بلسان الامير نايف آل الشيخ

إن أردت الا التطوير وليس الاصلاح!

سمع أحد الأمراء في مجلس حضره وكان يتبادل روّاده أطراف الحديث حول الاصلاح السياسي في البلاد، وأورد أحدهم الاية المباركة (إن أردت الا الاصلاح ما استطعت) فما كان من الامير الا أن قطع حبل النقاش وراح يردد بل تطوير.. بل تطوير.. بل تطوير!

يسوء بعض الأمراء الاستماع الى كلمة إصلاح لأنها تبطن إتهاماً بالفساد، اعتقاداً منه بأن النظام يجسّد الحكم الصالح بالمعنى الشرعي.. لقد ظل هذا الزعم رائجاً لفترة طويلة، وكان له مستقبلون كثر، وقد أخذوا به، بل وغضّوا البصر عن اقترافات العائلة المالكة بفعل وابل العبارات الدينية التي كان يطلقها رجال المؤسسة الدينية، والمحذّرة من (الفتنة)، و(شق الصف ووحدة الامة)، و(الخروج عن جادة الحق).. وقد نجحت العائلة المالكة بفعل الاسناد الديني الكثيف والمتواصل في إخماد ظواهر السخط العام المتفجّرة بين فترة وأخرى كرد فعل على أوضاع سياسية واقتصادية.

وكما تخبرنا التجارب السابقة، فإن العائلة المالكة تلجأ الى الاستعمال الكثيف للخطاب الديني حين تواجه مشكلات تكون عاجزة عن حلها بطريقة سياسية وتقنية، أو تمس مشروعية السياسات العامة.. فقد لجأت العائلة المالكة الى المؤسسة الدينية لتسوية الصراع على السلطة داخل العائلة المالكة في الستينيات وانتصرت لجناح فيصل الذي انتهى بعزل الملك سعود عن السلطة.. وجرى إقحام المؤسسة الدينية لحل اشكالية الاستعانة بالقوات الاجنبية في حرب الخليج الثانية رغم مخالفة فتوى سابقة للمفتي الراحل الشيخ بن باز تحرّم الاستعانة بالقوات الكافرة من قبل نظام جمال عبد الناصر.. وزجّت العائلة المالكة بعلماء الدين في مواجهة التيار الديني السلفي المطالب بإصلاح الحكم.

ومنذ قررت العائلة المالكة في منتصف مارس الماضي الانقلاب على المسار الاصلاحي الذي كانت الغالبية الشعبية تسلكه كان متوقّعاً أن يلعب علماء الدين دوراً عاضداً لتوجّه العائلة المالكة الجديد.. وإذا كانت ظروف الماضي تخفي طبيعة دور العلماء، واللغة الدينية التي يلجأون عادة اليها، وهكذا قوة التأثير التي يحدثونها في الاتباع، فإن الظروف الراهنة تكاد تكون من الوضوح البالغ بحيث يصبح الدور واللغة والتأثير معلومة سلفاً. إذ لم يعد حجب المعلومات بصورة كاملة ممكناً، كما لم يعد ممكناً استعمال عنصر المفاجأة، فالتاريخ يضخ من الأمثلة ما يكفي لمعرفة أصول اللعبة الداخلية، والادوار المتبادلة بين الدين والسياسة أو بين أهل الدين وأهل الحكم.

في قضية الاصلاح السياسي، القضية المحورية في السعودية منذ أكثر من عام، كان هناك طرفان رئيسيان يتجاذبان: القوى السياسية الدينية والليبرالية من جهة والحكومة ممثلة في العائلة المالكة من جهة ثانية. وقد ظل التجاذب محصوراً بين الطرفين، فيما كانت المؤسسة الدينية مستبعدة الى حد ما أو أن وقت إقحامها لم يحن بعد، على اعتبار أن النشاط الاصلاحي لم يصل الى مرحلة المواجهة، أو أن العائلة المالكة لم تستنفذ بعد أدواتها في معالجة القضية، فقد أرخت العنان قليلاً للتيار الاصلاحي كيما يفصح عما يشاء من مطالب وأجندات، خصوصاً في فترة المد الاصلاحي المندفع من أرجاء البلاد كافة، وكان من الصعب حينئذ مباغتته في لحظة عنفوانه، وفي ظروف انشغال الدولة بظاهرة العنف المتفجّرة بصورة غير مسبوقة، والتي لم تكن الحكومة واثقة بدرجة كافية بقدرتها على تطويق العنف أو حتى التنبوء بما تخبىء الايام لها بفعل انتشار بؤر العنف على مساحة شاسعة من البلاد.

وكان هناك جهد حثيث من أجل القضاء المبرم على ظاهرة العنف، كأولوية كبرى قبل التفكير في فتح جبهات جديدة، وفي الوقت نفسه كان هناك تعويل على الزمن في إنهاك النشاط الاصلاحي عبر سلسلة تسويفات ووعود مؤجلة.. ولم يكن مصادفة أن تأتي ضربة التيار الاصلاحي عقب تصفية جيوب العنف بدرجة كبيرة، ولعل في تصريح الامير سلطان بالقضاء على 80 بالمائة من جماعات العنف مؤشراً على الخلفية التي كان يستند عليها صانع القرار الأمني والسياسي في البلاد، والظروف الملائمة التي صنعتها عودة الثقة للعائلة المالكة بقدرتها على الامساك بزمام الأمر وبالتالي الدخول في مواجهة مع التيار الاصلاحي السلمي.

بيد أن هذه المواجهة تمت في أجواء مختلفة، وتحت تأثير شروط سياسية داخلية ودولية مختلفة، فالاصلاح السياسي لم يكن مطلباً شعبياً فحسب، فقد كان جزءا حميمياً من خطاب القيادة السياسية في البلاد لفترة طويلة الى جانب كونه مطلباً خارجياً أيضاً.. ولذلك فإن العودة للوراء تتطلب تبريراً صلباً لا يكفي فيه مجرد تقديم تفسيرات سياسية مجردة، أو حتى إطلاق بيانات تقريرية، وتظل هناك حاجة دائمة وبخاصة في دولة قائمة على أيديولوجية دينية الى توجيه ديني للموقف السياسي يضفي عليه مشروعية خاصة، ويحجز جزءا من ردود الفعل الساخطة.

وهذا في تقديرنا ما حصل مع إقدام الحكومة على ضرب التيار الاصلاحي والعودة الفورية الى نقطة البداية، فبعد اعتقال عدد من رموز التيار الاصلاحي، والمصاحب لعدد من الاجراءات الصارمة ضد حرية التعبير والعمل الاهلي، كان هناك حاجة ماسّة لتوفير غطاء ديني يتكفل بتقديم ذرائع كافية لتقويض النشاط الاصلاحي من جذوره، ويسهم بدرجة أساسية في إعادة الاعتبار للمشروعية الدينية والسياسية المتصدعة للعائلة المالكة.

لقد قرأ أو سمع كثيرون كلاماً للأمير نايف وزير الداخلية حول موقفه من كلمة (إصلاح) وقد نشرنا على صفحات هذه المجلة في العددين الماضيين فقرات مما دار في مجلس أحد الاعيان بجدة، حيث أبدى الامير امتعاضه من كلمة (إصلاح) مشدداً على استبدالها بكلمة (تطوير) من أجل استبعاد الدلالات الكامنة في الكلمة الأولى، ونرجو الا يأتي من فصحاء اللغة داخل العائلة المالكة أو خارجها من يحذّر من الافراط في استعمال كلمة (تطوير) للايحاءات الدارونية التي تحملها كلمة (تطوّر).

على أية حال، فما قاله الامير نايف صار مطبوعاً على لسان بعض علماء الدين الذين باتوا يرددون عبارات الامير بحذفيرها، وكان مثيراً للسخرية أن يلهج عالم دين بعبارات متطابقة صادرة عن الامير، بما يكشف عن طبيعة التأثير الواقع على عالم الدين.. كيف اذا كان هذا العالم يقف على قدم المساواة مع الأمير وأن يكون عضواً في مجلس الوزراء.

ففي لقاء مفتوح في جامع الأمير فيصل بن فهد مع الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وزير الشؤون الاسلامية والاوقاف والدعوة والارشاد، سئل عن موقف العلماء من الاصلاح السياسي، فأعاد الشيخ صالح آل الشيخ ما قاله الأمير نايف برفضه كلمة اصلاح وفضّل كلمة (تطوير) تماماً بنفس المعنى. واعتبر استعمال لفظة (الاصلاح) تلاعباً بالالفاظ واستعارة من الغرب، واعتبر مستخدميها بأنهم لا يعلمون الدين أو استعمالها لأغراض خاصة.. وقال بأن الاصلاح لا يعني وجود الفساد تماماً كما قال الامير نايف.. وان الاصلاح لا يعني ان ما قبله كان فاسداً.

ونقد آل الشيخ مطلب الملكية الدستورية وفهمها على أن يترك للناس أن يشرّعوا لنفسهم تماماً كما في البرلمانات الغربية.. وفسّر مطلب الاصلاح الدستوري بهذا المعنى على أنه إزالة للمرجعية الدينية.. وقال بأن هذه البلاد في الأغلب الأكثر جداً تخضع كثير من الاحكام الى متخصصة الشرع في التعليم والدعوة وغيرها.. ورفض ان يقبل مشاريع الاصلاح من أناس لا يعون الشرع.. ورفض الديمقراطية وقال بأن نظام الحكم في الاسلام لو فهم على وجه الخصوص فهو أعظم من الديمقراطية، وهو موكول الى أهل الحل والعقد.

وقال بأن الدستور و البرلمان و الديموقراطية ليسوا من الإسلام، وأن هذه الافكار لا تتماشى مع الاسلام وأن الحكم في الدين لله سبحانه و ليس للناس وما على الرسول إلا البلاغ.

هذه الاخضاعات المتكررة لمطالب الاصلاح السياسي تحت لغة دينية صارمة كالتي استعملها الشيخ صالح آل الشيخ رغم افتقارها للتأصيل الشرعي العميق، فإنها تمثل إستراتيجية دفاعية ثابتة لدى النظام السياسي في السعودية. فالشيخ هنا لا يقدّم تفسيراً دينياً مقنعاً بقدر ما يهدف الى زعزعة الأسس الحقوقية التي يستند عليها التيار الاصلاحي في مطالبه، بمعنى آخر نزع المشروعية عن المطلب الاصلاحي وإعادة تأكيد المرجعية السياسية والدينية للتحالف التاريخي بين العائلة المالكة وعائلة آل الشيخ.

ويسند المنزع المتنامي نحو تعزيز مرجعية التحالف الديني والسياسي تقاسم الادوار بين العائلتين المتحالفتين آل سعود وآل الشيخ. فبينما تضطلع الأولى بالامساك بمصادر القوة القاهرة، تتولى الثانية بإضفاء المشروعية الدينية على تلك المصادر، وبالتالي على من يمسك بها، باعتباره الحافظ للكيان الذي يتم بداخله مزاولة سلطة الشريعة. يلفت الى ذلك أيضاً تحذير مفتي المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء عبد العزيز آل الشيخ لمن يشككون (الأمة في قيادتها) وتصنيفهم في خانة (الأعداء حقاً), ودعوته المفتوحة إلى الاعتصام بالقرآن والسنة, وطاعة ولاة الامر التي هي من معتقد أهل السنة والجماعة.

ولا عجب في ضوء ذلك التحذير أن يربط المفتي مصير الامة ببقاء قيادتها مؤكّداً على أن (أعظم شيء تصاب به الأمة بعد دينها أن تصاب في قيادتها ومسؤوليها فتضيع الأمة وتختل الموازين وتعم الفوضى), مشيراً إلى أن الشريعة الإسلامية (عندما أوجبت على الفرد المسلم وعلى الجماعة السمع والطاعة لولاة الأمر بالمعروف, إنما ارادت وحدة الأمة قبل كل شيء وسلامتها باجتماع كلمتها وتفرغها لعبادة ربها).

ومن اللافت، وفي الوقت نفسه المثير للسخرية، هو ذلك الادراج المفتعل لموضوع الاصلاح السياسي في عناوين صادمة كالتشكيك في الدين، أو المحاولة لزعزعة الاستقرار والنيل من القيادة، وهي عناوين بكل مضامينها الاتهامية تلتقي ليس عند حد نبذ الاصلاح فحسب، بل وتبرر البطش بدعاته. فحين يلجأ المفتي الى كليشات معلّبة من قييل أن (الإصلاح لن يكون إلا بدين الإسلام) واصفاً من يشكك في ذلك بأنه (العدو)، يعلم تماماً بان هذا الاصلاح يعني به شيئاً محدداً وهو كما يفسّره لاحقاً بما نصه (فإصلاح الأمة لا يكون إلا بدين الإسلام وبقيادة تطبق هذا الدين وتنفذ شرع الله). ويعلل ذلك بأن (الأمة لا يمكن أن تستقيم بلا قيادة ولا يمكن أن تحيا حياة سعيدة بلا ولاية, وقد جعل الله الولاية رحمة, فرحم الله بها العباد, وفضلا تفضل به على الناس). وزاد: (الأوائل من هذه الأمة أدركوا هذا الأمر العظيم فجعلوا طاعة ولاة الأمر بالمعروف من معتقد أهل السنة والجماعة).

وما إسراف المفتي في الحديث عن الاصلاح بوصفه مصدراً للفرقة الا حشداً لمزيد من أدلة الادانة ضد دعاة الاصلاح وتأكيد المرجعية السياسية والدينية للدولة. يقول المفتي: (نحن المسلمين أمة تنتسب الى محمد صلى الله عليه وسلم, فهو نبينا, وننتسب إلى هذه الشريعة, شريعة الإسلام, ويحكمنا كتاب الله مصدر توجيهنا ومصدر اعتزازنا وقوتنا, إذن فما بالنا معشر المسلمين ونحن نسمع بين آونة وأخرى آراء وافكاراً أراد بها مروجوها والمنادون بها تمزيق صفوفنا وجعلنا أحزاباً وشيعاً كل حزب يفرح بما لديه وكل حزب يحقد على الآخر).

فهذا النص يحتوي بصورة مكثّفة على مكوّنات الخطاب الديني الرسمي، فهو يصدر عن عقيدة تنزيهية نهائية يفترض أن تمثل مرجعية عليا ووحيدة للدولة والمجتمع، وتحتكر حق تفسير النص الديني وتملي نسقاً صارماً في العلاقات الداخلية بين الفئات الاجتماعية المختلفة وبين المجتمع والسلطة، كما توصم دعاة الاصلاح بعناوين مختلفة (كالمروجين والمنادين بأفكار وآراء) بأنهم سعاة لتمزيق الصف وإشاعة الفوضى والكراهية. بكلمات أخرى، إن هذا الخطاب يجسّد على وجه التحديد أيديولوجية الدولة الشمولية.

الصفحة السابقة