الأمير عبد الله..

الاصلاحي الذي هوى

رسم صورة مشعّة عن نفسه كرجل يحمل في جعبته الحل السحري لأزمة الدولة..والوعد المنتظر بالاصلاح الشامل، وقد أوحى مراراً لمن في الداخل والخارج بأنه الأكثر تأهيلاً للعب دور لوثري داخل العائلة المالكة.. وأشاع جواً من التفاؤل والأمل بقرب وشيك للانفراج الشامل لسلسلة الأزمات التي تعصف بالبلاد، وأن يتحقق على يده ما عجز عنه من سبقه من ملوك..وهذا ما دفع بكثيرين لأن يرقبوا كلامه وتصريحاته لعلها تضع عنهم إصر الاستبداد وأغلال الاستعباد التي كانت عليهم بفعل هيمنة فئة على مقدرات الوطن، وحاكمية الشخصية على القانون، وغياب الحريات العامة، وهدر المال العام والتلاعب فيه..

وكنا نعذره فيما يعجز عن القيام به حين يكون للعذر سبيل، إذ إن ما تراكم من مشكلات لعقود عديدة لا يعالج بضربة حظ، أو عمل فجائي، ولم نكن ننسى بأنه محاط بجناح مستحكمة سيطرته على مفاصل الدولة ومقدراتها، وكنا نبرر تباطىء السير بثقل المسؤولية الملقاة على كاهله، كما كنا نشاركه في هواجسه من انسداد قنوات الاجهزة البيروقراطية التي تحول دون تنفيذ تعليماته، وتحقيق آماله، وكنا أيضاً نشعر بالألم الكامن بداخله وهو يجد نفسه وحيداً في ساحة يكثر فيها المشاغبون، والطامعون، والمتآمرون..من داخل العائلة المالكة متنزّلاً الى ومشاعاً في أجهزة الدولة ومؤسساتها.

كل المبررات الواقعية والمتخيّلة والمتوّهمة كانت حاضرة في المتطلّعين لدور تاريخي يلعبه ولي العهد، كما كانت تلك المبررات جزءا من نقاشات التيار الاصلاحي..وأكثر من ذلك أيضاً، كان الجميع على استعداد لخوض معركته ضد خصومه، وضد المعرقلين لمنهجه الاصلاحي المزعوم، بل سعى البعض الى إيصال رسالة شديدة الوضوح اليه وعبر شفعاء قريبين منه بأنهم على استعداد للتضحية من أجل انجاح مشروعه..

ولكن، وبالرغم من ذلك كله، لم يظهر هذا المصلح المزعوم كما يجب، فقد اختفى في لحظة كان حضوره واجباً عينياً، وبدا كما لو أنه قد تنازل طوعاً أو كرها ـ لا فرق ـ عن العرش، وقرر الانسحاب من الميدان تاركاً لوزير الداخلية قيادة البلاد على طريقته الخاصة، أي القمعية.. وأبطل مفعول الآمال المعقودة على ناصيته، فبهتت الالوان في صورته المرسومة بوعود لم يتحقق منها شيء يستأهل بها نيل وسام المصلح..

فقد أوصد الأبواب بإحكام على نفسه، لا يلوي على شيء، وأعطى الزمام لوزير الداخلية كي يثبت له أن منهجه كان خاطئاً في التعامل مع دعاة الاصلاح..واختار أن يترك الساحة مذهولة بهذا الهزال الشديد الذي أصابه أو الذي كشف عنه في وقت كان قادراً على تحقيق أكبر انتصار له بعد أن (غسلت) الأغلبية أيديها من العصبة السديرية المستأثرة..

أوهم المتطلعين نحو بدء مناخ اصلاحي يقوم على الحوار بأنه رجل حوار من الطراز الرفيع، وأوهم المتمسكين بمبدأ التسامح بأنه الرجل الأكثر تسامحاً مع الرأي الآخر، وأوهم المصلحين بأن روح مارتن لوثر كينج قد حلّت فيه، وأنه يستضيء بنور الانبياء المصلحين عبر التاريخ..فلم يبقِ للمتطلعين سوى استبداداً شنيعاً يترجمه اعتقال من خاطبهم ذات لقاء بأنه المؤمن القوي برسالة الاصلاح كما وردت في وثيقة الرؤية، ولم يبقِ للمتمسكين بمبدأ التسامح سوى التشدد الحاد إزاء المختلف من الرأي، كما ظهر في رفضه طلباً تقدّم به دعاة الاصلاح المعتقلون بإنشاء جمعية أهلية لحقوق الانسان، ولم يبقِ للمصلحين سوى رجالاً يعيثون في الارض فساداً..فكل الوعود تبخّرت لحظة اعتقال دعاة الاصلاح، ثم تلاشت حين قرر الصمت عما جرى، فلم ينبس ببنت شفة في وقت كانت التصريحات تصدر من وزارتي الداخلية والخارجية، وكأن ما جرى لا يعنيه من قريب ولا بعيد، أو أن إعتقال هؤلاء الرجال يمثل إفشالاً لمشروعه الاصلاحي..بل وسقوطاً سريعاً لمكانته!

كان صعود نجمه سريعاً محمولاً على وعود مؤجّلة، وإنجازات مؤمّلة، وقد جنى من وراء ذلك سمعة لا يستهان بها، في الداخل والخارج، ولكن هذا النجم خبى سريعاً في لحظة الموقف المنتظر منه..وفي لحظة الامتحان الحقيقي لكل مزاعمه السابقة..وأخيراً في لحظة انسانية منه حاسمة. فهذا الاعتقال غير الدستوري وغير المبرر كما قال الاصلاحي المعتقل عبد الرحمن اللاحم قد وضع مصداقية ولي العهد على المحك، ودخل الاختبار العسير من أجل نيل شهادة المصلح، وواجه أكبر تحدٍ لمصيره السياسي، وحتى كتابة هذه السطور لم يصدر ما يشير الى نجاحه أو حتى تجاوزه لهذا الاختبار، الذي قد يقرر ما اذا كان سيصل الى العرش بسلام..ولاشك أنه خسر جمهوراً طالما تطلّع الى أن يكون هو فارسه القادم، واذا ما سقط هذه المرة فلن تكون هناك محاولة أخرى لاعادة بناء المتهدم من سمعته ومصداقيته الا بموقف استثنائي..

وقد بات مؤكداً منذ إعتقال دعاة الاصلاح أن مكانة الامير عبد الله قد تعرضت لاهتزاز عنيف ولن يكون، حتى لو خرج هؤلاء الشرفاء من سجن عليشه، قبلة المصلحين، وسينظر اليه كونه جزءا من ماكينة الاستبداد والاستعباد في الدولة..هذا إن لم يكن قد أصبح خصماً فعلياً لمسيرة الاصلاح، التي لا ينفع معها إنشاء مركز للحوار هنا، وجمعية أهلية هنالك، فهذه تظل منتجات حكومية ولخدمة أغراض العائلة المالكة، وإن انجذب اليها من المتلفّعين بعباءة الاصلاح من متناورين ومتسايسين..

لاشك أن الامير عبد الله هو الخاسر الأكبر في هذا الحدث، وقد يكون دوّي سقوط نجمه بنفس القدر العكسي لانطلاقه، وسيبقى رهانه على تسويات داخلية فاقداً لرصيده الشعبي، فقد اختار بالصمت أو المباركة لاعتقال الاصلاحيين أن يخلع عن نفسه صفة المصلح الافتراضي، وأن يتحول الى مجرد عضو في العائلة المالكة، والمنتظر لدوره التسلسلي في العرش إن بقي منه ما يصلح للاعتلاء. وإذا كانت التسوية قد تمت بالفعل داخل العائلة المالكة على إطلاق يد وزير الداخلية في مقابل تحقيق النصاب والاجماع عليه كملك قادم، فإن ذلك يعني أن لا مناص من تفجير الوضع الداخلي المرشح حالياً، بفعل الازمات الطاحنة، الى الانزلاق نحو الفوضى..

الصفحة السابقة