أنكر العلاقة بين الوهابية والإرهاب

محمد بن سلمان .. النسخة ٢٠١٧

عمرالمالكي

ضمن النقاط العديدة التي وردت في حديث الامير محمد بن سلمان لمجلة فورين افيرز، والذي نقلته الصحف السعودية في السابع من الشهر الحالي، استوقفتني مواقفه المتعلقة بالمدرسة الوهابية، وتشددها الفكري التكفيري الذي اصبح قضية عالمية، تتناولها وسائل الاعلام ومراكز البحث في الدول الصديقة للعائلة السعودية.

وهذا لا يعني ان المواضيع الاخرى التي تطرق لها الأمير ليست مهمة، ولا تتضمن اشكالات فكرية وسياسية واجتماعية، الا انني اعتبر ان هذا الموقف يستحق التعليق والتنبيه، لأنه يمثل اخطر ما يهدد أي مشروع تنويري او تطويري، او رؤية مستقبلية حقيقية أفضل للمملكة، وهو كفيل بإجهاض أي محاولة للاصلاح فيها.

ومقابل الصورة الوردية التي سعت الصحف السعودية الى تعميمها، من خلال المقتطفات المجتزأة المأخوذة من المقال الذي نشرته المجلة الأميركية، لتلميع صورة الامير الشاب، نورد صورة اخرى نشرتها صحيفة الاندبندنت البريطانية في السادس من الشهر الحالي، عبر مقال كتبه باتريك كوبيرن المتخصص في شؤون المنطقة.

يقول الكاتب البريطاني: بذلت المملكة السعودية جهودا استمرت على مدى نصف قرن لتأسيس نفسها كقوة رئيسية بين الدول العربية والإسلامية، وهذا ما أكدته ورقة وزارة الخارجية الأمريكية التي بعثت بها وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون في عام 2014 ونشرتها ويكيليكس، وتحدثت عن أن السعوديين والقطريين يتصارعون للسيطرة على العالم السُني.

وأضافت الصحيفة البريطانية، أنه خلال ديسمبر عام 2015، أكدت المخابرات الألمانية أنها قلقة جدا من تنامي نفوذ السعودية، في ظل أفول نجم الأمراء كبار السن من العائلة المالكة، ليحل محلهم امراء صغار السن متهورون ومن دون أي خبرة سياسية.

واستطردت الصحيفة، بأنه على مدى العام الماضي ٢٠١٦، ازدادت المخاوف إزاء الأثر المزعزع للاستقرار من خلال السياسات السعودية الأكثر عدوانية، والسرعة غير المتوقعة التي انهارت بها طموحات السعودية، حيث عمّ الإحباط كل جبهة تقريبا.

 
السعودية من الصدارة الى الإنحدار والتراجع

وتحت إشراف ولي ولي العهد، وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان، أصبحت السياسة الخارجية السعودية أكثر عسكرية، وكان التدخل العسكري السعودي في اليمن، حيث توقع السعوديون أن يُهزم الحوثيون بسرعة!! ولكن بعد نحو سنتين، ما زالت العاصمة صنعاء وشمال اليمن في قبضتهم.

ووجهت الإندبندنت اللوم للأمير محمد بن سلمان داخل المملكة وخارجها لسوء التقدير والتسرع الذي جلب الفشل أو الجمود، على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

ومن هنا نطرح السؤال: ما هو السبب في هذا الفشل وهذا التدهور في مكانة المملكة، وسرعة افتضاح أمر سياساتها؟ وما هي مسؤولية الامير محمد بن سلمان عن هذا الفشل؟ وهل سيستطيع الاستفادة من التجربة لتحسين أدائه والتعلم من أخطائه؟

إن واحدا من أكبر المعوقات أمام تحرك السعودية الى الأمام، برأي المراقبين المستقلين، هو التركة الثقيلة التي تنوء تحتها، بسبب علاقة العائلة المالكة الوليدة بأيديولوجيتها الوهابية. ذلك ان الفكر الوهابي، لم يعد مجرد عقيدة دينية او مذهب سائد، بعد ان تحول الى نمط تفكير، وسياسات تعليمية معتمدة، وقضاء واسع النفوذ، وتنظيمات ومراكز قوى تتحكم بمفاصل  الدولة! 

انه سرطان ينتشر ويتحكم في مختلف مفاصل الدولة السعودية. 

هذه الحقيقة ليست غائبة عن مخططي السياسة السعودية، ولا عن أمراء العائلة، ومن بينهم الأمير محمد بن سلمان نفسه، الذين يبدون عاجزين عن مواجهة هذه العقبة الكأداء، القادرة على إفشال أي محاولة للاصلاح، وإجهاض اي مسعى للتقدم وبناء دولة عصرية.. ومن هنا فإن كل المحاولات التي يبادر اليها هذا الأمير او ذاك الملك، تذهب هباء منثورا.. وقد كانت هناك فعلا محاولات خلال العقود الستة الماضية لتحديث المجتمع، لم تعط أكلها، لأسباب عدة من بينها هذا العائق بالذات.

وقد أصبح الأمر أشد خطورة اليوم، ويهدد الدولة بالعزلة والتصنيف السلبي في دوائر القرار الدولية، وقد برزت مؤشرات عدة على ضيق العالم من هذه الدولة السعودية المتوهّبة، بسبب فكرها المتشدد والمنتج للارهاب، وعليه تُلقى تبعة نشر التطرف والعنف والتكفير في العالم.

وفي خطوة مفضوحة وساذجة يهرب الأمير محمد بن سلمان من حقيقة الربط بين الوهابية والإرهاب، وينقل عنه الصحافيون الذين قابلهم أنه يشعر بالإندهاش، بسبب سوء الفهم العميق من الأمريكيين تجاه هذا الأمر. وذكر إن التشدد لا علاقة له بالوهابية، قائلاً (إذا كانت الوهابية نشأت منذ ثلاثة قرون، فلماذا لم يظهر الإرهاب إلا أخيراً).

وللتخفيف من اندهاش الأمير، وإعادته الى جادّة الصواب والعقلانية الهادئة، نذكّره بأن مئات التقارير والوثائق الدولية، الرسمية والاعلامية، وكلها منشورة في كبريات الصحف البريطانية والاميركية، والاصدارات التي تصدر عن مراكز البحوث العلمية، والتي تعتبر مرجعا لصناع القرار في العالم الغربي.. كلها تشير بوضوح الى علاقة الحركات المصنفة بالإرهاب، في المرحلة الحالية، ومنذ أربعة عقود على الأقل، بالفكر الوهابي الذي ترعاه مملكته وتموله وتتبناه.

وقد أصبح من البديهي عند حدوث أي عمل إرهابي، أو سلوك عدواني في الدول الغربية، ان يجري البحث عن صلة هذا العمل ومنفذه بالمملكة السعودية، والخيط الأول الذي تتبعه الشرطة وأجهزة الأمن والتحري، لكشف هوية منفذ أي عمل  انتحاري أو إرهابي، هو اتصاله بمشايخ السعودية، أو بأحد مساجد الوهابية في العالم.

ولكي لا يندهش الأمير كثيرا، نورد له في ما يلي مثالين، لم يكلفنا البحث عنهما أي عناء، مثلما لن يكلفه البحث عن مئات بل آلاف الأمثلة الاخرى، الكثير من العناء والوقت، هذا اذا كان جادا حقاً في كشف الصلة بين الفكر الوهابي المتشدد والمستند الى تكفير الآخر، واستباحة دمه وعرضه وماله، من جهة؛ وبين التطبيقات العملية لهذا الفكر كما يمارسه ارهابيو القاعدة وداعش وأخواتهما من جهة أخرى.

ففي اليوم ذاته الذي نشرت الصحف السعودية النص الموحد لمضمون المقال الوارد في مجلة فورين أفيرز، اثر المقابلة التي أجراها محمد بن سلمان مع عدد من الاعلاميين والناشطين، وكان بينهم كاتب المقال بلال صعب، مدير مبادرة السلام والأمن في الشرق الأوسط، في مركز برنت سكوكروفت الدولي للأمن التابع للمجلس الأطلسي..  في الوقت نفسه كان هناك خبر هو من مفاخر وزارة الداخلية التي يرعاها ولي العهد الأمير محمد بن نايف، عن قتل إرهابيين في حي الياسمين في الرياض.

طايع الصيعري الذي سبق أن أُعلن اسمه ضمن قائمة مطلوبين منذ عام، وطلال الصاعدي.. شابان سعوديان تربيا في المملكة وتعلما مناهج تعليمها وفي مدارسها، وتتلمذا سلوكيا وفكريا في مساجد وهابيتها ومشايخها الذين يحتكرون بقوة الدولة التي يمثلها الامير محمد، التفسير الديني والعلم الشرعي باعتبارهم الفرقة الناجية.. بل ان الارهابيَين قُدمت لهما خدمة المناصحة التي يُكافأ بها إرهابيو الفكر الوهابي السعوديون، بعد ان يخوضوا معاركهم في خارج المملكة او حتى داخلها، فيُمنحون فرصة التوبة والعودة الى حظيرة الولاء للنظام، مقابل العفو عما سلف ومكافآت مادية مجزية.

 
الأمير المندهش يرى براءة الوهابية من الإرهاب!

ومثلهما مثل الكثيرين قبلهما خرج هذان الإرهابيان من برنامج المناصحة السعودي أكثر إصراراً على نهجهما التكفيري الإرهابي. ولا اعتقد ان اي مواطن يقول، أو يمكن ان يقول ان المتطرفين السعوديين الذين تحولوا الى الفكر الضال، حسب التسمية الرسمية، وامتهنوا الارهاب، قد تأثروا بعلماء الأزهر الشريف، أو المدرسة الاشعرية، أو منهج الصوفية، وهذه أبرز مدارس أهل السنة والجماعة في العالم الاسلامي. وبالتأكيد لم يتلقوا العلم من مدارس الشيعة، ولم تصل لهم يد إيران لتحرف عقولهم، حسب المزاعم الحكومية السعودية.. فهؤلاء هم أبناء المدرسة الوهابية مئة في المئة، وقد قيل انه لم يسبق لهما أن سافرا خارج المملكة.

ولكي يطمئن الأمير الى هذه الحقيقة، يكفيه ان يجمع مواقف وفتاوى مشايخ الوهابية ودعاتها، في السنوات الخمس العجاف الماضية، وخصوصا ما يتعلق بالإرهاب في سوريا، ليكتشف دورهم في تشجيع وإعداد وتوجيه الشباب للقتال، بإسم الدفاع عن العقيدة التي تكفر خصومَها.

والمثل الثاني الذي نضعه بين يدي الأمير محمد، لعله يرى ما تفعله هذه الوهابية وصلتها بالارهاب، أخذناه من مصدر عالمي وحادث إرهابي خارجي.. جرى نشره في اليوم ذاته، أي في السابع من يناير 2017 الجاري.  

ففي تقرير كتبته رويترز، ونشرته نيويورك تايمز في السابع من الشهر الجاري، ألقت الصحيفة الاميركية الضوء على الهجوم الإرهابي الذي استهدف ملهى أرينا في اسطنبول، والذي ذهب ضحيته عشرات القتلى والجرحى، وكان من بينهم سبعة قتلى سعوديين وعشرة جرحى، على يد قاتل محترف من تلاميذ المدرسة الوهابية التكفيرية.. ولا بأس أن نقرأ للامير محمد بن سلمان الفقرة التالية التي جاءت بعنوان: (تأثير الوهابية). 

تقرير نيويورك تايمز جاء تحت العنوان التالي: (رعب في ضاحية اسطنبول.. لكن لا مفاجأة في هوية مطلق النار في الملهى الليلي)!!

وهي تقول: أعلنت الدولة الاسلامية (تنظيم داعش الإرهابي) مسؤوليتها عن الهجوم على الملهى الليلي، وقالت أنه جاء انتقاماً من تركيا بسبب تورطها العسكري في سوريا ضد التنظيم. وتعتقد المصادر العسكرية ان المسلح، الذي وصفته بأنه متمرس على حرب العصابات، يحمل على الأرجح جنسية دولة من وسط آسيا، وقد تدرب في سوريا. وهي ليست المرة الأولى التي ينفذ فيها مهاجم يحمل هذه المواصفات هجوما في المنطقة.

وتواصل الصحيفة الاميركية فتقول: وكان جهاز أمن الدولة في قرغيزستان قد أعلن ان هجوما انتحارياً استهدف السفارة الصينية في بيشكيك أواخر أغسطس الماضي، أمر به متشددون من جنسية اليغور ينشطون في سوريا بواسطة إرهابيين من قيرغيزستان يعيشون في تركيا.

وبحسب أكيول، رئيس هيئة المهاجرين التركي، فإن عدداً من بين الوافدين (في السنوات الأخيرة)، تأثروا بفكر الحركة الوهابية (!!) التي باتت مؤثرة في البلدان الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى.

ولكي لا يكون لدى القارئ أي شك توضح الصحيفة: إن المذهب الوهابي من الإسلام السنّي، هو مذهب الدولة في المملكة السعودية، ويستخدم هذا المصطلح أيضاً لوصف الأيديولوجية الدينية المحافظة المتطرفة للجماعات المتشددة مثل تنظيم القاعدة وداعش.

هذا ما تقوله صحيفة أميركية لا إيرانية، بأن الوهابية هي أيديولوجيا الجماعات الإرهابية مثل داعش والقاعدة.

ولكي نؤكد للأمير انتشار القناعة بالعلاقة بين الوهابية والإرهاب، نلفت نظره الى أنه في اليوم ذاته، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو لأحد الكتاب الكويتيين المعروفين، وقد ظهر على قناة العربية السعودية وأحرجها أيما إحراج، يؤكد فيه مسؤولية إعلام المذهب الوهابي المتأخرين، عن هذا التوحش الإرهابي والتخلف الفكري. حيث شنّ الكاتب الكويتي فؤاد الهاشم هجوماً على أبرز مراجع الوهابية السعودية، معتبراً إياهم سبباً في التخلف. وقال الهاشم (إن إبن تيمية، وإبن باز، وإبن عثيمين، لا يريدوننا حتى أن نلبس هذا القميص ـ مشيراً الى قميصه ـ بل يريدوننا أن نلبس الزي الأفغاني، إذ أن هذا التيار الديني سواء أكان متشددا أم لا سيكون منغلقا.

وأكثر من ذلك، فإن الكاتب السعودي محمد العصيمي، وفي تعليقه على حملة المغردين والكتاب الوهابيين، لتكفير ضحايا اعتداء الملهى الليلي التركي الإرهابي، يكتب مقالاً مطولاً ينتهي فيه الى القول: (ولذلك نحن، تكراراً ومراراً، أمام ظاهرة إرهابية عامة طامة، لا تنطبق أو تقتصر فقط على من يفرقون الموت برصاصهم وقنابلهم، بل تشمل إرهاب الحكم على الناس بالعذاب لأنهم لم يفوزوا بصكوك الغفران التي توزعها “وكالات احتكار الدين والفضيلة”. وليس هناك من حل سوى أن نعترف ـ وهو هنا يتحدث عن التكفيريين السعوديين ـ بأننا في أزمة حقيقية نشأت من التراخي في التعامل مع مدارس التشدّد وأفكار المتشددين، وأننا من هنا، من الاعتراف بذلك، سنغيّر البوصلة تغييراً حقيقياً وجاداً باتجاه هدم هذه المدارس وتجفيف هذه الأفكار التي وصلت إلى حد الجرأة على الله والحكم على خلقه نيابة عنه).

والمسألة أكثر وضوحا وبداهة من ذلك بكثير، اذ ان زعم الامير الشاب بأن الوهابية ظهرت منذ ثلاثة قرون (تقريبا) بينما الارهاب حديث النشأة، فيه مغالطة لا تخفى على أي باحث، أو دارس للتاريخ، والحقيقة أن هذه الوهابية المنسوبة الى محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1792) لم تتوقف عن إنتاج العنف والتكفير وارتكاب المجازر. ويكفي للدلالة على ذلك، ان يعود القارئ الى تأريخ نشأة الدولة السعودية الثالثة، والتي قامت على شلالات الدم وأكوام الجماجم.. ومارس فيها مقاتلو “إخوان من طاع الله» من رجال المذهب الوهابي الذين تحالف معهم واستند الى قوتهم الملك عبد العزيز لاحتلال مناطق الجزيرة.. أبشع المجازر في الحجاز وفي الجنوب وفي الشمال كما في الشرق الشيعي.

ولكي يطلع الأمير الشاب على هذا التاريخ الأسود لمشايخ الوهابية وأجداده المتحالفين معهم، نعيده لقراءة كتاب (عنوان المجد في تاريخ نجد) لمؤرخ الوهابية عثمان بن بشر، والذي تفوق على ابن غنام في كتابه (تاريخ نجد) في وصف القبائل العربية في نجد، واتهامها بالكفر، واستحلال دم أبنائها، ونهب أملاكها ومواشيها، وسبي نسائها.. وهو في روايته لنشأة الوهابية والدعوة السعودية المصاحبة لها، يتحدث ببساطة شديدة عن غزوات كمصطلح معروف الدلالة باستهداف الكفار، للتعبير عن الاعتداءات والهجمات التي يشنها مقاتلو هذا التحالف على القرى والقبائل، لأسلمتها حسب زعمه، واخضاعها لسلطة محمد بن سعود.

وكان حسين بن غنام قد ألف كتابا بعنوان (روضة الافكار والافهام لمرتاد حال الامام وتعداد غزوات ذوي الاسلام)، والذي تم اختصاره في ما بعد باسم (تاريخ نجد)، وهو يعتبر رائد المدرسة التاريخية السعودية في التصنيف الديني للبلاد من الناحية التكفيرية، بل وصل به الأمر لتعميم حالة الكفر لبلاد شبه الجزيرة العربية وما جاورها من مناطق الإسلام إلا من اتبع دعوة شيخه محمد بن عبد الوهاب. وللعلم فإن ابن غنام كان يقرأ على محمد بن عبدالوهاب ما يكتبه، فيصحح له ويضيف ما يشاء.

كل من اطلع على تاريخ الوهابية وآل سعود القديم والحديث، سيجد بصريح العبارة: تكفير كل المسلمين، واستحلال دمائهم، وسبي نسائهم، وذبحهم بالسكاكين، والقاء المخالفين من شاهق من فوق السطوح، وقطع الأشجار، وهدم الدور، وحتى قتل الأطفال في المهد (كما يقرّ بذلك المؤرخ النجدي المعاصر صاحب: لمع الشهاب في أتباع محمد بن عبدالوهاب).

ولذا فداعش لم تكن بدعاً في ممارساتها اليوم، وانما اقتفت اثر آل سعود، حتى في تاريخهم الحديث. ولعل ما حدث من مجازر ابن سعود ووهابيه من غُطغُط (إخوان من طاع الله) حيث قتلوا مفتي المذاهب، والنساء والأطفال، مما هو موثّق في كتب آل سعود نفسها، لدليل على أننا امام وهابية متوحشة لم تكن في يوم ما سلماً مع العالم كلّه، بشيعته وسنّته وأباضييه (كان الوهابيون يسبون نساء سلطنة عمان؛ ويقتلونهم في مجازر موثّقة حين استولى الوهابيون على ديارهم).

وملخص ما نريد ان نوصله لمحمد بن سلمان مقال كتبه احد دعاة السلفية المسمى أبوالحسين آل غازي، الذي يصف نفسه بأنه من الشباب الناشئين في عبادته، «لكنه ابتلاني بالفكر المتشدد الذي قضيت فيه أفضل سنوات شبابي، حتى لُقبت بالمنظر الأول للفكر السلفي الجهادي في بلدي بنغلادش». لكنه عاد الى الاعتدال مثل الكثيرين من الشبان الذين جرفهم تيار التشدد الارهابي، الممول من النظام السعودي، لمحاربة الشيوعية.. ويروي ان رجلا من المعروفين لديه سأله يوما: من تعتبره مؤسس منهج التكفير والتفجير الذي ابتلي العالم الإسلامي به؟ هل هو حسن البنا، أم شيخ نجد، أم سيد قطب، وشكري مصطفى؟ 

 
تفجير اسطنبول.. فتّش عن الوهابية

واجاب بعد أيام بأن «مؤسس منهج التكفير والتفجير الذي ابتلي العالم الإسلامي به اليوم هو الشيخ النجدي محمد بن عبد الوهاب.. فهذا الرجل هو الذي كفَّر مساكين المسلمين بفرية الشرك وعبادة القبور، وتحالف مع رجل السياسة الأمير محمد بن سعود، للحرب عليهم بغرض فرض أفكاره عليهم قسرا».. «وقد تقدم الشيخ النجدي بنفسه في قتل مسلمي الجزيرة وتفجير قبور الصحابة والصالحين، وفرض آرائه على مسلمي الجزيرة، بعد نجاح حربه مع حليفه عليهم».

وفي كتابه (ملوك العرب.. رحلة في البلاد العربية) يقول الكاتب والمؤرخ أمين الريحاني في الفصل السابع والعشرين من كتابه حول مجزرة تربة قرب الطائف: (وأما الذين نجوا من الذبح تلك الليلة ولم يستطيعوا الفرار، فقد التجأوا الى حصن من حصون البلد، فهجم الإخوان عليهم في اليوم التالي، وجعلوا خاتمة المذبحة كأولها، فتراكمت الجثث بعضها فوق بعض، وكان من اللاجئين الى ذلك الحصن الشريف شاكر فكُتبت له النجاة، ونجا معه شاب من الأشراف اسمه عون بن هاشم، اجتمعت به في جدة، في رحلتي الثالثة اليها، وهو يومذاك في العشرين سنة. فقد كان عمره يوم شهد تربة خمس عشرة سنة. قال الشريف عون بن هاشم يحدثني عن هول ذاك اليوم: «رأيت الدم في تربة يجري كالنهر بين النخيل، وبقيت سنتين عندما أرى الماء الجارية أظنها والله حمراء..”…).

ومذبحة تربة هذه قتل فيها نحو أربعين الفا من المسلمين الذين كفرهم مشايخ الوهابية وآل سعود. وجاءت بأوامر عبدالعزيز (ابن سعود) نفسه، حتى يسهل له ـ وعبر بث الرعب ـ احتلال مكة بسهولة، وهو ما حدث فعلاً، في ١٩٢٤.

أفلا تمثل داعش اليوم ومثلها القاعدة، ما كان آل سعود وأسلافهم كما المتحالفون معهم من الوهابيين، يفعلونه في الماضي؟ وهل يمكن لنظام يتحالف مع هكذا أيديولوجية دموية ويصدرها بأمواله للخارج، ويبعث شبابه ليقاتل في كل العالم، ان يعلن براءته مما صنعت يداه، بل ويزعم بأن الوهابية مسالمة منذ ثلاثة قرون، كما كان يدافع وزير التعليم الأسبق محمد الرشيد. 

لقد اهتز التحالف السعودي الوهابي مرات كثيرة، وخرج المشروع الوهابي ليعزف منفردا، اثر بروز التباين بين مشروع الدولة وعلاقاتها الخارجية، والدعوة ومنطقها الخلاصي، وهذا ما رأيناه مع حركة جهيمان في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، ثم مع الصحوة التي استطاع ان يوجهها الملك فهد الى حركة جهادية في افغانستان، بقيادة المخابرات الاميركية لقتال الشيوعية.. ولما انتهت الحرب عادوا الى سيرتهم الأولى في التفجير داخل المملكة وتكفير حكامها، في ١٩٩٥ و 1996 و 2003 وما بعد ذلك، مرورا بأحداث سبتمبر الشهيرة التي لا تزال تداعياتها تلاحق النظام السعودي. هذا ولاتزال التفجيرات تضرب اليوم صانعة السم ومصدّرة الإرهاب نفسها، فزعمت انها ضحية الارهاب، وهي لا تزال تؤيد إرهاب نفس الجماعات في دول أخرى تراها عدوة.

وعندما نورد هذه الحقائق، فنحن متأكدون من ان محمد بن سلمان يعرف ذلك واكثر منه بكثير، ولا تنقصه الأدلة عن علاقة حالة التوحش التي تعيشها المنطقة الاسلامية بالتعاليم الوهابية. ولكن السؤال الذي يجب ان نتوقف عنده هو: لماذا يحاول الأمير ان يتستر على هذه الحقيقة؟ واستطراداً كيف يمكن ان تعيق هذه السياسة دعوته الى رؤية جديدة قيل أنها تمثل طموح المجتمع السعودي، وتطور اقتصاده، وتوفر له الرفاهية؟

 ان التوقف عند هذه النقطة مهم للاسباب التالية:

أولا: لأن هذا التشدد الوهابي هو المصدر الرئيسي لصراعات انخرطت فيها المملكة دون اعتبار لمصالحها الوطنية.. اذ ان تجييش الشباب الوهابي في السعودية وعدد من الدول العربية والاسلامية، وإعداده فكريا عبر الدعاة الوهابيين حصرا، وتمويله وشحنه الى جبهة المواجهة بين المعسكر الشيوعي والتحالف الاميركي.. ليس فيه اي مصلحة سعودية ولا عربية ولا اسلامية، بل هو اصطفاف أعمى في معسكر امبريالي استعماري، هو نفسه يحتل ارضنا ويستغل ثرواتنا ويحمي الكيان الصهيوني المغتصب لمقدساتنا في فلسطين.. والدليل على ان لا مصلحة لنا في ذلك هو ما اتت به النتائج، حيث انتهى الاحتلال السوفياتي لافغانستان، ولم نجن اي مكسب بل كانت حصتنا هي عودة الارهابيين (الأفغان العرب) الذين صنعتهم المخابرات السعودية ليعيثوا فسادا في عدد من الدول العربية والاسلامية، ولا تزال اثار فسادهم الى اليوم في باكستان ومصر وغيرهما.

ثانيا: لأن هذا التشدد هو في صلب سياسة الفرز المذهبي التي تتبناها السلطات السعودية، والتي سممت العلاقات في المنطقة، وباتت تشكل خطرا داهما على الدين الاسلامي والثقافة الاسلامية ومكانتهما في العالم.

ثالثا: لأن هذه الوهابية هي العائق الاساسي في اقامة علاقات سليمة وموضوعية بين السعودية واي دولة اخرى في العالم العربي والاسلامي.. اذ ان اول نتائج التقارب مع السعودية هو انتشار الدعاة الوهابيين بأسلوبهم الفج والمنفر، لبناء بؤر تكفيرية سرعان ما تتحول الى بؤر عنفية تضرب المجتمع وتفككه كالغدة السرطانية، وهذا ما حدث تماماً في اليمن والبحرين ومصر وتونس وسوريا والعراق.

رابعا: لأن هذا التشدد هو من ابرز العوائق في وجه الدعوة الحالمة التي يتبناها الامير محمد تحت مسمى التحول الوطني او الرؤية السعودية 2030.

خامسا: لان التشدد الوهابي هو العائق الحقيقي لاقامة مجتمع سعودي مستقر، وقيام هوية وطنية جامعة وانتماء وطني حقيقي.. فالوهابية مصرة على اعتبار شيعة الشرق وصوفية الحجاز والمالكية والشافعية وغيرها من المذاهب، والاسماعيلية في نجران، كفارا خارج الملة، وهي ان سكتت عنهم وتوقفت عن مقاتلتهم لاسباب سياسية، لا ترضى بالمساواة معهم في حقوق المواطنة. مع ان اتباع الوهابية بمن فيهم آل سعود لا يمثلون الا منطقة لا يبلغ عدد سكانها حتى ربع سكان المملكة. أي انها وأتباعها أقلية تريد فرض معتقدها وخيارها السياسي والمذهبي على الجميع.

سادسا: لأن التشدد الوهابي هو ابرز الاسباب في عرقلة انتقال المملكة من زمن الى زمن، على طريق الدخول في عالم التمدن والمعاصرة. وليس ادل على ذلك من نظرتها الى المرأة ورفضها للحريات، وحقوق الانسان، وكل مظاهر الحكم الديمقراطي.

سابعا: لان انتقال هذه العقيدة المضطربة والدموية الى جيل الشباب الذي يمثله محمد بن سلمان كارثة حقيقية، فهو يعني انعدام الأمل بالتغيير الحقيقي في ظل العائلة السعودية.

لهذه الاسباب فإن تصريحات الامير محمد بن سلمان تعبر مؤشرا خطيرا.. مما يطرح السؤال التالي: هل هو مقتنع فيما يقول، ام انه يستعيد أسلوب جده عبد العزيز في استخدام المتشددين، الى ان تحين ساعة الغدر بهم؟

في الواقع، هناك دلائل ومؤشرات على كلا الاتجاهين! اذ ان الملك سلمان هو واحد من رموز التشدد والرجعية بين أجنحة العائلة السعودية. وهو الاقرب الى منهج الوهابية الاصيل في استخدام القوة دون رحمة، ورفض الحوار او السماح بوجود تيارات سياسية مختلفة، على عكس ما كان في بعض العهود، حيث سمح لما يسمى التيار الليبرالي ان يظهر على السطح في مواجهة التيار الوهابي المتشدد، في لعبة كسب منها النظام كثيرا، واستخدمها كورقة يبيعها للخارج من جهة، ويدجن بها القوى الجديدة من المتعلمين والمثقفين، والذين اصابهم الانفتاح على  العالم بحمى التجديد والليبرالية.

هذا كله انتهى مع حكم سلمان، بل ان ما نشهده اليوم من انتهاكات لحقوق الانسان واستخدام مفرط للقمع من سجن واعدام الناشطين الحقوقيين، وحتى الذين يتجرأون على النقد السطحي لبعض السياسات، يعتبر غير مسبوق في تاريخ المملكة. فالسجن لسنوات على تغريدة، والفصل من العمل على رسم كاريكاتير، والمنع من الكتابة او الظهور على وسائل الاعلام، باتت احكاما وقرارات شائعة في السنتين الاخيرتين، وهي طالت حتى بعض المقربين من النظام والابواق الصادحة بتمجيده، الا انه لم يستطع ان يتحمل منها خطأ واحدا، فيضيق صدره ويزج بأصحابها في السجون او العزلة (جمال خاشقجي نموذجاً).     

وحتى الامير الصغير نفسه، محمد بن سلمان، لم يجرؤ ان يتحدى رجال المذهب الرسمي الحاكم، في اي مسألة حتى الان، فغابت المرأة، عقدة الوهابيين الاولى، عن برامج التغيير والرؤية التي يباهي بها، ويزعم بأنها ستنقل البلاد من حال الى حال.. كما اهملت الخطة التي اعدها أي اشارة الى التغيير السياسي، او الانفتاح الديمقراطي، وهو امر حتمي وبديهي اذا اراد فعلا تنويع الاقتصاد ومشاركة قطاعات الانتاج في القرار الاقتصادي، واذا ما اراد ايضا ان يحول الدولة من نظام ريعي الى اقتصاد الضرائب.. فالقاعدة الرأسمالية الثابتة والتي لا تغيب عن بال مراكز البحث التي اعدت له الخطة المسماة رؤية، ان لا ضريبة دون تمثيل..

واسقاط الامير محمد بن سلمان لهذه القاعدة هو بدافع الخوف الغريزي لدى الامراء من المشاركة في السلطة، وارضاء لحلقة المتشددين الذين يحيطون به.

الا ان مجلة فورين أفيرز نقلت أن ولي ولي العهد السعودي الذي يقود تحول السعودية نحو الإصلاح الاقتصادي، وضع استراتيجية لتجنب أي رد فعل عنيف من أي محافظين دينيين معارضين لخطته. وأكد أحد الباحثين الذين التقى بهم الأمير محمد بن سلمان الشهر الماضي أنه أبلغهم بأن إجراءات عقابية سيتم وضعها في الاعتبار إذا أقدم أي رجل دين على التحريض على العنف أو ممارسته كرد فعل على الخطة الإصلاحية. وذكرت المجلة أن الأمير قال إنه يؤمن بأن نسبة قليلة فقط من رجال الدين في المملكة لديهم جمود فكري، في حين أن أكثر من نصف رجال الدين يمكن إقناعهم بدعم الإصلاحات التي يسعى لتنفيذها من خلال التواصل والحوار.

ونقلت المجلة عنه قوله أيضا إن الباقين مترددون أو ليسوا في وضع يسمح لهم بالتسبب في مشكلات.

اذن فإن الامير يقسم رجال الدين كما يقول كاتب المقال في فورين افيرز الى ثلاث فئات، الموالون للسلطة والجاهزون لاصدار الفتاوى عند الطلب، والمترددون الذين يمكن اقناعهم بالمال او تخويفهم بالعقاب وخسارة المزايا والمكتسبات، والفئة الثالثة هم الاقلية برأيه ممن لا بد من التعامل معهم بالقوة والحزم.

ومن هنا فربما كان انكار الامير محمد بن سلمان وجود التشدد والنزعة للارهاب لدى الوهابية، هو لطمأنتها بأن المعركة لم تبدأ بعد، وان هامش المناورة ما زال قائما. 

وفي حقيقة امرهم فإن امراء آل سعود يعرفون التلازم بين العنف الوهابي ودوام سلطانهم، ويتمنون لو لم يضطروا الى الصدام مع جيشهم الحقيقي الذي يخرج يوما بشكل القاعدة واخرى بشكل داعش، او اي مسمى آخر، لأنهم من غير هذا الزخم المذهبي والتكفيري لا يستطيعون ان يبنوا جيشا حقيقيا.. فالجيوش تحتاج الى عقيدة قتالية، وليس عند آل سعود اي عقيدة بديل عن الوهابية يمكن ان تؤمن اللحمة لجيل من الشباب النجدي او مجموعات قتالية، وهذا ما اثبتته التجارب العملية اذ ان الجيش الذي انفقوا عليه مئات المليارات أظهر عجزه اكثر من مرة في اي حرب دخل فيها! بينما كان لارهابيي التشدد الوهابي فضل كبير على ما يعتبره النظام السعودي انجازات خارجية.

ولكن هذه الامنية ليست في متناول اليد دائما، اذ ان التطورات الخارجية والداخلية، ستجبر النظام السعودي على اخذ الخيار، بين التمسك بالتشدد الوهابي ومنتجه الارهابي، او مواجهته والصدام معه.

وكل آت قريب..

الصفحة السابقة