سبعين مليار دولار نشرت الوهابية الى أصقاع العالم

مـن هـم السلفـيـون الجـدد؟ ومـاذا يريـدون؟

د. أحمد بشارة

ببساطة، السلفيون بشتى تصنيفاتهم يريدون الحاكمية، واحتكار الحق والحقيقة، وفرض التفسير الجامد للإسلام وفق الرؤية الوهابية التي اتت في ظروف مختلفة، واقامة دولة الخلافة على انقاض النظم الحالية. والسبيل عند السلفيين الجدد هو العنف بشتى اشكاله.

والحركة الوهابية نشأت في بيئة صعبة في محيط الصحراء والجفاف، الامر الذي يتجلى في نظرتها المتزمتة الى الحياة. ولو قدر للشيخ محمد بن عبدالوهاب ان ينشأ في حضارة مدنية، او ذات طراوة زراعية تشقها الانهار، لما اخذ هذا المنحى الجامد تجاه الحياة، وليسَّر معاش اتباعه وعلاقتهم بالغير. الشيخ محمد بن عبدالوهاب وفكره نشآ في بطون صحارى الجزيرة العربية وبعيدا عن حركة العالم في القرن الثامن عشر. وظلت المملكة العربية السعودية الحاضنة الوحيدة له ولأتباعه بفعل السيف. ولم ينجح الفكر الوهابي في الوصول حتى الى اصغر الدول والتجمعات البشرية المحيطة بالسعودية، فظلت هذه المجتمعات في مأمن من تأثيره. فرفضه الكويتيون الاوائل حين واجهوه في معركة الجهراء عام 1920؛ ومثلهم تحصن العمانيون واليمنيون. وكان من المحتمل ان ينحبس الفكر الوهابي في صحارى الجزيرة العربية ويصبح مآله مثل بقية الفرق والمذاهب التي مرت على المنطقة.

لكن صدف التاريخ فتحت له الدنيا: من اصغر القرى في اندونيسيا الى ضواحي لوس انجلوس ولندن، ومن سهول الشيشان الى ادغال افريقيا. حتى وصل الامر ببعض الولايات في نيجيريا الى الاعلان عن اقامة حكم الشريعة الاسلامية! فانتشى مريدوه بهذه الفتوحات الجديدة وكأنها ارادة إليهة! كيف وصل هذا الفكر المحدود والمتدثر في صحارى الجزيرة العربية الى هذه المواصيل؟ القصة طويلة. ولا بد من يوم ان يبحثها المختصون من ابناء المنطقة بشكل موضوعي، دقيق ومتجرد.

باختصار شديد: حدثان تاريخيان مهمان وفرا الفرصة لعبور هذا الفكر الى العالم. الحدث الاول سياسي عسكري، والثاني مالي دعوي. فالاول جاء على هيئة سوء تقدير القوميين والناصريين حينما ناصبوا العداء للنظام السعودي في الخمسينات وحتى هزيمة حزيران من عام 1967. وارتفعت حدة التحرش بالسعودية التي قادها نظام عبدالناصر من اطارها الاعلامي عبر ابواق احمد سعيد وكتابات هيكل الى محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في عام 1969 من قبل نفر من الطيارين السعوديين. ثم جاءت قوات مصرية قوامها اكثر من خمسين الف جندي الى اليمن عام 1962 منتصرة للانقلاب الجمهوري الجديد والمتأثر بالناصرية وعلى انقاض حكم الاماميين المحافظ. ووصلت شظايا الحرب الى الحدود السعودية، فانتصرت الاخيرة للإماميين ضد الجمهوريين، وصارت طرفا في هذه الحرب المجنونة. مختصر الحديث ان السعودية شعرت بأن الاخطار حقيقية، فقررت خوض معركة الوجود مع عبدالناصر، وجاءت هزيمة حزيران وقمة الخرطوم بعبد الناصر صاغرا ومهزوما.

وفي حربها ضد مخاطر عبدالناصر والفكر القومي شهرت السعودية سلاح الدعوة الوهابية لمواجهة نفوذ الازهر ودعاته الشافعيين حول العالم بعد ان اطبق عبدالناصر على الازهر لأغراضه السياسية. وهنا سخرت السعودية قدراتها المالية البترولية الهائلة لنشر الفكر الوهابي. احد التقديرات يقول ان حوالي سبعين مليار دولار من عوائد النفط الضخمة، انفقت على هذا المشروع. فبُنيت مئات الجامعات والمعاهد والمدارس الاسلامية، ليس في السعودية فقط ولكن حول العالم أيضا. واخذت الجامعات الاسلامية السعودية تقذف بعشرات الآلاف من الخريجين، من سعوديين وغيرهم. ومنحت البعثات والمساعدات للطلبة المسلمين من آسيا وافريقيا وبقية دول المنطقة للدراسة في المعاهد السعودية. وشيدت المساجد والمراكز الاسلامية الضخمة لنشر العقيدة الوهابية. وطبعت ملايين الكتب وارسل الدعاة السعوديون في البداية، ثم جُيِّش خريجو المعاهد السعودية الاجانب لهذا الغرض.

هذا المجهود حظي بالرعاية الخاصة من الدولة السعودية، وكان غرضه في البداية محاربة النفوذ القومي وصد الاذى الحقيقي عن النظام، وهي خطوات سيادية مفهومة، لو بقيت في هذا الاطار. لكن سرعان ما انقلبت الموازين وتحول النشطون من خريجي هذا المشروع الدعوي الى حركة جهادية سلفية تحمل السلاح والفكر وذات اغراض سياسية متطرفة. هذه الحركة تريد احياء دولة الخلافة بكل الوسائل، بما فيها وسائل العنف اللفظي والارهاب والمجازر، وبنموذج مشوش حتى في اذهان اتباعها. بعضهم يشهر السلاح في وجه الدولة السعودية ويفخخ الحافلات، وحتى المصاحف، ولا يجد حرمة في الاقتتال في ساحة الحرم المكي. واتباعها لا يحرمون الذبح والتمثيل البشع بضحاياهم كما يمارسونه في الجزائر وافغانستان طالبان واخيرا في العراق.

الدكتور وليد الطبطبائي، مثل العديد من زملائه في كلية الشريعة بجامعة الكويت وخارجها، واحد من خريجي هذه الجامعات السعودية. ودرس فيها خلال الحقبة التي جاء وصفها وتتلمذ في بيئة الدعوة المتزمتة التي تسيطر على الجامعات الاسلامية السعودية. وعندما ينتصر الدكتور الطبطبائي للمقاتلين في الفلوجة.. فهو يفعل ذلك عن دراية تامة بمن هم هؤلاء، ومن يمثلون، وما هو مشروعهم، مهما غلفه هو والشيخ القطان بعبارات الحرص الانساني والخطابة. وهو الموقف ذاته الذي اتخذته الجماعات السلفية ومن والاها من الجماعات الاسلامية من دولة طالبان، وانتصارهم للقتلة في الشيشان، وقبلهم للمقاتلين في البوسنة والهرسك. وجميعنا نتذكر حملات التعبئة والتبرعات والمهرجانات الخطابية في تلك الفترة، والتي انطلت على اصحاب القلوب الانسانية الحقة.

ولنسأل الدكتور الطبطبائي: من يكون هؤلاء المقاتلون في الفلوجة الذين ينتصر لهم؟ وما هو برنامجهم السياسي؟ ولماذا يتسترون وراء الاكمة ويحتمون بالنساء والاطفال؟ بالتأكيد هو يعرفهم، والا لما انتصر لهم. كل الدلائل تشير الى انهم من الجهاديين السلفيين الذين ينشرون الموت من مدريد والدار البيضاء الى الرياض. وهم في تحالف موقت مع ازلام النظام البائد الذي غزا الكويت وشرد الطبطبائي ونكل بأهل الكويت التي لا تزال تتسلم رفات شهدائها من مقابره الجماعية. هل يعقل ان يجهل الدكتور الطبطبائي هذه الحقائق؟ لا اظن.

الدكتور الطبطبائي يريد ان يستغفلنا مرة اخرى. ولمَ لا؟ فالدرس لم يتعلمه الكثير من الكويتيين. وقيادتهم الحكومية تبدو انها في هدنة من طرف واحد مع المتطرفين من الجماعات الاسلامية على امل كسب الوقت والود والامان الزائف، رغم ما يدور حول الكويت من صواعق. والحق كذلك على سعادة رئيس مجلس الامة الذي فتح المبنى لتجار الشعارات المضللة. ولا حجة له في ذلك، اللهم الا إذا كان المبنى مفتوحا كذلك لجميع الاصوات. ولا نظن ان هذا مبتغاه، والا صار مبنى البرلمان مثل حديقة الهايد بارك، وفقد وقاره.

فرحمة بالكويت يا أهل الكويت.

القبس الكويتية، 15/4/2004

الصفحة السابقة