود أفعال، لا تأبه بالنتائج السلبية رغم وضوحها. فليس كل سياسة عقلانية وواضحة هي بذات القدر كذلك عند الأمراء. بمعنى ان الرياض قد تتخذ قرارات ضد مصر وتقتل نفسها على قاعدة (بيدي لا بيد عمرو). وهي قد فعلت ذلك اقتصادياً حين أغرقت أسواق النفط بجهالة، فخسرت ما يزيد عن ستين بالمائة من ايراداتها. وقد دخلت الحرب في اليمن وخسرتها، ولكنها ايضاً ـ خلاف كل تفكير عقلائي ـ لاتزال تصر على مواصلتها؛ وذات الأمر ينطبق على استمرارية الصراع مع ايران، ورفض الحوار معها. وايضاً استمرار الرياض في توتير العلاقة اكثر واكثر مع العراق وسوريا. وهكذا.

مملكة فقد عقلها، واعتبر ذلك حزماً من ملك حزم.

فلله درّها، ودرُّ حكامها!

الصفحة السابقة