معادلة خسارة ـ خسارة

الشراكة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن

محمد فلالي

ما ورد في بيان البيت الأبيض بعد لقاء سلمان ـ أوباما في سبتمبر 2015 حول الشراكة الاستراتيجية، تحوّل الى مذكّرة تفاهم بين سلمان ـ ترامب بعد زيارة الأخيرة الى الرياض في 19 مايو الماضي. الزيارة، كما المذكرة والشراكة، هي حدث غير مسبوق من منظور سعودي ـ أميركي. هكذا قال ترامب عن الزيارة، وهكذا قال عادل الجبير عن الزيارة والمذكرة وثنّى عليه وزير الخارجية الأميركي ريكس تيليرسون في المؤتمر الصحافي المشترك مع الجبير في الرياض.

السؤال: كيف سوف تتصرف السعودية بعد إعادة إحياء الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة؟ هل يعاد تتويج السعودية كدولة محورية في المنطقة؟ هل الدولة المحورية تتطلب دوراً وظيفياً؟ هل الظروف تسمح بذلك؟ هل تمتلك السعودية مقوّمات الدولة المحورية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وغياب الشخصيات الكاريزمية؟ أسئلة لا تتوقف في مرحلة مفتوحة على احتمالات شتّى ومآلات غير نهائية.

فقد شهدت العلاقات السعودية الأميركية خلال العقدين الأخيرين تفسّخاً تدريجياً نتيجة التناقض المتزايد بين استراتيجيات البلدين، واختلال معادلة النفط مقابل الحماية. كان هجوم الحادي عشر من إيلول 2001 فارقاً بالمعنى المليء للكلمة، إذ أفضى إلى زعزعة أسس التحالف الذي انعكس تدريجاً على الرؤية الاستراتيجية الأميركية للمنطقة عموماً في عهد الرئيس باراك أوباما، كما عكسته سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي السابق، والتي شرحت استراتيجية واشنطن في عهد أوباما إذ كان «يعتقد بأنه حان الوقت المناسب للتراجع وإعادة تقييم، بطريقة نقدية للغاية ونوع من التحرر، كيف ننظر نحن الى المنطقة». وتحدثت رايس عن نقل جزء جوهري من الثقل السياسي والاستراتيجي الأميركي إلى شرق آسيا بالقول «هناك عالم كامل، ولدينا مصالح وفرص في ذلك العالم الكامل” بحسب مقابلة مع صحيفة (نيويورك تايمز) في 27 أكتوبر 2013.

سعت إدارة أوباما الى توفير مصادر اطمئنان لحلفاء واشنطن في المنطقة، ولكن لم تكن مقنعة. على سبيل المثال، كان لقاء وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري مع نظيره السعودي سعود الفيصل في باريس في 11 أكتوبر 2013 كان للتخفيف من درجة الاحتقان في علاقات البلدين عقب التسوية الروسية الاميركية حول سوريا، وما تلاها من جولة مفاوضات ايرانية أميركية تمهيداً للتوقيع على إتفاق نووي شامل. لم يسفر لقاء كيري ـ الفيصل عن نتيجة مرضية، وبدا واضحاً لدى الطرف السعودي أن خيارات الشريك الاميركي باتت محسومة، ولذلك لم يعر الأخير اهتماماً جديّاً لصراخ الرياض المتكرر وتهديداتها بنقل التحالف الى معسكر آخر. وحين جاء كيري الى الرياض في 9 نوفمبر 2013 لم يحمل معه وعوداً من أي نوع، سوى الطمأنة الشكلية لمضيفه السعودي بشأن بقاء التحالف الاستراتيجي بين البلدين الذي تأسس عقب لقاء الملك عبد العزيز والرئيس الاميركي روزفلت على سفينة كوينسي. وفي الشكل أيضاً، أضاف كيري لهجة تصعيدية ضد ايران و»حزب الله» والنظام السوري، وفهم الجانب السعودي بأن مكان صرفها لا يتجاوز الصالة المصمّمة للمؤتمرات الصحافية في مبنى وزارة الخارجية السعودية بالرياض.

ترجمة شعور الرياض بالتخلي الأميركي كانت عبارة عن أداء سياسي مضطرب منذ أكتوبر 2013، أي عقب إلغاء أوباما قرار الحرب على سوريا وانطلاق المفاوضات بين طهران ومجموعة 5+1 حول الملف النووي، وردود الفعل الانفعالية في الامم المتحدة (الغاء كلمة السعودية أمام الأمم المتحدة في الثاني من نوفمبر 2013 ثم الترشّح لعضوية غير دائمة في مجلس الأمن وتالياً رفض المقعد في 18 تشرين الأول من العام نفسه)، وتشكيل تحالفات ارتجالية وغير مدروسة (التحالف العربي ضد اليمن، والتحالف العسكري الإسلامي ضد الارهاب)، واعتناق مواقف تستهدف لفت الانتباه. ممارسات يمكن وضعها في سياق الإحباط الشديد الذي عانته القيادة السعودية، والخوف من عواقب كارثية على الدولة السعودية.

على القدر ذاته، واجهت اسرائيل محنة الجفاء الأميركي منذ تسعينيات القرن الماضي، فقد تولّدت قناعة وسط كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين والقادة العسكريين في إسرائيل، مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد تنظر الى اسرائيل كدولة وظيفية، صمّمت لحفظ مصالح الغرب في مقابل تأمين الحماية لها وسط محيط غير متصالح. فالهيبة التي اكتسبها الكيان الاسرائيلي بعد حرب 1967 ومنها ولدت مقولة الجيش الذي لا يقهر، تحطمت في حربين متتاليتين: في لبنان تموز 2006، وغزّة في نهاية 2008، وتكرست في الحرب الخاطفة في 2011. أفول هيبة الجيش الإسرائيلي أرغم الادارة الأميركية على إعادة النظر في دور اسرائيل كقلعة أميركية متقدّمة في الشرق الأوسط، الأمر الذي دفع الجانب الاسرائيلي لبذل جهود مضاعفة من أجل ترميم صورة باتت من الماضي.

من منظور استراتيجي، تحوّلت السعودية واسرائيل إلى مشروعين أميركيين خارج الخدمة. فالسعودية خسرت تدريجاً مكانتها الاقتصادية بعد ظهور مؤشرات راجحة على اكتشاف النفط الصخري بكميات هائلة جعلت الولايات المتحدة الدولة النفطية الأولى في العالم ما عطّل الدور الذهبي للسعودية في الحفاظ على مستوى ثابت للعرض في الاسواق النفطية العالمية، وكذلك الحفاظ على سعر محدد للبرميل. أما إسرائيل، فإن مبدأ التفوق العسكري الذي سعت إلى فرضه في الشرق الأوسط عموماً وفي مقابل الدول المحيطة بها على وجه الخصوص سقط بفعل حركات مقاومة شعبية كانت قادرة على إحداث توازن رعب وردع مع اسرائيل بالرغم من الفارق الفلكي في نوعية السلاح.

وفي ضوء المتغيّرات الجديدة في الشرق الأوسط كانت الولايات المتحدة تنزع الى تخفيف الأعباء التي تتحملها في المنطقة، وتكريس ثقل استراتيجي للتحديات التي تبطنها منطقة أوراسيا حيث الوعود الكامنة بالازدهار الاقتصادي فيما يوغل شريكا واشنطن، السعودية واسرائيل، في الانغماس في أزمات المنطقة بلا طائل، وبهدف استدراج الراعي الأميركي لأن يلعب دور المنقذ.

مع وصول ترامب الى البيت الأبيض، انتعشت آمال الرياض وتل أبيب معاً لناحية إنقاذ العلاقة المتدهوّرة بينهما مع واشنطن. فقد عبّر كبار المسؤولون الاسرائيليون بوضوح شديد عن سعادتهم لوصول ترامب الى السلطة والتغيير في السياسة الاميركية حيال اسرائيل والمنطقة عموماً.

في المؤتمر الصحافي المشترك خلال زيارة ترامب الى تل أبيب في 22 مايو الماضي قال رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن هو وبلاده يشعران بسعادة غامرة لأنه بعد ثماني سنوات من التعامل الجامد من إدارة أوباما، تتصاعد العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بسرعة مع ترامب في البيت الأبيض. واضاف «لكن للمرة الاولى منذ سنوات عديدة - وللمرة الاولى في حياتي - أرى الامل الحقيقي للتغيير». وقال نتانياهو «لا استطيع أن أقول لكم مدى تقديرنا للتغيير الذي طرأ على السياسة الأميركية تجاه ايران حسبما أعلنتها» و «مدى تقديرنا لتأكيد القيادة الاميركية في الشرق الاوسط».

كلمات نتنياهو هي صدى لتصريحات ادلى بها فى وقت سابق الرئيس الاسرائيلى روفين ريفلين عقب اجتماع مغلق مع ترامب. وقال ريفلين «اعتقد ان الروابط غير القابلة للكسر بيننا وبين تصميمكم ستفتح احتمالات جديدة لدولة اسرائيل والمنطقة باسرها». وقال ريفلين «نحن سعداء لرؤية ان أميركا تعود الى المنطقة». «أمريكا تعود مرة أخرى.”

ترامب بدورها شدّد في اللقائين على أن التهديد الاقليمي الذي تفرضه إيران من شأنه أن يقارب بين اسرائيل والدول الاسلامية السنيّة في المنطقة، مثل السعودية.

جهود نتنياهو وتيريزا ماي ومحمد بن زايد في إقناع الرئيس الجديد للولايات المتحدة أثمرت في عودة الأمل الى الحلفاء التقلدييين في المنطقة. فقد بدا ترامب أكثر انحيازاً للنهج السعودي في ملفات المنطقة، وقد يستمر على هذا النحو في الفترة المقبلة مشروطاً بفعالية المصالح المتبادلة بين الطرفين.

وأيضاً، شعرت السعودية بالإرتياح النسبي إزاء الاتهامات التي تلاحقها منذ سنوات بتمويل التنظيمات الارهابية وضلوع ايديولوجيتها الدينية في التحريض على العنف والارهاب في أرجاء متفرقة من العالم، ولاسيما في أوروبا. ليس هناك من ضمانات مؤكّدة إزاء ما قد تواجهه السعودية في هذا الشأن، لا سيما مع بقاء قانون جاستا ساري المفعول. ولكن عودة ترامب الى الحلفاء التقليديين في المنطقة يشكّل متنفسّاً، وقد تبنى عليه علاقة متينة محكومة لقواعد جديدة.

بطبيعة الحال، فإن «قمة الرياض» حقّقت مكاسب كثيرة للمضيف، أبرزها القدرة على الحشد، والتي بنى عليها بعض الكتّاب السعوديين نتيجة مفادها أن السعودية أعيد تتويجها كدولة محورية في المنطقة. على أية حال، فإن من غير الممكن التسليم بنتيجة كبرى بناء على معطيات مبتسرة، فقد أظهرت القمة ضروباً من الخلافات لم تكن منظورة في السابق، سواء على مستوى الشكل أو المضمون. لحظنا خلافاً شكلياً بين ملك الاردن عبد الله الثاني حول صيغة الصلاة على النبي بما يحفر عميقاً في ذاكرة الصراع الهاشمي السعودي، وتغريدة نائب رئيس وزراء تركيا محمد شيمشك حول صفقة السعودية مع الولايات المتحدة والتي قال فيها بأن «العالم سوف يكون أكثر أماناً، فيما لو استطعنا إنفاق جزء ـ من أموال الصفقة ـ على تخفيض مستوى الفقر، والتعليم، وتمكين المرأة». وأيضاً، الطريقة غير اللائقة لتعامل القيادة السعودية مع رئيس وزراء باكستان نواز شريف، وحتى الرئيس الأميركي الذي تجاهل باكستان في خطابه ما أثار غضباً في الاعلام الباكستاني على مدى أيام، وأخيراً تفجّر الخلاف بين الامارات والسعودية من جهة وقطر من جهة ثانية بصورة دراماتيكية وغير منضبطة.

ما ظهر على السطح يشي ليس بمجرد خلافات بروتوكولية بل هي تؤشّر أولاً الى أن ما تحت قشرة الإنسجام بين الدول المشاركة تكمن انقسامات حادّة وعميقة بين المملكة السعودية وعدد وازن من هذه الدول، بدليل أن بيان قمّة الرياض صدر دون موافقة أو معرفة مسبقة من وفود الدول المضيفة، وهذا ما كشف عنه وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، ورفضت الحكومة اللبنانية تبنيه بعد جلسة مجلس الوزراء.

في كل الأحوال، فإن الآمال التي عقدتها الرياض ـ ومعها أبو ظبي وتل أبيب ـ على ترامب تفشي حجم الإحباطات التي عانت هذه العواصم منها خلال فترة الرئيس السابق باراك أوباما. وما يجعل ترامب خياراً راجحاً لدى الرياض هو الخروج الجذري عن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط منذ ما بعد الحرب الباردة. في واقع الأمر، أن ترامب، وبحسب مارك لينش، المتخصّص في الشرق الأوسط والباحث في العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، أعاد إحياء السياسة التقليدية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط التي ترتكز على التعاون مع الحلفاء الإقليميين التقليديين ضد إيران والإرهاب. ولذلك، يبدو مألوفاً للغاية مفهوم ترامب للشراكة المتجدّدة مع الحلفاء المستبدين التقليديين في سياق المواجهة مع إيران ومكافحة الإرهاب.

وبخلاف أوباما الذي حاول دفع الحلفاء الاقليميين نحو رؤيته للمصالح والقيم الاميركية من خلال اعتماد مزيج من الضغوط والإغراءات مثل مبيعات الاسلحة والإقناع البلاغي، فإن ترامب، في المقابل، رجّح المعيار التجاري عبر تقديم المزيد من التنازلات لأنظمة عربية على أمل أن تستجيب بدعم مالي وسياسي.

بدا واضحاً منطق المقايضات بين الرياض وواشنطن، كما عبّر عن ذلك وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ونظيره الأميركي ريكس تيلرسون بصراحة في مؤتمر صحفي مشترك في حديث عن وثيقة الرؤية الاستراتيجية الموقّعة بين ترامب وسلمان. الجبير نعت الجبير الوثيقة بما نصّه: «هذا أمر غير مسبوق. لم يكن لدينا اتفاقية، كما اعتقد، موقّعة من قبل ملك المملكة السعودية ورئيس ـ أميركي ـ لتقنين العلاقة الإستراتيجية والتي يمكن أن نتحرّك بها الى الأمام، لذلك كان هذا انجازاً كبيراً». من جانبه قال تيلرسون « اليوم هو لحظة تاريخية حقا في العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية. الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة العربية السعودية وتكريس حقا أنفسنا لشراكة استراتيجية جديدة، جديدة للقرن الـ21..

وترتكز هذه الشراكة المتنامية حقا في الثقة، والثقة بين بلدينا ذلك نحن نسعى لتحقيق الأهداف ذاتها - التعاون والمصالح المشترك».

فالكلام حول الثقة يضمر الأهداف المشتركة بين الحليفين، لا سيما بعد عام 2011، حيث عاشت السعودية ومعها دول الخليج واسرائيل سنوات صعبة في عهد أوباما.

وإذا كانت سياسة أوباما تقوم على الجمع بين المصالح المشتركة والثوابت الليبرالية، فإن ترامب، وعلى الضد من إرثه الانتخابي المدجج بمواقف مناوئة للإسلام وللسعودية، فإنه اختار استراتيجية من التنازلات والاحتضان الدافىء مقابل الأموال السخيّة التي قدّمتها السعودية له في هيئة صفقة أسلحة واستثمارات على مدى عشر سنوات.

هناك من يرى بأن صفقة الاسلحة التي وقعّها ترامب مع المملكة السعودية بقيمة 110 مليار دولار، واقتراح نسخة شرق أوسطية من الناتو بقيادة السعودية ضد إيران بدعم أميركي للتحالف، وكذلك المشاركة في تأسيس مركز لمكافحة التطرف الدولي في الرياض تثير أسئلة جديّة حول هذه الاجراءات على أساس حسابات الأمن الاميركي. إذ من الصعب تبرير تلك التدابير على أساس حسابات أمنية أمريكية رشيدة.

يبدو أن العودة الى العلاقات التقليدية بين واشنطن والرياض لن تمرّ بسهولة، فقد خسرت السعودية جزءاً جوهرياً من سمعتها منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر والتداعيات اللاحقة، وبات ينظر اليها بكونها دولة حاضنة لأيديولوجية متطرّفة. ولذلك، فإن إقامة مركز مكافحة التطرف العالمي في الرياض لم يستقبل بترحيب من الصحافة الأميركية، بالنظر الى سجل المملكة في انتشار التطرّف الديني حول العالم، وأنه يشبه «تأسيس مركز لمكافحة الفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين في روما أو برلين». وبحسب تيد كاربنتر ومالو انيسنت في كتابهما (Perilous Partners: The Benefits and Pitfalls of America’s Alliances with Authoritarian Regimes) أن النظام السعودي يحرّض على التطرّف بطرق متعددة. وقد موّلت الرياض مدارس في مختلف البلدان الإسلامية لعقود من الزمن لتعزيز الوهابية بعلاقاتها الوثيقة مع العائلة المالكة.

إن سرعة التحوّل في خطاب ترامب، واستعجال الرياض في الدخول الفوري في شراكة استراتيجية مع الرئيس الأميركي الجديد، تنبىء عن قلق سعودي إزاء الأخطارالتي تواجهها دون غطاء أميركي يتم تأمينه عن طريق المصالح المتشابكة بين الطرفين.

ولكن، لا تقدّم المؤشرات المتوافرة من الجانب الأميركي ما يفيد باستعداد لدى إدارة ترامب للذهاب إلى ما لانهاية مع خيارات الرياض. فقد كان خطاب ترامب في قمة الرياض واضحاً لجهة عدم استعداد الولايات المتحدة للإنخراط المباشر في أي مواجهة عسكرية مع القوى المعادية لدول المنطقة، بما في ذلك داعش، بالنيابة عنها، كما أن اكتفائه بـ «عزل» إيران بدلاً من «الحرب» عليها يخفّض من سقف توقعات معسكر الحرب في المملكة. وعليه، سوف تضطر الأخيرة الى ابتكار المزيد من وسائل الضغط على إيران لمنعها من الإندماج في المجتمع الدولي، أو الدخول كعنصر فاعل في حركة التجارة العالمية.

إن التزام ترامب بالاتفاق النووي، برغم من تلويحه الدائم بالانقلاب عليه أو مراجعته أو تجميده كجزء من سياسة تكثيف الضغوط على إيران، يبدو محسوماً. ومن تجارب سابقة، لم يحقق تكتيك الضغوط نتائج فارقة، خصوصاً مع لاعب تمرّس في المفاوضات وتكتيكات الضغط، أي إيران. وكما يبدو من منظور كثير من المتخصّصين والباحثين الأميركيين، ليس من مصلحة إدارة ترامب القطيعة الكاملة مع إيران، لتشابك الملفات وضرورة التنسيق في مواقع الاشتباك. لدى إيران علاقات متميّزة مع العراق وسوريا واليمن ولبنان ومن غير الممكن تجاهل تلك العلاقات

وعلاوة على ذلك، فإن احتضان ترامب للرؤية الكونيّة لقيادة الخليج لا يسمح لهذه الأنظمة بالتغلب على مشاكلها الداخلية الحقيقية، ومن المرجح أن تجعلها أسوأ. إن اندفاع الرئيس ترامب نحو إعادة إحياء التحالفات التقليدية مع أنظمة الشرق الأوسط عموماً وتجاهل المظالم العميقة التي تسبّبتها هذه التحالفات على مدى عقود على مستوى تبديد الثروات ودعم الأنظمة الاستبدادية، واستنزاف موارد الدول، وتدهور أوضاع حققو الانسان، سوف يعزّز من نزعة الكراهية للولايات المتحدة. سوف يزداد الأمر سوءاً بنزوع الأنظمة العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة نحو توظيف خطاب الحرب على الإرهاب، عطفاً على المقاربات الانتقائية لدى الإدارة الجديدة في واشنطن لملفّات المنطقة، من أجل تبرير القمع الواسع النطاق للمجتمع المدني، والناشطين الحقوقيين، ووسائل الإعلام المستقلة، وقوى المعارضة عموماً، كما لحظنا ذلك بوضوح في البحرين والسعودية ومصر.

تجربة المفاوضة التجارية لتي قام بها ترامب لناحية استحصال التزامات بنحو 460 مليار دولار، من بينها 110 مليار دولار على هيئة صفقة شراء أسلحة من السعودية، و350 مليار دولار هي مجموع ما سوف يضخ في الأسواق المالية الأميركية بناء على 23 رخصة استثمارية أجنبية على مدى عشر سنوات، قد تكون ناجحة من الناحية المعاملاتية النظرية، ولكن دون تسييلها عملياً عقبات كبيرة، من بينها الانخفاض الحاد في أسعار النفط، الأمر الذي سوف يتطلب تدخلاً دائماً ومباشراً من الولايات المتحدة من أجل المساعدة على رفع مستوى الأسعار لتأمين المبالغ المطلوبة، وقد يدفع ذلك الى الإبطاء من مسار انتاج النفط الصخري الذي بدأ يلعب دوراً فاعلاً في حركة الأسعار العالمية صعوداً وهبوطاً.

عقبة أخرى تبدو خارج حسابات إدارة ترامب، حتى الآن على الأقل، وهي أن التطمينات التي وفّرها ترامب لأنظمة الخليج وعلى رأسها السعودية والامارات والبحرين، دفعت نحو تصعيد هذه الأنظمة حملتها على المجتمع المدني والمعارضة السياسية، ولكن في المآلات هناك نتيجة مباشرة تتمثل في اتساع رقعة عدم الإستقرار في المنطقة، وبالتالي تهديد مصالح الجميع بما في ذلك مصالح الولايات المتحدة. وقد لن يطول الوقت حتى يدفع ترامب ثمن الإحتضان غير المشروط للحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، إذ سوف يواجه توتّرات جمّة، لأن المنطقة والعالم أمام مرحلة تحوّل لا تحتمل الركون الى خيار واحد يقوم على تلبية طلبات الحلفاء دون النظر في الوقائع التي أفضت وسوف تفضي الى الانتفاضات الشعبية، والتي يمكن تلخيصها في قمع الحريات، وتعطيل حركة الإصلاح السياسي، والأخطر، وهو ما يعني الغرب عموماً، استمرار الأعمال الارهابية وإن بأشكال أخرى.

لقد تبنى ترامب كثيراً من تصوّرات المملكة السعودية، بما في ذلك تصوّرها حول حقوق المرأة. فبينما هاجم ترامب الارهابيين لـ «قمع النساء»، لكنه، في المقابل، وصف حكومة الملك سلمان بأنها منارة افتراضية لحقوق المرأة. وقال ترامب «إن رؤية المملكة العربية السعودية لعام 2030 هي بيان هام ومشجّع للتسامح والاحترام وتمكين المرأة والتنمية الاقتصادية». هو لم يعرف أبداً أن النساء في المملكة لا تزال غير قادرة على قيادة السيارة.

خلافاً للرئيس أوباما الذي انتقد المملكة لسجلها في مجال حقوق الإنسان، يبدو أن ترامب لديه مجموعة مختلفة من الأولويات التي تشمل مواءمة المملكة لسعودية في محاربة داعش، ومنع إيران من توسّع نفوذها في المنطقة. ومن المرجّح أن يفضل هو ومستشاروه ضمان الاستقرار السياسي السعودي على المدى الطويل على الضغط عليه للإصلاح، وهذا النهج سيحظى بتقدير عالي من الرياض.

ترامب، مثل أوباما من قبله، أكّد باستمرار على ضرورة أن تتحمّل السعودية حصتها العادلة من العبء في مكافحة الإرهاب. وفي مقابلة مع وكالة (رويترز) في 28 إبريل 2017 قال ترامب:» بكل صراحة، السعودية لم تعاملنا بصورة عادلة، لأننا نخسر مبلغاً طائلاً من المال في الدفاع عن السعودية». وقد يكون جواب السعودية بتأسيس مركز عالمي لمكافحة التطرف جزءاً من الحصة التي تتحملها في مكافحة الارهاب، ولكن ثمة صعوبة بالغة في إقناع العالم بأن تلك الخطوة كافية، تماماً كإعلان وزير الخارجية السعودية عادل الجبير المتكرّر عن استعداد بلاده لإرسال قوات خاصة إلى سوريا لمحاربة تنظيم داعش.

فشل تجربتي التحالف العربي (مارس 2015) والإسلامي (ديسمبر 2015) عزّز قناعة واشنطن بأن الرياض عاجزة عن إدارة تحالف ناجح دون تدخّل من الولايات المتحدة، وان التحالف معها وحده يغني عن أي صيغ تحالفية أخرى. يفنّد بيتر فورد، السفير البريطاني السابق في سوريا والبحرين، كل ما تنشره وسائل الاعلام حل تشكيل ناتو عربي بقيادة السعودية، وأن محاولة القيام بذلك، في ظل فشل التحالف العربي في اليمن، يعكس «حقيقة الضياع التي يعيشونها». وفي الوقت وصف فيه الجيش السعودي، برغم من التمويل الضخم الذي يتلقاه إضافة الى القوى العاملة والمدربة تدريباً مهنياً عالياً فيه، بـ «الوهمي»، فإن القوة العسكرية المؤلّفة من 34 ألف جندي لمحاربة داعش في سوريا بأنها «أسطورة وخرافة».

وعلى أفق واسع، فإن المقالات المنشورة في الصحف الأميركية بعد زيارة ترامب الى السعودية تفصح عن مناخ جديد تشكّل بعد الحادي عشر من سبتمبر، وينزع نحو إخضاع التحالف بين المملكة السعودية والولايات المتحدة لمسائلة دقيقة وصارمة وفق اعتبارات أخلاقية، وهناك من ينظر إليه تحالفاً عقيماً وبلا مبرر على الأطلاق بناء على سجّل حالك في مجال حقوق الانسان، ومعاملة المرأة، واعتقال وإعدام النقّاد السلميين للنظام، إضافة الى الحرب على اليمن وتعمّد مهاجمة المدنيين وارتكاب جرائم حرب، بما يشمل استخدام قنابل عنقودية محرّمة. وإن رغبة واشنطن في دعم الحملة العسكرية السعودية، وتزويدها بالدعم اللوجستي يجعل امريكا شريكاً في تلك المآسي.

من منظور مقدّم البرامج والكاتب المعروف فريد زكريا، فإن زيارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب الى الشرق الاوسط أوضحت مرة اخرى أن السعودية «الدولة المركزية المسؤولة عن انتشار هذا الارهاب» تمكنت مجدداً من الافلات من هذه التهم. كما اعتبر أن ترامب أعطى للسعودية الحرية لتتصرف بالمنطقة كما تشاء. وخلص زكريا الى أن السعوديين نجحوا بخداع ترامب، وأن الولايات المتحدة انضمت الى سياسة خارجية سعودية تقوم على «محاربة الشيعة وحلفائهم في الشرق الاوسط»، وهذا من شأنه أن يغذي الفوضى الاقليمية ويعقدّ علاقات أميركا مع دول مثل العراق. وتبّنت صحيفة (لوموند) الباريسية المقاربة نفسها في رفض تحميل ترامب إيران مسؤولية تمويل الارهاب في العالم، وقالت الصحيفة بأنه كيف تقبل فرنسا وأوروبا هذه «الحقيقة البديلة»، عطفاً على التغييرات البنيوية التي شهدتها إيران على مستوى النظام السياسي وخيارات الشعب الايراني والتي ظهرت بوضوح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث اختار الأغلبية الساحقة المرشح المعتدل حسن روحاني لدورة ثانية.

تظهر تعليقات الصحف الأميركية والأوروبية على زيارة ترامب الى السعودية وخطابه في قمة الرياض أن انتقادات شديدة لاحقت ترامب وفريقه لصمته عن الإيديولوجية الوهابية المتطرّفة، المسؤولة عن نشر التطرف في كثير من دول العالم. وسوف تعود وتيرة الإنتقادات للسعودية وإيديولوجيتها الدينية كلما وقع هجوم إرهابي في أي بقعة من العالم، كما لحظنا ذلك بعد الهجوم الانتحاري في مجمع «أرينا» للحفلات الغنائية في مدينة مانشستر البريطانية في 22 مايو 2017، والذي جدّد السؤال حول دور الوهابية في التحريض على العنف والإرهاب.

وفق أي معيار أخلاقي وبحثي، فإن المملكة السعودية ومنذ تأسيسها كانت دائماً وما زالت المصدر الرئيس والمموّل «للإسلام الراديكالي»، بمعنى دعم النشاطات الدعوية الهادفة الى نشر الوهابية المتطرّف والشمولية، كما جاء في تقرير (نيويورك تايمز):

«هناك إجماع واسع على أن المهيمن الأيديولوجي السعودي قد عطل التقاليد الإسلامية المحلية في عشرات البلدان - نتيجة الإنفاق الفخم على التوعية الدينية لمدة نصف قرن، والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات. وقد تم تضخيم النتيجة من قبل العمال الضيوف، وكثير من جنوب آسيا، الذين يقضون سنوات في المملكة العربية السعودية وجلب السعودية طرق المنزل معهم. وفي كثير من البلدان، شجع الوهاب الوهابي دينا قاسيا، وساهم في دعم الأغلبية في بعض استطلاعات الرأي في مصر وباكستان وبلدان أخرى للرجم من أجل الزنا والإعدام لكل من يحاول ترك الإسلام».

ترامب الذي وصف الحكّام السعوديين بأنهم « أكبر مموّلين للإرهاب في العالم»، بدا مختلفاً تماماً، بل متناقضاً، في خطابه عن التسامح السعودي. هنا، يمكن أن نفهم هدف النظام السعودي من زيارة ترامب وقمة الرياض بكونها تصحيحاً جوهرياً في صورتها المشوّهة ومكافحة كل أنواع التداعيات غير الملائمة سياسياً للانتشار السريع للإسلام السني بنسخته الوهابية والتي تحاول الجمعيات الخيرية والمؤسسات المرتبطة بها تعميمها في جميع أنحاء العالم. عملياً، فإن ما تتغياه السعودية من المركز العالمي لمكافحة التطرّف هو الفصل بين الراديكالية الوهابية والارهاب التي يصرّ الحكّام السعوديون على أنه بلا هوية دينية. والمنتج النهائي هو فكرة أورويلية (نسبة الى الروائي والمفكّر جورج أورويل)، وإن كان أحياناً متضارباً أو يخضع للتعامل المزدوج تجاه النشاط الإرهابي، وهذا مثل فتح غرفة تفكير حول الديمقراطية في موسكو.

الصفحة السابقة