مغامرة جديدة في عصر الرعب السلماني

اعتقالات رموز التيار الصحوي الوهابي

محمد شمس

ضمن مفاجآته التي لا تنتهي، أعطى محمد بن سلمان ولي العهد، ورأس الدولة الفعلي، أوامره بشن حملة اعتقالات كبيرة. سياسة القفز الى الأمام، هروباً من المشاكل، قادت الصبي الغرّ الى مغامرة جديدة، وقرر تصفية خصومه من المنتسبين لما سمي بتيار الصحوة، وهو تيار ظهر بداية الثمانينيات، ودعمه الملك فهد لمواجهة خصومة المحليين والخارجيين.

وحين تسيّس ذلك التيار بفعل الأحداث العاصفة التي مرت بها المنطقة بما فيها حرب افغانستان والصراع الطائفي ضد ايران، واحتلال الكويت من قبل العراق.. ولما استنفذ فهد اغراضه من الصحوة والصحويين، ورأى أنهم يتمددون سياسياً للطعن في شرعية حكمه، أو يطالبون بالإصلاح السياسي، او يعترضون على سياسات بعينها، بما في ذلك استقدام قوات اجنبية الى اراضي المملكة..

حينها، وحينها فقط، وضع النظام رموز الصحوة في السجون، وفي مقدمتهم سلمان العودة، وناصر العمر، وسفر الحوالي، وعائض القرني، وعبدالمحسن العبيكان، وأضرابهم.

بعدها اطلق الملك سراحهم وجعلهم تحت المراقبة، واستوعب قسماً آخر ضمن أجهزته الدينية والسياسية والاعلامية وحتى المخابراتية.

لكن بقيت منهم بقية، لم تنزو عن الحالة الاجتماعية، ولم تقبل بالتبعية للنظام، وقاومت اغراءات الاحتواء الرسمي، فشنّ عليها حملة جديدة، ووضع افرادها في السجون.

 
العودة مع الشيخ القرضاوي

رمز التيار الصحوي، او السروري، او الإخواني، او الإخواسلفي، سمّه ما شئت، هو الشيخ سلمان العودة، الذي يراه النظام ليس فقط بديلاً للمؤسسة الدينية الرسمية المتهالكة وعلى رأسها المفتي عبدالعزيز آل الشيخ، بل بديلاً عن النظام السياسي نفسه؛ ولطالما أطلق النظام على العودة بأنه (خميني بريدة) مقابل (خميني قم).

وحتى الآن فهناك عشرات المعتقلين من الدعاة الاخواسلفيين، وبينهم أساتذة في جامعات النظام الدينية، وخطباء مساجد، وكتاب، واعلاميون، وقضاة، وغيرهم.

التدقيق الأوّلي في أسماء المعتقلين يشير الى أن حملة الإعتقالات هي أوسع من جماعة الاخوان، او الاخواسلفيين.

حملة الاعتقالات في بدايتها شملت ثلاثة أشخاص:

عوض القرني، وهو من جنوب المملكة، يقال انه بمثابة قيادي ميداني للإخوان السعوديين. وهو كغيره، وهابي في الجوهر، ولكنه يفصح عن تأييده لكل فصائل الاخوان، ويعلن دعمه لحماس. وفي المقابل هو طائفي، ولحنه الطائفي هذا عالي الصوت؛ كما أنه منافح ضد حزب السلطة الآخر، ممن يسميهم بالعلمانيين او الليبراليين او الحداثيين، وهو شديد النكير عليهم والتحدي لهم. سبق وان اعتقل عوض القرني، بتهمة دعم فصائل اخوانية بما فيها حماس، سواء مادياً او سياسياً او اعلامياً. كما سبق له ان تعاون مع السلطات ومع مشايخ آخرين، في دعم فصائل القاعدة في العراق في عهد الزرقاوي، وكان التواصل يتم دائماً في اسطنبول، حيث الحقائب السعودية المليئة بالمال، من اطراف سعودية متعددة تذهب الى الزرقاوي وخلفاؤه.

حسن فرحان المالكي، مفكر من جنوب المملكة أيضاً، وكان يعمل في سلك التعليم، قبل فصله، كما كان يعمل ايضاً ضمن لجان وضع المناهج الدينية. أجرى مراجعة لافكاره منذ 25 عاماً، وكتب في جذور التطرف الوهابي، وانتقد ابن تيمية وفكره في مجلدات عديدة، كما كتب كتباً انتقد فيها الوهابية وافكار مؤسسها، واشتهر كتابه عن ابن عبدالوهاب (داعية وليس نبيّاً). حاربه الوهابيون في معاشه، واعتقلته السلطة ارضاءً لهم، وها هي تفعل ذلك مرة ثانية بلا مبررات.

المالكي ليس له اجندة سياسية، ولا يتعاطى السياسة. واذا كان آل سعود يزعمون مكافحتهم للإخوان، فهو ليس مع الاخوان ولا مع السلفيين، ويفترض ان الحكومة تدعمه، باعتباره محارباً شرساً للغلو والتطرف، وداعية للإعتدال والوسطية المفردتين اللتين تزعم السلطات السعودية سعيها لتحقيقهما!

اعتقلته السلطات السعودية في الدفعة الأولى لسبب واحد وبسيط لا علاقة له بالسياسة ولا بالإخوان ولا بقطر ولا بأي موضوع سياسي. اعتقلته فقط وفقط لاحداث توازن نفسي لدى التيار السلفي المتطرف (الرسمي منه خصوصاً) ليقبل قضية الاعتقال للتيار الصحوي الذي نشأ من بطن التيار الرسمي. أي ان اعتقال حسن فرحان المالكي، كان فقط لأجل تمرير اعتقال العودة والقرني وآخرين، ولكي تقول السلطات للتيار السلفي ان الحكومة تسترضيكم باعتقال خصمكم المالكي، فاقبلوا باعتقالها لخصومها!

 
المفكر حسن فرحان المالكي

سلمان العودة، الداعية والكاتب المعروف، والذي صارت له شهرة بين الاخوان في العالم العربي؛ والذي ايّد ثورات الربيع العربي خاصة تلك التي توّجت بانتصار اخواني، كما في مصر. وقد فاجأتنا المؤسسة الاعلامية المصرية ممثلة بالأهرام، ان طلبت منه الكتابة فيها ـ أيام حكم مرسي والإخوان، فكتب مقالات عديدة؛ كما كتب كتاباً تنظيرياً عن (الثورة)، بعنوان: (أسئلة الثورة)، استعرضناه وشخص مؤلفه في عدد سابق من مجلة (الحجاز).

في فترة ثورات الربيع العربي، انتعش الإخوان في كل مكان، بما في ذلك منطقة الخليج؛ وانكمشوا بسقوطهم بالضربة القاضية في مصر، فيما عرف بالثورات المضادة التي قادتها السعودية والامارات.

في فترة الثورات العربية، لمع نجم سلمان العودة أكثر فأكثر، وإن لم يصطدم مع النظام. بل ما لبث أن مُنع من السفر. ولكن الفترة شهدت محاولات قطرية للإمساك بجناحي الاسلام السياسي السنّي: الأول ، السلفي/ الوهابي ـ اي القاعدي الداعشي. والثاني: الاخواني ـ نسبة الى الاخوان المسلمون.

العودة سلفي وهابي في الصميم من حيث المعتقد، ولكنه ـ شأن غيره من الوهابيين ـ استعار التسييس والإطار الحركي الاخواني، ومن هنا هو ونظراؤه أقرب الى السلفية منهم الى الاخوانية، وان كان البعض يميل الى تسميتهم (إخواسلفيين).

وتنظر الرياض الى العودة، كمنظر لتيار عريض، وكشخص له من الكاريزما والكفاءة ما يجعله قائداً بديلاً لآل سعود ولآل الشيخ معاً.

لهذا كانت الضربة الأولى تستهدفه هو تحديداً، رغم ان الرجل امتنع عن الخوض في السياسة لسنوات طويلة، وطفق يدير حوارات ويقدم توجيهات عن الأمل والحياة للأجيال الجديدة، عبر السناب تشات، وعبر اليوتيوب وتويتر والفيس بوك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي.

حين اندلعت الحرب العدوانية على اليمن، خفف سلمان الضغط على التيار الصحوي والتيار الداعشي القاعدي، وأطلق سراح الكثير من المعتقلين المتهمين بالإرهاب، وذلك بغية تدعيم الحاضنة الوهابية النجدية، لتصطف مع النظام في حربه على اليمن، آخذاً بعين الإعتبار، ان لا عدو مشترك يستثير همّة الوهابيين بمختلف اصنافهم ويوحد صفوفهم مثل (الشيعة) اياً كانوا: زيدية او اثناعشرية او اسماعيلية او غيرهم.

يومها، سمح الملك سلمان، للشيخ العودة بالسفر، بعد سنوات من المنع، وقد كان ذلك مقدمة لصمت العودة ـ كما يقول منتقدوه ـ عن الاعتقالات التي تجري في التيار السلفي وغيره، وثمناً لصمته ـ كما كل التيار السلفي بمختلف اسمائه والتيار الليبرالي المزعوم ـ عن الحكم وشنائعه التي يرتكبها ضد المواطنين الشيعة في المنطقة الشرقية خاصة العوامية. حتى ان كثيراً من هؤلاء نثروا ملحاً على الجروح، وزايدوا على النظام، مطالبينه بإبادة المواطنين الشيعة، او تهجيرهم، وتدمير مدنهم (الإخواني خالد العلكمي)، والإيغال في سياسة الاعدام لناشطيهم.

 
الملك فهد.. الأب السياسي للصحوة او الغفوة!

لكن الدنيا دول، ووجد سلمان العودة وكثيرين من فريقه الاخواني فجأة قيد الاعتقال.

وكما قلنا سابقاً، بأن حملة الإعتقالات تشمل شرائح أوسع من الاخواسلفيين.

حسن فرحان المالكي نموذج لذلك.

والمفكر الشاب عبدالله المالكي نموذج آخر. فهو في الأساس ضد الفكر السلفي المنغلق، وقد انتقد الاخوان من زاوية معرفية عميقة. وله مؤلفات مثل (سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة). لكن موجة القمع العمياء لم تستثنه وآخرين، وبتهمة التجسس أيضاً.

حين يقوم النظام بموجة قمع واعتقالات، فإنه غالباً ما يعمد الى تصفية كل خصومه دفعة واحدة، وهو ما يجري حالياً، حيث اعتقل مغردون وأشخاص غير متدينين اصلاً، وليسوا من التيار الديني ولا الاخواني.

وقد وجدنا من بين المعتقلين عدداً من القُضاة الذين هم على الأرجح يُحسبون شخصياً على محمد بن نايف، ولي العهد المخلوع.

ومن سخرية القدر ان القضاة هؤلاء، الذين هم في واقعهم ضباط في جهاز المباحث، هم الذين حكموا بالاعدامات والاعتقالات بحق الناشطين والحقوقيين ودعاة الحرية. من بينهم:

القاضي الرئيس في قضية الشيخ نمر النمر، محمد الدوسري، والقاضي الذي حكم بإعدامه واعدام الآخرين عمر الحصين (يلقب بقاضي الاعدامات)؛ والقاضي الرئيس في قضية مجموعة الكفاءات، التي اعتقلت واتهمت بالتجسس لإيران وحكم على أكثر اعضائها بالإعدام، وهو القاضي تركي آل الشيخ؛ وكذلك القاضي الرئيس في قضية النشطاء الحقوقيين من جماعة (حسم)، محمد عثمان الزهراني. ويضاف اليهم القاضي الرئيس في قضية الشيخ الاصلاحي توفيق العامر، سلطان بن شدّه. اضافة الى القاضي عبداللطيف العبداللطيف؛ والقاضي بندر التويجري.

كل هؤلاء القضاة تم اعتقالهم، وليس مستبعداً ان توجه لهم تهم الخيانة العظمى والتجسس: ومن أعان ظالماً سلطه الله عليه؛ وما ظالم إلا سيُبلى بأظلمِ.

قطر.. الجمع بين (الاخوانية) و(الوهابية)!

الإطار العام الذي وُضعت فيه الاعتقالات أنها جاءت كجزء من معركة آل سعود ضد قطر. هذا ما تشي به معظم تعليقات السلطويين. بل ان الحكومة السعودية وضعت المعتقلين ضمن قائمة الجواسيس، وأعلنت قبضها على (خليّة تجسس) بزعمها.

المؤكد ان آل سعود ـ بوجود قطر ام عدمه ـ ينظرون الى التيار الاخواسلفي، كتيار سياسي (خبيث!)، غرضه الانقضاض على حكم آل سعود، وانه تيار يضعف السلطة السعودية نفسها، كونه في الأساس تيار نجدي، ونجد هي حاضنة النظام الأساس. ثم انه تيار وهابي، والوهابية هي ايديولوجيا النظام المزعومة، وقد جاء من ينافسها ويزيل الشرعية (الوهابية) عنها، تماماً كما فعلت القاعدة وداعش.

ومن هم آل سعود بدون الوهابية، وبدون نجد؟

لا قوة لديهم بدونها وبدونهم.

حملة الاعتقالات مستمرة في زمن الإرعاب السلماني

اما قضية التجسس لقطر، فهي لا تعدو حتى الآن زعماً ويحتاج إثباتها الى أدلة لا تمتلكها اجهزة مباحث آل سعود.

قطر هي أكثر دولة في العالم تأثيراً على المجتمع النجدي الوهابي الذي ينظر اليه كحاضن لسلطة آل سعود.

قطر، كانت لديها المرونة للإستثمار في كلا التيارين: السلفي والإخواني. في الحقيقة انها كانت مهيئة للعب هذا الدور الذي تخلّت عنه الرياض منذ 1990. فقطر من جهة، وهابية المعتقد، ولديها مفتٍ وهابي هو آل محمود. أي انها في الداخل وهابية؛ ولكن لديها وجهٌ خارجي إخواني أيضاً تطل من خلاله على العالم بوجه اكثر تسامحاً من الوهابية، يمثله الشيخ القرضاوي.

سعت قطر للجمع بين السلفية الوهابية والإخوانية، ليس في ديارها فحسب، بل في كل مكان وصلت اليه (مصر، تونس، السعودية، سوريا، العراق، ليبيا)، ودعت الطرفين على عدم الاصطدام مع بعضهما البعض، وان يتحمل الطرف الاخواني الصعوبات الجمة التي يعاني منها من التيار السلفي الاكثر تشدداً، على أمل انه اذا ما وقعت اية مشكلة لدى الإخوان، فإن التيار السلفي سيكون السلاح الأمضى لمواجتها (هذا لم يحدث مثلاً في مصر حين حدث الانقلاب على الإخوان، لأن التيار السلفي الوهابي الذي انضم للسلطات، كان في الأساس مخترقاً من المخابرات المصرية ومن السعودية نفسها).

بيد أن الفكرة القائمة على جمع الطرفين، او احتضان الطرفين ودعمهما، لقيت ترحاباً كبيراً في السعودية نفسها.

وليس هناك أفضل من وجود اشخاص هم في الأساس وهابيون، وفي نفس الوقت محسوبين على الإخوان (الإخواسلفيون/ الصحويون/ السروريون ـ نسبة الى الشيخ زين العابدين سرور).

وجد سلمان العودة وناصر العمر والعريفي والبريك ومشايخ آخرين انفسهم في قطر، يلقون الخطب في المساجد، ويظهرون على شاشات قطر الرسمية المحلية، ويلتقون بالأمير وأعضاء العائلة المالكة، كما ويلتقون بالشيخ القرضاوي نفسه، والذي أبدى مرونة بتوجيهات قطر حتمته ضرورات المصلحة السياسية (لكل التيار السياسي الاسلامي السنّي/ مع تأكيد على السنيّة مقابل الشيعية).

على المستوى السياسي القطري، فإن الأموال القطرية كانت تُدفع للقاعدة في العراق، وجبهة النصرة في سوريا، ولداعش نفسها، مثلما تدفع للإخوان في العراق، وحركة احرار الشام في سوريا، وغيرها من التيارات الاخوانية والسلفية، اللهم الا تلك التي ارتبطت بالسعودية، كجيش الاسلام الوهابي. وحتى على المستوى الإعلامي، فجهدها كان ينصبّ على دعم التيارين، اما عبر قناة الجزيرة واخواتها (العربي، الحوار) او عبر قنوات أُنشئت لهذه الغاية وهي كثيرة.

لاحظ الأمراء السعوديون مبكّراً ان قطر تحاول السيطرة على (الإخوان المسلمون) الذين استفادت منهم سابقاً ـ في عهد فيصل ـ كوجه خارجي منذ الستينيات الميلادية الماضية وحتى عام 1990؛ وزيادة على ذلك تريد ان تكون محور (الوهابية) باعتبارها ـ قطر ـ الدولة الثانية في العالم التي يمكن تصنيف معتقد شعبها بأنه وهابي في مجمله. وكان النظام السعودي يرقب حركة المشايخ والدعاة الوهابيين والاخواسلفيين باتجاه قطر، لكنه لم يتخذ قراراً بالاصطدام معهم، خاصة الاخواسلفيين منهم.

 
الشاعر زياد بن نحيت

وهؤلاء من جانبهم ـ كما العودة ـ رأوا استثناء السعودية من الربيع العربي، يعني انهم كانوا ضد الثورة في السعودية؛ وكانت التوجيهات والنصائح لهم من تركيا وقطر، كما نُصح كامل التيار الاخواني في العالم العربي، بأن لا يصطدموا مع النظام السعودي، فالمعركة يومها كانت بنظرهم (طائفية مع الشيعة في العراق وايران وسوريا ولبنان)، وهي سياسية براغماتية في مصر وتونس وليبيا والى حدّ ما اليمن ايضاً، مع الأطياف العلمانية والليبرالية والطلابية المنافسة.

ال سعود كانوا يرقبون السلوك القطري، وسلوك الاخواسلفيين، وسلوك الدعاة السلفيين، الذين لا يجدون غضاضة في الولاء لتميم، فهو وهابي بنظرهم، وهو نجدي في جذوره، وبالتالي لا مانع من ان يكون رأساً منافساً او حتى بديلاً عن آل سعود.

بداية وصول سلمان الى العرش، تمّ تأجيل المواجهة السعودية مع الإخواسلفيين، بل بدا ان النظام بحاجة اليهم، خاصة وانه أشعل الحرب مباشرة على اليمن، وقطر اعتبرت ركناً في تلك المواجهة، وتمنّى الاخواسلفيون ومجمل الإخوان في العالم العربي ان يتشكّل تحالف ثلاثي لمواجهة ايران يضم (تركيا وقطر والسعودية). كانت الآمال عريضة بأن يغير سلمان توجهه السياسي تجاه تجريم الإخوان المسلمين، واعتبارهم حركة ارهابية، بما فيها حماس، وحزب الاصلاح اليمني الاخواني المدعوم من قطر، والذي ابدت الرياض ليونة معه، وسمحت للشيخ الزنداني ان يقيم بين ظهرانيها في الرياض، على امل الاستفادة من قواه في المجهود العسكري ضد أنصار الله والمؤتمر الشعبي العام.

لكن مع انفجار المعركة السعودية مع قطر، أصبح التشدد اكثر فأكثر ضد الاخواسلفيين، الذي رفضوا الدخول في المهاترات الاعلامية، ورفضوا ـ في معظمهم ـ تأييد الحكومة السعودية، وفضلوا (الصمت). لكن ال سعود اعتبروا الصمت جريمة، ووقوفاً مع قطر ولو ضمنياً، وطفق الاعلام الرسمي والصحافة الحكومية ومواقع التواصل الاجتماعي تشتم في الاخواسلفيين وتتهمهم بـ (الصمت)، معتبرين ذلك دليل ادانة، بل دليل خيانة للوطن بزعمهم.

واذا كانت الرياض قد تخلّت عن قطر، وطردت قواتها التي تقاتل على الحدود السعودية اليمنية، بل واتهمتها بالتآمر، ورأت ضرورة اسقاط الحكم في الدوحة، بعد محاصرته جواً وأرضاً.. فما هي القيمة المرتجاة لبقاء الاخواسلفيين خارج السجون؟

هكذا فكّر ال سعود وجهازهم الأمني!

مالذي يمنع ان ينتقم آل سعود من قطر، بضرب التيار الاخواسلفي ـ النجدي في معظمه ـ خاصة وأن الدوحة فازت حتى الآن في معركتها السياسية والاستراتيجية مع آل سعود؟

المانع الوحيد، كما قال رجال الأمن السعوديون على مواقع الانترنت، هو ان شعبية هؤلاء الدعاة المستهدفين، كبيرة، وتمتدّ الى خارج الحدود!

فليكن.. وتبقى الدولة أقوى! كما يقولون!

هنا ظهرت تغريدات (وزير الذباب الالكتروني) سعود القحطاني، المستشار برتبة وزير في الديوان الملكي، حيث شنّ حملة على الفئة الصامتة التي تقف ضد الوطن بزعمه، والتي تدعم قطر وتتآمر على البلاد. وأنشأ القحطاني ـ او دليم ـ هاشتاقاً بعنوان: (# القائمة السوداء)، لوضع اسماء (الخونة) وتعهد بمحاسبتهم واعتقالهم.

وهكذا كان، الى ان بدأت الاعتقالات.

مبررات الاعتقال
 
القاعدي عصام بن عويّد

لا تحتاج أنظمة الاستبداد الى اعلان مبررات الاعتقال لخصومها او منافسيها؛ وعلى الدوام هناك مصانع تنتج التهم المعلّبة الجاهزة. وفي الحالة الحالية في السعودية، كانت التهم كثيرة ومتنوعة، وكان الاتهام والإدانة جاهزين، ولا يحتاج الأمر الى الانضباط ضمن موازين تحقيق العدالة وسيرورتها، حتى وإن كانت تلك الاجراءات من صنع النظام نفسه. فالرجال اعتقلوا، والتهم ظهرت على الاعلام، والبيانات الرسمية شنّت حملة اتهامات اضافية، والتحريض الرسمي كان جاهزاً للفتك بالخونة والمجرمين والمتآمرين!

في ظل نظام سياسي معوّق كهذا؛ وفي ظل نظام يفتقد لأبسط أسس تطبيق العدالة.. ما هي الحاجة أصلاً لمناقشة المبررات والتفتيش فيها، وتبيان صحتها من سقمها؟ مالذي يهم بالنسبة للنظام إن كانت التغريدة دليلاً على التآمر ضد النظام، وسواء كتبت يوم أمس او قبل عشر سنوات؟ وسواء كان موضوعها (إدانة) انقلاب تركيا، أو (تأييد) مواجهة القاعدة وداعش في سوريا؟ الأرشيف يحوي ما يُدين المتهم، أي متهم!. هذا ولازالت عبارة الملك تزيّن صحفاً محلية وهي تقول: (الدولة تكفل حرية التعبير، ولا فرق بين مواطن وآخر، ولا منطقة واخرى)!

من أرشيف سلمان العودة الذي نشره جيش النظام الالكتروني، قوله في تغريدة كتبت في اكتوبر 2013 في عهد الملك عبدالله: (الإرهاب هو أعظم خادم للإستبداد، لأنه يجمع المظلومين حول الظالم، ويخضهم له. فمنطق العامّة هو: «سلطان ظلوم، خيرٌ من فتنةٍ تدوم»..). قيل ان سبب الاعتقال هذه المرة للعودة والقرني هو تعليقهما المتفائل على مكالمة شيخ قطر تميم التي اجراها مع محمد بن سلمان، فبعد انتشار خبر المكالمة ضمن عواجل العربية والجزيرة، غرد العودة ودعا: (ربنا لك الحمد، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك. اللهم ألّف بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم). وأيضاً كتب عوض القرني: (.. اللهم ألّف بين القلوب)!

يقال انه على أساس هذا التعليق، أمرت السلطات ـ كما قيل ـ بالتحريض عليهما على تويتر، والمطالبة باعتقالهما، فقد حان وقت الاعتقالات الذي طال تأجيله!

يمكن اختصار مبررات الاعتقال على هذا النحو:

1/ التجسس لصالح قطر، وهذا ما قاله البيان الرسمي من (رئاسة أمن الدولة): حيث (رصدت أنشطةً استخباراتية لمجموعات من السعوديين والأجانب يعملون لجهات خارجية ضد أمن المملكة ومصالحها ومنهجها ومقدراتها وسلمها الاجتماعي، لإثارة الفتنة والمساس باللحمة الوطنية، وقد تم تحييد خطرهم والقبض عليهم)!. وعموماً لا يوجد تهمة أسهل من اتهام الخصم بالعمالة واثارة الفتنة وغيرها، مع العلم أن هناك من هو أقرب الى النظام من حبل الوريد، ومع هذا تم اعتقاله، كما هو الحال بشأن اعتقال الشاعر زياد بن نحيت، الذي كتب قصيدة المديح المشهورة التي تمجد رؤية محمد بن سلمان (الله عليك يا محمد، وسلام عليك يا محمد!) وقد غناها ابن زياد أيضاً. كل ما فعله زياد، ان انتقد الاعلام واسلوبه الهابط في الحرب وان ذلك يمزق شعوب الخليج. وهو ذات النقد الذي وجهه أمير الكويت من واشنطن حين التقى بترامب بداية سبتمبر الجاري.

وعموماً، فقد ناقشنا آنفاً الخيط الرفيع الذي يربط بين الصحويين وقطر، ورؤية آل سعود لقطر ومشروعها، ودور الصراع الحالي بين قطر والسعودية في الاعتقالات.

 
تأليف القلوب.. الطاغية لا يحتاج الى ذرائع ليعتقل!

2/ الانتماء الحزبي، للإخوان المسلمين، التي تمّ تجريمها ووصمها بالإرهاب، ووضع رموزها ضمن قائمة الارهاب السوداء، بمن فيهم قادة حماس. لكن هذا الانتماء ليس جديداً، مع ان المعتقلين ليسوا (اخوان مسلمين) بمعناهم العقدي والحزبي الدقيق. هم (اخواسلفيون) كما ذكرنا ذلك سابقاً. فإذا كانت هذه تهمة، وأن المعتقلين لازالوا يمارسون عملاً سياسياً حزبياً، فكان الأولى ان يتم الاعتقال قبل هذا الوقت بسنوات! وكما ذكرنا، فإن كثيراً من المعتقلين لا علاقة لهم بالاخوان، ولا بالسرورية، ومع ذلك اعتقلوا. وفضلاً عن هذا، فإن النظام الذي يجرمهم اليوم، قد استخدم أكثرهم في مشاريعه الاعلامية والسياسية من قبل، يوم كانت علاقته طيبة بالإخوان المسلمين.

3/ إنهاء (تيار الصحوة) المعوّق للدولة وتقدمها، والذي يُتهم بأنه وراء فشل الحكومة ومشاريعها منذ الثمانينيات الميلادية الماضية. لكن الصحوة السلفية/ الوهابية صنيعة آل سعود. لقد جاءت ولادتها متأخرة عن نظيراتها الاسلامية في كل البلدان المجاورة الخليجية والعربية. بل كانت متأخرة حتى عن الصحوة الاسلامية/ الشيعية في السعودية والتي بدأت منتصف السبعينيات الميلادية، قبل قيام الثورة الايرانية حتى.

ما سمي بتيار الصحوة (السلفي الوهابي) نشأ بداية الثمانينيات كرد فعل على التحديات السياسية للنظام السعودي، والتي تمثلت بقيام الثورة الإيرانية التي قزّمت ـ بالمقارنة ـ الحكم السعودي، وناطحت شرعيته. وبالنسبة للمشايخ والدعاة الوهابيين، فإنهم انتفضوا بعد أن وجدوا أن ألقهم المذهبي قد ضاع وتبدد، فكانت الصحوة بمثابة انتفاضة داخل المذهب الوهابي الرسمي.

وهكذا قامت الصحوة ونشأت بقرار من الملك فهد نفسه، الذي كان قلقاً من تكرار التجربة الايرانية في السعودية (كما كان يروج بعض المحللين الغربيين) وكانت حركة جهيمان العتيبي ايذاناً بتحول في السياسة السعودية، أدّت الى دعم الصحوة رسمياً، وكذلك دعم المؤسسة الدينية لها (ابن باز وابن عثيمين)، وتحويل جهدها لمواجهة ايران والشيعة، وكذلك الشيوعية المحتلة لافغانستان بدل ان تنفجر الاوضاع بوجه آل سعود في الداخل.

ترتب على تبني الملك فهد للصحوة (هناك مقاطع فيديو تبين تأييده وتشجيعه لها علناً هو والامراء الكبار بمن فيهم الملك سلمان الذي كان أميراً للرياض)، ان الدولة اصبحت حقلاً مشاعاً لهذا التيار الجديد الذي سُمّي بـ (الصحوي)، الذي أعطي مساحة واسعة في (توهيب) الدولة وأجهزتها اكثر مما هي عليه، وكذلك (نجدنتها)، فيما أخمدت أنفاس التيارات الأخرى، التي وُضع رموزها في قائمة الاتهام والاستهداف في اشخاصهم ومعتقدهم، واصبحوا تالياً ضحايا سلطان الدولة وسيفها الأملح.

استمر التحالف بين الملك فهد والتيار الصحوي الصاعد، الذي يمثله مشايخ تتلمذوا وتربوا على يد المشايخ الرسميين من هيئة كبار العلماء، الى عام 1991، حيث تم خلال عشر سنوات أو اكثر قليلاً تسييس المجتمع، وتديينه وهابياً، وتدريبه في المخيمات الصيفية، وفي مواقع القتال في أفغانستان، وانعكس ذلك على زيادة تطلع الصحويين في المزيد من السلطات، الى ان جاءت ازمة احتلال الكويت وقدوم قوات اجنبية، فكان ذلك ايذاناً بالإنشقاق منذئذ.

اذا كان هناك من جريمة، فالنظام السعودي، والعائلة المالكة هي التي ارتكبتها. وما كان الصحويون يستطيعون فعل شيء لولا الملك فهد الذي منحهم الصلاحيات والسلطات. والفشل والإخفاق السياسي للدولة، إنما هو فشل لإدارة الملك فهد ومن بعده أشقائه، فالصحوة وتيارها ورموزها إنما هم صنائع، وليسوا ادوات مفكرة. كانوا أدوات في جهاز الدولة استخدموا لضرب الخصوم وتنفيذ سياسات الدولة في المجمل، قبل ان يعتقلوا في التسعينيات. فلماذا الآن وبعد الطلاق بين التيار الصحوي وآل سعود والذي استمر نحو 27 عاماً، يحمل (غير آل سعود) الفشل، ويلقى على أكتاف آخرين؟!

 
تشهير الصحافة بالمعتقلين

4/ هناك آراء مقربة من الحكومة منشورة، تقول بأن رؤية محمد بن سلمان 2030 لن يكتب لها النجاح ما لم تقض على بقايا الصحوة السلفية/ الوهابية، وتضع رموزها السابقين في السجن مرة أخرى. الصحويون وغيرهم يقولون ان محمد بن سلمان يسير باتجاه إفساد المجتمع ـ وليس انفتاحه الاجتماعي والسياسي. ويرى المراقبون بأن رؤية 2030 فاشلة، ولا يمكن مقاربتها من خلال القضاء على خصوم الحكم او ناقديه.

الرؤية لها وجوه متعددة: سياسية واجتماعية واقتصادية. وفي كل الاتجاهات بان عطبها والخلل الجوهري فيها. اذن لا بدّ من تحميل أحدٍ ما، مسؤولية الفشل، والتعويق، والانطلاق، وحتى العلمنة! وبالقطع لن يتحمّل ابن سلمان مسؤولية فشل رؤيته.

الرؤية عمياء. وهي بحاجة الى مناخ متسامح، ومناخ حريات لتنجح، وليس الى مناخ قمعي واستبدادي، يخفي الفساد، ويمنع تعدد الآراء، والنقاش في مؤدياتها ونتائجها الكارثية حتى الآن.

5/ يُتهم الصحويون بتشجيع الثورات العربية، ودعم الارهاب. وما دامت المملكة هي رأس الحربة في (الثورات المضادة) فلا بدّ ان تقف بوجههم. لكن فات هؤلاء:

  • ان القمع الحكومي الحالي متأخر جداً، اذا كانت القضية تتعلق بالثورات التي فشل أكثرها. فلمَ لم يكن القمع بداية الربيع العربي، وليس الان. سيقال ان هذه تصفية حسابات قديمة!
  • ان الصحويين كانوا يتقاطعون مع النظام في دعم الثورات أيضاً، وأكثرهم استخدم في تشجيع الارهاب، كما في سوريا والعراق وتخريبهما اضافة الى ليبيا. هنا يوجد تطابق كامل بين السعودية وقطر وتركيا؛ وتطابق كامل بين آل سعود والتيار الصحوي السروري الاخواسلفي. ثم ان دعم هذه الثورات الثلاث على الأقل، كان بتحفيز من آل سعود، ويجري أمام ناظريهم، وكان يشارك بنفسه في دعمها بشكل مباشر بالسلاح والمال والرجال، وكل الاعلام المحلي، وكل السياسيين، وكل الأمراء، كانوا متناغمين ويقومون بنفس المهمة. فلم يصبح الأمر جريمة صحوية، والصحويون انما كانوا يطبقون ما تطبقه الحكومة نفسها من دعم للإرهاب الزرقاوي والداعشي وغيرهما؟!
  • العودة والعريفي والقرني والبريك والعمر والحوالي وأضرابهم أيدوا الثورات جميعاً، عدا البحرين لأسباب طائفية. لكن ما كان يشغل آل سعود هو تدمير البلدين (سوريا والعراق تحديداً) بدعوات الجهاد السعودية، وما أكثر الدعوات وهي علنية، شارك فيها العودة واضرابه. والحكومة نفسها كانت تؤيد ذهاب الشباب للقتال في العراق، حتى تتخلص من القاعديين لديها بتصديرهم للخارج. هذا ما ذكره ابن شويل القرني الذي اعدمته السلطات قبل عام ونصف تقريبا، والذي رفض وساطات حكومية قام بها مشايخ صحويون (ناصر العمر/ وسفر الحوالي)، بأن لا يفجروا داخل السعودية، وان يتوجهوا للعراق! بل ان الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى سابقاً، قال علنا: إن الجهاد في العراق! (اي ليس في السعودية)؛ وهو القائل بأنه لا يمانع بأن يُقتل من الشعب السوري ثلثه لينجو الثلثان! ثم ان مشايخ رسميين وصحويين عددهم 27 شخصاً، اصدروا بياناً يفتون فيه بالجهاد في العراق!

لم يفعل الصحويون شيئاً مختلفاً في تشجيع الارهاب، عما كانت تفعله الحكومة السعودية وآل سعود. ولم يكن ما يفعلونه الا محبّذاً وضمن سياسات الدولة المُعلنة. وما اختلف الصحويون وتحريضهم على الارهاب ودعمهم له بحقائب المال والفتيا والرجال والاعلام، عن نظرائهم من المشايخ الرسميين؛ بل ان بعض الصحويين المتهمين بالإرهاب، كانوا يوصلون الرسائل والأموال الحكومية (لمستحقيها من المجاهدين). وبين المشايخ الصحويين من كان يمثل الحكومة السعودية ويعتبر طريقها في التعامل مع قادة داعش والقاعدة (جبهة النصرة في سوريا)، مثل الشيخ عصام العويد الذي اعتقل مؤخراً، والذي كان أشبه ما يكون بممثل للشيخ المحيسني مفتي النصرة، والذي يعتبر هو الآخر رجل السعودية ومخابراتها، فلما استنفذت أغراضها منه وضعته في قائمة الإرهاب.

الآن بعد هزائم آل سعود في العراق، وفي سوريا، وفي لبنان، وحتى في اليمن.. تريد الرياض ان تنأى بنفسها عن مشروعها الإرهابي الفاشل، وأن تُنظّف ملفها السابق، بالقاء الاتهام او حصره في المعتقلين الصحويين/ الاخوان السروريين. ولا ننسى هنا، أن مئات ان لم يكن آلافاً من الشباب السعودي قتلوا في العامين الماضيين في سوريا والعراق، كونهم جنوداً وانتنحاريين وشرعيين في داعش والنصرة، حتى لا يكاد يكون هناك عائلة في نجد الا وأصيبت في احد أبنائها. الآن النظام يقول لهذه العوائل ولكل المواطنين: ان المسؤول عن ذلك هم هؤلاء الصحويين! وهم المسؤولون عن تشويه سمعة البلاد ووصمها بالإرهاب!

شيء واحد مهم التذكير به، وهو ان الصحويين اختلفوا مع آل سعود بشأن الثورة المصرية، والى حدّ ما في الموقف من الاخوان ووضعهم في قائمة الارهاب، خاصة حزب الاصلاح في اليمن (الذي تحتاجه الآلة العسكرية العدوانية)، ولا تشكل تونس موضع اختلاف كبير في المواقف بين الجانبين الصحوي والرسمي السعودي، في الوقت الحالي.



الصفحة السابقة