السعودية (القديمة) في شرق أوسط (جديد)

محمد قستي

لا تغرنّكم الدعاية الرسمية السعودية، بأن مملكة آل سعود قد تغيّرت، وأنها دخلت طورها الرابع بعد وصول سلمان وابنه الى السلطة، وأنها وجدت طريقها أخيراً بعد تيهٍ استمر أربعين عاماً!

مملكة آل سعود، هي ذاتها التي عرفتموها: لم يصل اليها الهدى بعد الضلال، ولا الإعتدال بعد التكفير، ولا الرفاهية بعد الفاقة والحاجة، ولا الاستقلال بعد ان نبتت في حضن المستعمر البريطاني، وتولاها فيما بعد بالرعاية الحضن الأمريكي (الكتاب الأخير عن ترامب: النار والغضب، يكشف ان ابن سلمان صعد الى السلطة باتفاق مع ترامب ومقابل الخضوع للسياسة الأمريكية).

سهلٌ القول، وجميلٌ الحلم، بأن السعودية قد تغيّرت.

بعض الشكل تغيّر، أما الجوهر فبقي كما هو ثابتٌ قارٌّ في أصلاب حفدة المؤسس، وسياساتهم.

في بعض الجوهر، حدث تغيّرٌ الى الأسوأ.

ولازال هناك بقايا جدل حول ما اذا كان هذا التغيير الذي يقال أنه عصف بمملكة آل سعود، ووضعها في طريق المستقبل قد حدث ام لم يحدث، او قد حدث ولكن الى الأسوأ!

المواطنون لا يعلمون يقيناً، ولا أظن ان احداً من الباحثين يعلم بوجه يقيني، بأن الأوامر الملكية المتعددة منذ سنوات ثلاث على الأقل قد أحدثت تغييراً في اتجاهه الصحيح.

الشكوك تتراكم بأن (رؤية ٢٠٣٠) لا تمثل رؤية في الأساس لمستقبل زاهر آت. يوماً بعد آخر، يتأكد بأن ليس هناك من رؤية، اللهم الا العمى والغَبَش، والمستقبل المفتوح على المجهول.

لا إجماع في التحليل بأن البلاد قد بدأت بالتحلل من ثوبها الوهابي التكفيري الضالّ، والاتجاه نحو اسلام معتدل بشّر به ابن سلمان وكتابه. فما يُنشر في الصحافة من مقالات وشتائم، وما يروجه الجيش السلماني الإلكتروني من اهانة لأكثر السكان في الحجاز والجنوب والشرق، على خلفية طائفية ومناطقية، تعدّى في فجوره ما كان يُنشر قبل وصول سلمان وابنه للسلطة.

الروح النجدية الطاغية بعنصريتها واصطفائها لذاتها ونزعتها المهيمنة (على السلطة والدين والاقتصاد والسياسة والاجتماع وكل مناحي الحياة) تثبت ان الأقلية الحاكمة تحاول إعادة انتاج نفسها ونظامها وتأكيد هيمنتها التي شعرت أنها تتفلّت من بين يديها في السنوات الماضية.

من يقول بأن البلد المُسعود يتغيّر الى الأحسن، عليه ان يلقي نظرة الى الأكثرية التي تعيش معاناة القمع غير المسبوق، والفقر غير المسبوق، والعنصرية والطائفية غير المسبوقة في تاريخ هذا البلد.

نعم.. تغيّر شكل الحاكم، وانتقلت وراثة السلطة من الأفقية الى العمودية، في عملية لم تنته تداعياتها السلبية حتى الآن، ولم تحظَ باجماع داخل العائلة المالكة التي بدت مفككة كما لم يحدث في تاريخها الحديث كله.

الحاكم السعودي هو الحاكم نفسه، لم يتغير الشكل، ولم تتغير السياسات، ولم يتغير حجم السلطة التي يمتلكها، بل زاد بشكل لم يحدث حتى لمؤسس الدولة نفسه. صار لدينا حاكم يمتلك ـ بعد أن ضرب خصومه ومنافسيه داخل العائلة المالكة وداخل المؤسسة الدينية وغيرهم ـ سلطة غير مسبوقة في التاريخ السعودي، وبالتالي كان الموالون يعتقدون ان احتكار السلطة من قبل ابن سلمان، سيؤدي حتماً الى تسريع اتخاذ قرار بالعمليات الجراحية التي يتطلبها جسد الدولة المنهك.

وفعلاً اتخذ ابن سلمان العديد من القرارات، ولكنه لم يلامس جذر المرض، وانما اتجه لمعالجة أعراضه، فظنّ الكثيرون ان جذر المرض قد زال بمجرد ان اتخذ القرار، وان المريض قد تشافى حتى قبل ان تتخذ الخطوات العملية من قبل الجرّاح!

المملكة التي نعرفها سيتغير شكلها الاجتماعي، وذلك من خلال آليتين: هيئة الترفيه التي فتحت الباب امام كل ما كان محرّماً في قاموس الوهابية؛ والسماح للمرأة بالسواقة الذي لم يُدشَّن بعد. وكلا الأمرين سيؤديان الى تغييرات اجتماعية ظاهرية واضحة المعالم، لكن لا يمكن القول بأنها تمثل التغيير المنشود، في مجالاته الواسعة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والدينية والتعليمية والقضائية وغيرها.

لا توجد مشكلة واحدة من المشاكل المستعصية التي ورثها العهد السلماني قد تمّ حلها.

لا أزمة البطالة، ولا أزمة السكن، ولا تطوير التعليم، ولا توسعت مساحة الحريات العامة بما فيها حرية التعبير، ولا غيرها.. على العكس فإن الأمور إن لم تتأخر وتفسد، فإنها لم تتقدم خطوة واحدة الى الأمام.

ما نقوله هنا، سيحكم عليه التاريخ، ولسنا بحاجة الى الانتظار طويلاً لنعرف (صدق المدّعى).. فالحقائق تتكشّف يوماً بعد آخر، والدعاية السلمانية لا يمكن ان تحجب واقع المأساة.

● ● ●

اما على الصعيد الخارجي، فقد كشف العهد السلماني عن وجه جديد للمملكة. وجه دموي وعنيف. وجه صدامي غير متسامح. وجه يغلّب النزعات الشخصية في الصراعات السياسية، عنوانه المغامرة بل المقامرة والعناد واستسهال فتح المعارك دون القدرة على اغلاق ملفاتها.

تكاد لا توجد دولة قوية في منطقة الشرق الأوسط الا وللمملكة صراع معها، او استعداد لمصارعتها، ظنّاً من ابن سلمان، بأن الذي يوقف انهيار النفوذ السعودي، هو هكذا سياسات مواجهة، صلبة وخشنة، مع الحلفاء، كما مع المنافسين او الخصوم.

المملكة اليوم في حرب مع اليمن، وفي صراع مع قطر، وفي ريب وشك بعد صراع مع العراق، وكانت للتوّ قد حاولت تدبير انقلاب في الأردن، وهي غاضبة من محمود عباس الرافض لصفقة القرن الترامبية. كما أنها في صراع مع سوريا، وغير مرتاحة من الكويت وسلطنة عمان، وهي لاتزال تفتح النار على لبنان، بل على أهم حلفائها في لبنان وهو الحريري الذي حاولت الاطاحة به قبل اشهر، وهي الان تتقصده باعلامها الهجومي علناً.

هذا في المحيط الأقرب..

في السودان، الحليف الجديد، الذي بدأ بتغيير أشرعته كما هي العادة، باتجاه تركيا وروسيا، تستعد الرياض لمنازلته! ومصر تنتظر معركة جديدة، اذ ما تلبث احداها بالتوقف حتى تبدأ أخرى. والجزائر على قائمة الاستهداف السعودي، وتونس لم تنحنِ كما يجب للرياض التي وضعت آمالاً كثيرة فيها وعليها؛ وحتى المغرب تغيّر مزاج السعوديين بشأنه ـ ولو كان مؤقتاً، كما يظن كثيرون.

لكن الأهم في كل هذا، أن امامنا شرق أوسط جديد حقيقي يتشكّل. ليس للرياض فيه من عمل سوى (التخريب).

انها تقف وحيدة حائرة بلا مشروع، وبلا أنصار، اللهم الا الامارات وإسرائيل وصهر ترامب!

شرق أوسط جديد تشكّله تركيا وإيران في غياب تام للعالم العربي، وعلى رأسه قواه الكبيرة: سوريا والعراق ومصر والجزائر، والسعودية نفسها.

يظن جمهور آل سعود بأنهم روّاد الشرق الأوسط وقادته، وانهم صنّاع مستقبله، او المساهمين الأكبر فيه.

ليس دقيقاً، بل ليس صحيحاً، هذا المدّعى.

نعم لمملكة آل سعود في صناعة الشرق الأوسط الجديد دور مهم، ولكن من زاوية تخريب مشاريع الآخرين دون أن يكون لها مشروع. أقصى مناها هو مناطحة مشاريع الآخرين وتخريبها.

دعكَ من المشروع الإيراني واضح المعالم، فالنار السعودية مفتوحة عليه وما هدأت، ولا يراد لها أن تهدأ، كما لا يراد تقاسم النفوذ او التعايش بين المشاريع المتنوعة.

انظر الى تركيا هذه الأيام.. والهجوم السعودي عليها، واعتبارها عدواً مكافئاً لـ (العدو الإيراني).

تركيا، التي سُدّت أمامها أبواب أوروبا، عادت لتقبل بحقيقة انها دولة شرقية آسيوية، وليس لديها من مجال لممارسة نفوذها السياسي، وتمددها الاقتصادي الا في محيطها الإقليمي، العربي. لخدمة مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، افتتحت تركيا قواعد عسكرية في مقديشو وفي قطر، وثالثة في سواكن بالسودان. هنا قامت قيامة ال سعود وقالوا: تركيا تطوقنا، تحاربنا، تحاصرنا، ولا بد من مواجهة النفوذ التركي.

حسنٌ. اترك موقع المتفرج وابدأ العمل وفق مشروعك الخاص، المنفصل عن الاخرين، او المتناغم معهم ـ ان شئت!

كلا.. هذا ليس نهج السعودية، فهي بلا رؤية وبلا مشروع، ويستهويها الصراع اكثر مما يستهويها ـ او في قدرتها ـ صناعة التحالفات.

هل هو قدر السعودية ان تواجه اكبر قوتين شرق اوسطيتين: تركيا وايران؟

هل هناك ضرورة لذلك اساساً؟

وهل لدى الرياض في الأصل قدرة على مواجهة الدولتين وادامة الصراع معهما، إضافة الى صراعات وحروب أخرى تفلّتت من تحت عقال الملك سلمان مذ جاء الى السلطة؟

النفوذ التركي سيكون على حساب نفوذ السعودية ومصر. هذا أمرٌ لا شك فيه.

والنفوذ الإيراني، سيكون على حساب نفوذ السعودية ومصر. وهذا امرٌ لا شكّ فيه أيضاً.

والباكستان التي كانت الرياض تؤمّل حضورها السياسي والعسكري لخدمتها وقت الحاجة، أصبحت معاقة هي الأخرى، وغير قادرة او غير راضية بالقيام بدور يناطح ايران وتركيا في المنطقة.

مصر معوّقة سياسياً، ولا تستطيع بعقلية نخبتها القديمة، الا أن تخسر. هي ليست في وضع امني وسياسي واقتصادي مريح يجعلها قادرة على ممارسة دورها التاريخي الذي تخلّت عنه لصالح السعودية. ومصر غير قادرة ـ كالسعودية تماماً ـ في الحفاظ على مواقع نفوذها القريبة، الا بتغيير سياساتها هي، ولا نظنها فاعلة: (انظر الى صراعها مع السودان حالياً).

مصر المهمّشة والضعيفة لا تفيد الدور السعودي اقليمياً؛ مع العلم ان استعادة مصر لموقعها التاريخي سيكون ايضاً على حساب السعودية وهو ما لا تريده الاخيرة.

مصر الضعيفة، هي مصر المرغوبة سعودياً.

لكن انظر في الضفة المقابلة لطبيعة العلاقة التركية الإيرانية.

الإيرانيون يقولون بأن المنطقة تعصف بها التدخلات الغربية والصهيونية من كل جانب. وخير للدول الكبرى إقليميا ان تمارس دورها لتمنع تلك التدخلات، وتصبح هي المهيمنة على شؤونها. ويرى الإيرانيون بأن هناك متسع لكل دول الإقليم الكبرى ان يكون لها نفوذها، وليس شرطاً ان يكون على حساب بعضها البعض، بل على حساب الدول الخارجية الغربية بالذات.

لهذا تتعاطى طهران بإيجابية مع الحضور التركي المتزايد في المنطقة. فهي تعلم جيداً بأن التمدد التركي لن يكون على حسابها، بقدر ما يكون على حساب ما تبقى للسعودية ومصر من نفوذ. وهي تعلم ثانية، بأن دوراً تركيا في المنطقة، يعتبر أكثر توازناً وعقلانية من النفوذ السعودي نفسه، وسيكون أفضل لاستقرار المنطقة، بل سيكون على حساب السعودية ومصر.

المهم هنا، هو ان لاعبين جدد يقتحمون اسوار ملاعب الشرق الأوسط، لن تكون روسيا وحدها من يفعل ذلك، بل تركيا أيضاً إضافة الى ايران. وهذان اللاعبان الاخيران ـ من الناحية العملية ـ يضعفان بشكل كبير القوى التقليدية المُستنزفة داخلياً وخارجيا، مثل السعودية ومصر، والكيان الصهيوني نفسه.

كانت هناك آمال بمثلث يحفظ توازن المنطقة رؤوسه ايران وتركيا ومصر. لكن مصر لم تكن مهيئة للعب دورها التقليدي، ولازالت غير مهيئة. واما تركيا، فقد انخرطت في مشكلات الربيع العربي بتدخلاتها المباشرة في سوريا والعراق فضلا عن مصر وليبيا وخسرت أغلب رهاناتها. الان هي تتحلل من إرث الماضي او تقوم بتعديله قليلا لتستولد دورها من جديد، ربما برؤية جديد ايضاً.

واذا كان نفوذ القوى التقليدية العربية في معظمها الى انحلال وتراجع، او على الأقل ليس في الإمكان استنهاضه قريباً..

واذا كان النفوذ الاميركي والأوروبي في المنطقة يتراجع هو الآخر، وقد كان من نتائج تراجعه.. تراجع النفوذ الصهيوني والسعودي معاً..

فإن ساحة الشرق الأوسط الجديد ـ على الأرجح ـ ستكون محكومة بمعادلة الثلاثي: الروسي التركي الإيراني.

اما السعودية، فستبقى انتصاراتها على الورق، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وسيبقى جلّ همّها منصبّاً على الدفاع عما تبقى من نفوذ لها في المنطقة، ولكن بالطريقة الخطأ: طريقة المواجهة لا التعاون، وطريقة الصدام والحروب وافتعال المعارك، لا تشكيل التحالفات. وطريقة تخريب مشاريع الآخرين، دون استحداث مشروع سعودي واقعي يقرأ المستقبل.

بهذا المعنى يمكن القول بوضوح: ان حقبة سلمان وابنه ليست حقبة ازدهار وانفتاح وتطور ورفاهية في الداخل، بل هي فترة عصيبة اقتصادية وسياسية وأمنية، حيث تخلخلت أعمدة النظام الأساسية: وحدة العائلة المالكة، وشرعية النظام الدينية/ الوهابية، إضافة الى انهيار تحالفاتها الإقليمية، وعدم القدرة على الإنتفاع كالسابق من تحالفاتها الدولية.

السعودية داخلياً، مفتوحة على العنف السياسي والاجتماعي وغياب الأمل بالعدالة الاجتماعية وبتحسين أوضاع المواطنين الاقتصادية. بل يمكن القول اكثر من هذا، بأنه ينتظر السعوديين سنوات عجاف حقيقية، حيث الانسداد السياسي، وانقلاب المشهد الاقتصادي الناشئ اساساً من تحول اقتصاد الدولة من (ريعي) الى (ضرائبي). ومثل هذه التحولات لا يمكن الا ان يرافقها العنف الرسمي، والعنف الاجتماعي، وتصاعد الجريمة، وربما تستولد الوهابية نسخة أخرى من نسخها المتكررة القاعدية والداعشية.

وعلى المستوى الخارجي، ستبقى الرياض تنزف من نفوذها المتآكل، وكلّما فتحت معارك مع الاخرين زاد ارتكاسها، كما أنها ستبقى أسيرة الملفات المفتوحة عنفاً ودماً في حرب اليمن والمعركة المستمرة مع قطر، وربما غيرهما، وستأخذ هذه المشاكل الرياض الى محطة أخرى متدنية إقليميا، لا يمكن استكناه مستقرّها النهائي.

الصفحة السابقة