انهيار السياسة الخارجية السعودية

سعدالدين منصوري

جنوح حكّام السعودية نحو سياسة خارجية راديكالية تلغي المنطقة الرمادية المحجوزة للمناورة السياسية.. يجعّل أي تبدّل في السياسة الخارجية، علامة ودلالة انكسار، وليس إعادة تموضع.

 

سلسلة مواقف سياسية جديدة إزاء قضايا المنطقة تشي بتحوّل لافت في السياسة الخارجية السعودية. يأتي في مقدمة المواقف تصريح وزير الخارجية السعودية عادل الجبير في 23 سبتمبر الماضي: «لا سبيل لإنهاء الأزمة السورية إلا من خلال الحل السياسي”، ليحسم الجدل حول ما كان يتردد في أوساط المعارضة السورية المتحالفة مع الرياض، حول حقيقة الموقف السعودي من المسألة السورية عموماً، كما يلجم تصريح الجبير المكرور «تنحي الأسد بالسلم أو الحرب». لاريب، أن هذه المواقف بقدر ما تعكس مواكبة سعودية وملازمة للموقف الاميركي أولاً والأوروبي لاحقاً من الأزمة السورية، وبما تغلّف الخسارة السعودية في الساحة السورية.. فإنها تندك في مسار الانسحاب من الميدان.

موقف آخر لافت صدر عن الجبير أيضاً في قضية الصراع العربي الاسرائيلي، حيث قال في كلمة بلاده أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 سبتمبر 2017 بأن: “النزاع العربي الإسرائيلي أكبر نزاع تشهده المنطقة في وقتنا الحاضر، إننا لا نرى مبرراً لاستمرار هذا النزاع، خصوصاً في ظل التوافق الدولي حول الحل القائم على حل الدولتين، والمستند على قرارات الشرعية الدولة ومبادرة السلام العربية». وهكذا لم تعد خافية رغبة السعودية في إغلاق ملف الصراع العربي الاسرائيلي، لأغراض داخلية (اشتراطات الدعم الأميركي لابن سلمان لبلوغ العرش)، وإقليمية محمولاً على الصراع السعودي الايراني، ودولية موصولة بحركة الاستثمارات التجارية في المملكة.

يعد الانفتاح السعودي على العراق المثال الأكثر سطوعاً، فالقناة التي شقّها فريق محمد بن سلمان على العراق عبر سياسة احتواء لبعض قادته الشيعة (مقتدى الصدر، إياد علاوي وآخرين)، تؤسس لفك عزلة السعودية في المنطقة بعد تدهور علاقتها مع دول مصنّفة على الإخوان المسلمين أو داعمة لهم مثل تركيا وقطر.

في ملف العلاقات السعودية الايرانية، وبرغم المناكفة الإعلامية، من جانب الرياض، فإن الأخيرة أمام معادلة شديدة التعقيد أملتها أوضاع المنطقة، إذ لا يمكن فتح مسار بغداد وإغلاق مسار طهران، ببساطة بفعل تداخل الخطوط السياسية الشيعية في العراق، التي يعمل السعودي على اختراقها، وتالياً صعوبة تحقيق اختراق حقيقي مع إبقاء التوتر في العلاقة بين الرياض وطهران على الساحة العراقية.

الإشارات التي صدرت من مسؤولين عراقيين شيعة يعتنقون مبدأ الانفتاح على الإقليم ولا سيما السعودية ومن بينهم: رئيس الحكومة حيدر العبادي، ووزير خارجيته ابراهيم الجعفري، وزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، وزعيم تيار الحكمة عمار الحكيم، قد أطلقوا دعوات وساطة بين طهران والرياض، تأسيساً على قناعة بعدم الفصل بين المسارات.

لابد من إلفات الإنتباه الى أن الرياض لم تعتد على تظهير نقاط ضعفها، وإن نفي تصريحات المسؤولين العراقيين (رئيس الحكومة حيدر العبادي، ووزير الداخلية قاسم الأعرجي) حول طلب الوساطة بينها وبين إيران، ونفي تصريح المسؤول الإيراني (مستشار رئيس مجلس الشورى الايراني أمير عبد اللهيان) حول طلب وساطة طهران لدى أنصار الله بشأن التسوية حول الحرب، تعكس جوهر السياسة السعودية القائمة على إظهار القوة في مواطن الضعف.

وعليه، تبدو الرياض أميل الى الانفتاح السياسي مع طهران بعيداً عن الأضواء، مشروطاً، بطبيعة الحال، بالتوجّه الأميركي، الذي ينزع نحو التصعيد مع طهران، في ظل أحاديث حول إمكانية الغاء الاتفاق النووي من طرف واحد. على أية حال، نحن أمام مرحلة سيولة سياسية مرتبطة بالداخل السعودي (في ظل تجاذبات السلطة داخل الأسرة المالكة، والتحوّلات الاجتماعية بطابعها الحداثوي)، وحرب اليمن التي أبدت الرياض في الكواليس (بحسب مصادر أنصار الله) رغبة في التسوية النهائية، على الضد من الرغبة الاميركية وأداتها الاماراتية التنفيذية على الأرض.

في الأزمة الخليجية، أفق الحل بات مسدوداً، وإن الخيارات كافة استنفذت أغراضها، إذ لابد من عمل استثنائي يوضع نهاية حاسمة قبل موعد القمة الخليجية المقرّرة في الكويت في ديسمبر القادم. هناك محاولة من أمير الكويت، الذي زار الرياض، ولكن الآمال بالحل لازالت محدودة.

الاتصال الهاتفي بين محمد بن سلمان وتميم بن حمد في 8 سبتمبر الماضي تمّ قبل إنضاج شروط نجاحه، وجاء في غير وقته المناسب، ولذلك كان محكوماً بالفشل، وإن إساءة تفسير خلفيته ومضمونه ليس سوى المبرر العلني الذي أسبغ على قرار نبذ خيار الحوار وتالياً التسوية الشاملة. أمير الكويت صباح الأحمد في لقائه بترامب بواشنطن في 7 سبتمبر الماضي كشف أسراراً صادمة وغير مألوفة في الخلافات الخليجية، حين تحدّث عن الاجواء الإيجابية إبان قمة الرياض في 21 مايو 2017، إذ لم يكن هناك ما يشير الى وجود خلاف بين قطر من جهة والسعودية والامارات من جهة ثانية. كما كشف أمير الكويت عن نجاح مسعاه في إحباط العمل العسكري ضد قطر.

القراءة الداخلية لما سبق تنطلق من شعور النظام السعودي بضغط الفشل في السياسة الاقليمية العدوانية والاخفاقات على مستوى القيادة الداخلية، الأمر الذي يضطره نحو تبني خيارات قهرية. فالرجل في القمة، ولي العهد محمد بن سلمان، يبدو وحيد الدار، بعد أن تخلص من الأمراء المنافسين، والأعمام من كبار السن، كما دخل في خصومة مع أكبر حركة إسلامية، وأبعد السلفيين المواليين للنظام، وهمّشهم، وحرمهم من أي سلطة حقيقية، وقوّض سلطتهم، حين وعد بتسلية السعوديين من خلال حفلات الغناء والرقص. لم يعد الأمير الشاب يكترث بإجماع العائلة ولا توافق المجتمع، وأن مبادراته المتعددة لإصلاح الإقتصاد المتعثّر تنطوي على تدعيات خطيرة. باختصار: السعودية تتجه نحو تحوّل غير قابل للتكهّن والذي قد يصبح إشكالياً بدرجة خطيرة.

تجربتا: الحرب على اليمن، والأزمة مع قطر شكلت خسارة للسعودية في مصداقيتها وهيبتها وتحالفاتها، والأهم أنها تخسر معركتها مع إيران، وتخسر بكونها الدولة الاسلامية المحورية، تضاف اليها المحاولات العقيمة للنهوض بأسعار النفط التي لاتزال دون المستوى المطلوب للخروج من شرنقة العجز المالي المتراكم.

في التداعيات: اضطرت الرياض للانفتاح على بغداد، وعلى الأطراف القريبة من طهران، واختارت إخلاء الساحة السورية لصالح خصومها: روسيا وايران الى جانب تركيا لتحديد المستقبل السياسي في سوريا. وينسحب ذلك على الوضع في أفغانستان وباكستان التي خسرت فيها أكبر حليفها نواز شريف بعد تنحيته على خلفية فضيحة الفساد المالي.

كل ما سبق لا يمكن فصله عن «رؤية» ابن سلمان التي تزداد غموضاً، وتقترب من الفشل.

الصفحة السابقة