تقترب من حافّة (البلطجة)

الدبلوماسية السعودية بين حقبتين

قلّة بضاعة الفريق الدبلوماسي الحالي، تآزرت مع اعتداد مسرف بالذات واحتقار الآخر، وتسبّبت في وقوع صانع القرار في شرّ أعماله. لم يكن التهديد السعودي باستخدام القوة العسكرية، لم يكن مبنياً على حقائق قوة ما عجّل في انكشاف أسرار ضعف المملكة السعودية بعد أن كانت تلوذ بالحذر والنيابة

عمرالمالكي

لكي نفهم الدبلوماسية السعودية والتي تقترب في السنوات الأخيرة من حافة «البلطجة»، فإن لزاماً على أي مراقب العودة الى التاريخ من أجل عقد مقارنة بين ماضي الدبلوماسية السعودية وحاضرها. فنحن أمام مرحلة فاصلة تقطع مع ما سبق وتؤسس للاحق بدأت نذره المفزعة مع حركة تغييرات راديكالية في الرهط السياسي المعني بإدارة شؤون الحكم. قلة بضاعة الفريق الدبلوماسي السعودي الحالي، كفاءة وخبرة وتجربة، تآزرت مع اعتداد مسرف بالذات، مشفوعاً باحتقار الآخر بنكهة شوفينية غير مستورة، تسبّبت في وقوع صانع القرار في شر أعماله. في الجرد النهائي لحاصل النشاط الدبلوماسي السعودي على مدى ثلاث سنوات جاءت النتيجة قاب قوسين من الصفر أو أدنى منه.

 
ابن سعود كان كل شيء في الدولة بما فيها الدبلوماسية (الزركلي)

بفعل الهشاشة البنيوية للدولة السعودية، والعائدة الى الاختلال الفادح بين المساحة الشاسعة والموارد البشرية الكفيلة بتوفير الحماية بالمعنى المطلق، والإنقسام المجتمعي، وحساسية الإقليم كمسرح لصراع القوى الصغرى والكبرى.. لجأت القيادة السعودية الى خيار دبلوماسية فاعلة متعددة الوسائل (المال، الإيديولوجيا الدينية، الاقناع، الإعلام، حروب النيابة وغيرها)، للتعويض عن تلك الهشاشة وسترها؛ ولذلك، تمّ اختيار صفوة العناصر الكفوءة لإدارة ملف الدبلوماسية السعودية.

في السنين الأولى من عمر المملكة، كان مؤسسها الملك عبد العزيز، يتولى بنفسه الملف الدبلوماسي، وبكونه شأناً سيادياً من شؤون القصر، وفي مرحلة لاحقة فوّض أمره لأقرب أبنائه إلى تفكيره، أي فيصل، الذي أمسك بحقيبة الخارجية منذ العام 1930 حتى نهاية عهده مغدوراً في 25 مارس سنة 1975، باستثناء فترة قصيرة إبان الصراع على السلطة بينه وبين أخيه الملك سعود، حيث تولى وزارة الخارجية ابراهيم السويل في الفترة ما بين 22 يناير 1960 ـ 11 ديسمبر 1961. وبصورة عامة، لم يتخل فيصل عن حقيبة الخارجية حتى بعد أن تولى العرش في الثاني من نوفمبر سنة 1964، وبقي متمسّكاً بها حتى نهاية حياته.

ومن منظور تاريخي، كانت الدبلوماسية السعودية بوصفها أداة في السياسة الخارجية تستند على:

أولاً ـ الخبرة الطويلة (الملك فيصل ونجله الأمير سعود من بعده): وقد نجح الثنائي في كسب ثقة العائلة المالكة لناحية إدارة أشد الملفات حساسية في المملكة. وأذعنت غالبية العائلة المالكة بملء إرادتها لكفاءتهما الدبلوماسية، ومنحتهما تفويضاً مفتوحاً في التعامل مع القضايا الاقليمية باطمئنان تام. ولذلك، لم يكن فيصل، على سبيل المثال، يلجأ الى التشاور مع بقية إخوته في تسيير دفة الدبلوماسية السعودية، تعويلاً على الاجماع العائلي حول خبرته وحنكته. وكذلك حال خليفته من بعده، الأمير سعود الفيصل، الذي ورث مهارات والده وخبرته، وبذل كبير جهد مع أناة لفهم تعقيدات السياسة الدولية وتشابكات العمل الدبلوماسي الى أن أصبح رجل الدبلوماسية الأول دون منازع.

 
الملك فيصل كان وزير خارجية منذ تأسيس الوزارة حتى وفاته ملكا ١٩٧٥

وفي كل الأحوال، فإن الدبلوماسية السعودية تبلوّرت في أشد المراحل صعوبة، لا سيما العقود الثلاثة الفارقة: الخمسينيات، الستينيات، السبعينيات.

ثانياً ـ الاجماع العائلي: برغم من مركزية موقع الملك والتفويض المطلق الذي يتمتع به، إلا أن ثمة مرجعية عليا (مجلس العائلة) وأعراف بيروقراطية كانت تملي على الملوك السعوديين مراعاة مبدأ التوافق، فلا يقدر الملك على صنع قرارات تصادم الاجماع العائلي.

في حقيقة الأمر، إن التفرّد الاحتكاري بالقرار السياسي يفضي دائماً الى نشوب خلاف في هرم السلطة ويتنزل تدريجاً الى القواعد، كما حصل في عهد سعود حيث تشابكت أجنحة ثلاثة من أبناء عبد العزيز: جناح مؤلف من طلال وفواز وبدر وعبد المحسن ومعهم آخرون مثل تركي الثاني ومشاري، ومنهم تشكّلت حركة «الأمراء الأحراء»، وجناح يقوده الملك سعود ومعهم أبناؤه وبعض شيوخ القبائل المتحالفة مع آل سعود، وجناح يقوده فيصل ومعه الجناح السديري بقيادة فهد ومعه عبد الله، الملك لاحقاً.

كان صراعاً متعدد الأقطاب، وكان يدور، في جوهره، حول الصلاحيات وليس الإصلاحات. خلاصة الدروس من صراع الأجنحة في عهد سعود أن الاجماع العائلي ليس مجرد فضيلة، بل ضرورة لاستمرار الحكم.

منذ اغتيال فيصل أصبح فهد، بعد توّليه منصب ولي العهد في فترة حكم الملك خالد (1975 ـ1982)، الشخصية الأهم في صوغ السياسة الخارجية السعودية، وكان دوره حاسماً في ملفي العلاقات السعودية الاميركية والنفط.

بطبيعة الحال، لم يكن فهد وحده صانع السياسة، برغم من كونه الملك الفعلي في عهد خالد، فقد كان هناك أمراء آخرون يشاركون في صوغ السياسة الخارجية وهم: عبد الله، رئيس الحرس الوطني، وسلطان وزير الدفاع، ونايف وزير الداخلية. وكان لهؤلاء روابط مع قوى خارجية إقليمية ودولية. فكان عبد الله على علاقة وثيقة مع سوريا، وكان سلطان مسؤولاً عن إدارة ملف شؤون اليمن، فيما كان نايف يحتفظ بعلاقات خاصة مع القوى اليسارية في لبنان وكذلك الإتحاد السوفييتي، وكانت تربطه علاقة قوية مع فرنسا، التي وفّرت الدعم اللوجستي والفني لقوى الأمن الداخلي، وبوجه خاص إبان حركة التمرّد التي قادها جهيمان العتيبي زعيم (الجماعة السلفية المحتسبة) من داخل الحرم المكي في نوفمبر 1979. وكان الكوماندوس الفرنسي القوة الحاسمة في إنهاء التمرد وفك الحصار عن الحرم المكي..

 
سعود الفيصل.. الكفاءة لا تغني عن حُسن القرار!

كانت الدبلوماسية السعودية، خصوصاً بعد مرحلة فيصل، تستند على جهد جمعي، وتقوم على مبدأ تقاسم المهمات. وبرز من الجيل الثاني أمراء لعبوا دوراً حيوياً في مضمار الدبلوماسية السعودية مثل تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة خلفاً لخاله كمال أدهم، وبندر بن سلطان، حتى قبل أن يصبح سفيراً في واشنطن، إلى جانب سعود الفيصل، وزير الخارجية، فكانوا يضطلعون بمسؤوليات في العلاقات الخارجية والأمن الوطني.

الى جانب هؤلاء برزت شخصيات من خارج العائلة المالكة زاولت مهمات بالغة الحساسية في السياسة الخارجية، ولاسيما في ملف النفط مثل أحمد زكي يماني منذ العام ١٩٦٥، ويضاف اليهم ـ بنحو أقلّ وكمنفذين ـ مجموعة من الوزراء مثل هشام ناظر وزير التخطيط ووزير النفط لاحقاً، وغازي القصيبي وزير الصناعة والكهرباء ووزير الصحة، ومحمد أبا الخيل وزير المالية والاقتصاد الوطني، ومحمد عبده يماني وزير الاعلام.

وحتى على مستوى رجال الدين، فقد كان للمفتي الأسبق الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ، تأثير وازن في كبح جماح الدولة السعودية إزاء التوقيع على معاهدات دولية، تنطوي على ما يعتقده مخالفاً لأحكام الشريعة، لا سيما فيما يرتبط بالمرأة، أو البنوك، أو التعليم، بل وعموم مسائل التحديث.

من الطريف، أن السياسة التعليمية الحديثة التي صاغها مفكّرون من الاخوان المسلمين، لم تقر إلا بعد موته في ديسمبر سنة 1969. وبالمثل، لعب خلفه الشيخ عبد العزيز ابن باز دوراً مؤثراً في ملفات خلافية بين السعودية ومصر، وصنّف كتاباً بعنوان (نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع) يحرّم فيه استعانة الرئيس عبد الناصر بالقوات السوفييتية، عطفاً على حرمة استعانة المؤمن بالكافر.

 
زكي يماني.. الإسم الأول عالمياً ولعب دوراً سياسياً أبعد من النفط

وفي كل الأحوال، حرص الملوك السعوديون على التوافق مع العلماء حيال مبادرات سياسية خارجية، بما في ذلك مبادرة السلام، واستقدام قوات أجنبية الى البلاد، وتوظيفهم في الأزمات وحركات التمرد الداخلية. فقد استعان النظام السعودي بفتوى موقعة من 32 من كبار العلماء تجيز استخدام القوة ضد جماعة جهيمان، واستعان فريق فيصل والسديريين بهم في الصراع على السلطة بين فيصل وسعود، وحتى في السلام مع الكيان الاسرائيلي (للشيخ ابن باز فتوى في جواز الصلح مع اليهود إن رأت الدولة «أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء وغير ذلك من المعاملات...الخ).

ثالثاً ـ مراعاة مشاعر الجمهور المحلي والعربي/ الإسلامي: خصوصاً إزاء القضايا العربية والاسلامية. فبرغم من أن عملية صنع القرار ذات طابع سري وتقتصر على عدد محدود من أمراء العائلة المالكة، الا أن مراعاة ردود الفعل الشعبية يدخل في خضم الحسابات المرعية في صنع القرارات.

وبصورة إجمالية، كانت القيادة السعودية تصدر في الفلسفة الدبلوماسية التي تعتنقها عن رؤية تفيد بأن مصالحها ضمن الاطار العربي، مكفولة من خلال التضامن مع القضية الفلسطينية. ولذلك، سعت نحو خلق إجماع عربي حول حل نهائي للصراع العربي الاسرائيلي من خلال مبادرة فهد 1981 ومبادرة عبد الله 2002، وكان الهدف الجوهري منهما أن السعودية لا تريد السير في طريق السلام وحيدة كما فعل السادات، وأن الحل الآمن يكمن في حشد أكبر عدد من الدول العربية للسير بالسلام بصورة جماعية.

 
الإفتاء: أداة وتأثير في السياسة الخارجية

في ضوء المحدّدات الإرشادية آنفة الذكر، كان صنّاع القرار السياسي السعودي على دراية تامة بنقاط الضعف والقوة في المملكة. فكانت سرية القرار، والغموض الذي يحيط به، ومواربته، والهدوء الذي يسم الدبلوماسية السعودية، كفيلة بتحقيق نتائج أفضل من الدبلوماسية المباشرة والمباغتة والإستفزازية. في حقيقة الأمر، كانت «الواقعية» خاصية أصيلة في الدبلوماسية السعودية، وكان الرهان على «الزمن» محورياً في إنتاج الحل الأمثل لكثير من المشاكل.

لتقريب الصورة، فقد بدأ ربيع الدبلوماسية السعودية بعد حرب 1967، والوقائع المتسلسلة اللاحقة، وما آلت اليه من انحسارات سياسية وإيديولوجية، ثم رحيل الرئيس عبد الناصر 1970 ووصول شخصية حليفة للسعودية، أي أنور السادات، وتالياً انسحاب القوات السوفييتية من مصر سنة 1971، وحرب 1973 ومتوالياتها، وأوّلياتها الطفرة النفطية وإطلاق برنامج التحديث في الداخل و»الحقبة السعودية» في الخارج.

كانت السياسة السعودية تلوذ بالتناقض بين المعلن والمستور، وقد تتبنى موقفاً معتدلاً في العلن وتمارس عكسه في السر، والعكس صحيح. وكان صنّاع القرار السعوديون في حال انغماسهم في عملية صنع القرار واقعيون الى أبعد حدود، وإن أفصحوا عن تطلعات بعيدة وخارج الممكن، فيما يظهر الآن أن صانع القرار يبالغ في القوة، ويتحدث علناً عن طموحات غير واقعية.

فقد ألقت السعودية عن كاهلها أثقالاً من الهواجس التي تراكمت خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، بسبب كثافة حضور الحركة الناصرية وكوكبة التنظيمات القومية واليسارية التي كانت تسبح في فلكها، والتي مثّلت مصدر تهديد وجودي للنظام السعودي، والأنظمة الملكية بوجه عام. لم تكن جملة التغييرات تلك صناعة سعودية، ولكنها الخاتمة الموضوعية لحركة فكرية وسياسية في المنطقة.

ومن وحي التجربة الدبلوماسية السعودية، كان اتخاذ القرار يتّسم بالبطء، ويكون أقرب الى رد الفعل منه الى الفعل، والمداورة وليس المباشرة. هو إسلوب ينسجم مع التقييم الاجمالي لدى صانع القرار لعناصر قوته وضعفه، ولكنه يحقّق نتيجة إيجابية. فهو يضفي على الدبلوماسية وقاراً وهيبة، ويصيب الآخر بحيرة ما يجعله يبالغ في قوة الطرف السعودي ودوره، كما يحرمه من القدرة على التنبؤ.

كان التردد والحذر قد تسبب في انقطاعات في السياسة الخارجية السعودية، وكان الزمن كفيلاً بحلها. وحين اعتمدت القيادة السعودية سياسة المباشرة والحزم، لم توفر شروطها، بل بقيت عوامل الضعف البنيوية وهذا ما يظهر في النتائج: الحرب في اليمن، والأزمة مع قطر، وفي ملفات المنطقة عموماً ايران، وفلسطين، والعلاقات الإقليمية وغيرها.

إن
 
عبدالناصر.. رحيله بداية الحقبة السعودية!
التهديد باستخدام العضلات المالية والعسكرية، لم يكن مبنياً على عناصر قوة حقيقية، وهذا ما عجل بانكشاف أسرار ضعفها، بعد أن كانت في السابق تتعامل بحذر، وتدرك حقيقة ضعفها، فيما كانت النتائج تأتي ليست بالضرورة عكسية.

في الشدائد السياسية تكشف الدبلوماسية السعودية أسرارها، حيث تتقلص مساحة المناورة، وتتناقص خيارات صانع القرار الدبلوماسي، وتصبح الاستعانة بالخارج أمراً حتمياً.

في الأزمات المنذرة بالحروب، يصاب صانع القرار السعودي بالفزع، إذ يشعر بأنه غير قادر على تحمّل النتائج منفرداً، فالأزمة تتسبب في رد فعل يكشف عن هشاشة البنية. فقد لجأت القيادة السعودية الى الولايات المتحدة في كل الصدامات العسكرية في المنطقة بدءاً من حرب اليمن 1962، ثم الصدام الحدودي بين اليمنين الجنوبي والشمالي بداية العام 1979، وخلال حرب الثماني سنوات بين العراق وايران (1980 ـ 1988)، وفي الغزو العراقي للكويت يوم الإثنين الثاني من أغسطس 1990، حين التزم الملك فهد الصمت حتى يوم الخميس، أي مع وصول طلائع القوات الاميركية الى الشواطىء السعودية، وأخيراً في الحرب على اليمن في 26 مارس 2015 والتي أعلن عن بدء عملياتها من واشنطن.

في حقيقة الأمر، أن العامل الأميركي كان قدرياً في تحصين الدولة السعودية من الاختراقات الداخلية والخارجية، عبر بعثة التدريب العسكري الأميركية (USMTM) وعبر المستشارين والخبراء الاقتصاديين والسياسيين الذين بلغ عددهم في مطلع الثمانينات قرابة 40 ألف أميركي، منبثين في كل مفاصل النظام، ويديرون دفّته، ويشرفون على أمنه، تحقيقاً للمبدأ المتكرر على ألسنة الرؤوساء الأميركيين من روزفلت الى ترامب: (أمن المملكة من أمن الولايات المتحدة).

وإذا كانت مرحلة الستينيات بكامل حمولتها الإيديولوجية والسياسية، قد فرضت نفسها على جيل القيادات السعودية، ولا سيما فريق السياسة الخارجية في مرحلة السبعينيات، وكان عليها أن تحصد أرباح أفول الحركة الناصرية ومتوالياتها.. فإن مرحلة الثمانينات فرضت نفسها على جيل من القادة السعوديين الذين عاشوا ذروة التجابه الدولي بين قطبي الحرب الباردة، والثورة الايرانية في 1979 ـ والتي أصبحت ركناً أولاً وأساساً في سياسة السعودية منذ مطلع الثمانينات، والحرب العراقية الايرانية، ولاحقاً نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي 1989، والغزو العراقي للكويت 1991، وبروز تيار الصحوة في الداخل واشتقاقاته اللاحقة والتي أرست معالم مواجهة مستقبلية مفتوحة.

 
سلمان: استخدم عضلات ضامرة في سياساته الخارجية

مهما يكن، فإن الدبلوماسية السعودية الحاضرة بكثافة في كل الوقائع الفارقة في المنطقة والعالم إبان الحرب الباردة.. كانت بحق دبلوماسية مربحة، وهذا ربما ما أغاض شخص مثل دونالد ترمب حين يتحدّث عن الكلفة العالية التي دفعتها الولايات المتحدة لحماية حلفائها في المنطقة، ولم تجن سوى القليل من ثمارها. للجانب السعودي بطبيعة الحال رأي آخر، وبحسب الأمير بندر بن سلطان، السمسار البارع في العلاقات بين الرياض وواشنطن ـ للكاتب إدوارد ابستين: «لو علمتَ ما كنّا نعمل حقًّا من أجل أميركا، فلن تمنحنا الأواكس فقط، بل سوف تعطينا أسلحة نووية» (ادوارد ابستين 1987).

مرحلة ما بعد الربيع العربي رسمت خطاً فاصلاً بين ما قبلها وما بعدها، إذ فرضت تداعياتها المباشرة على الجيل الدبلوماسي الحالي، انعكست في استراتيجيات تدخّل متفاوتة: العسكري المباشر في البحرين (فبراير 2011)، وتالياً اليمن (مارس2015)، وتمويل الجماعات المسلّحة في سوريا (ابتداءً من إبريل 2011) وليبيا (مارس 2011)، ودعم الانقلاب العسكري في مصر (يونيو 2013)، والدخول في حرب مفتوحة مع جماعة الاخوان المسلمين في المنطقة والعالم انطلاقاً من الإمارات في تشرين الأول 2012، وإعادة إحياء التحالف السعودي الاميركي على أسس جديدة توّجت بـ «صفقة القرن» بين الرئيس الاميركي دونالد ترمب وولي العهد محمد بن سلمان بعد زيارة الأخيرة لواشنطن في 17 مارس 2017، جرى فيها التداول بخصوص عروض سخيّة بمئات المليارات الدولارات مقابل توفير الحماية للعرش السعودي، ومباركة تحوّل الإنقلابي في عهد سلمان، تمهيداً لوصول نجله الآمن الى سدّة الحكم.

يبقى أن الدبلوماسية السعودية المدفوعة بهواجس ضعف الكيان، وتعقيدات الواقع السياسي الاقليمي والدولي، وتآمر الأقربين والأبعدين، كفّت عن مواربتها، وهدوئها، وغموضها، وقرّرت أن تكون مباشرة، اقتحامية، و»حازمة».

 
ترامب وابن سلمان: تحالف حماية وإيصال للعرش وثمنه صفقة قرن

ضمن الدائرتين الخليجية والعربية، كانت النظرة الى السعودية محفوفة على الدوام بالحذر والعداء الضمني. ويخالج حكّام الخليج الشك في نوايا السعودية المضمرة، فهم يستحضرون تاريخاً من الأطماع والتدخّلات الفظّة. في العهود السابقة، وبرغم الهواجس التي تنتاب حكام الخليج (دول مجلس التعاون الخليجي) إزاء ما توفّره الاتفاقية الامنية الخليجية (الأولى في تشرين الثاني 1994 والثانية في كانون الأول 2013) من ذرائع للشقيقة الكبرى للتدخل في الشؤون الداخلية لبقية أقطار مجلس التعاون الأخرى، فإن صانع القرار السعودي حرص على «الطمأنة» في حدها الأدنى لدول مجلس التعاون وعلى إبقاء الجمهور الخليجي خارج دائرة النزاع.

بين دبلوماسية الأمس واليوم فارق فلكي. إن المبادرات التي قام بها محمد بن سلمان، بوصفه مهندس الدبلوماسية السعودية حالياً، بدءاً من الحرب على اليمن في 2015، وأزمة السفير ثامر السبهان في العراق في آب 2016، وسلسلة وقائع 2017: الأزمة الخليجية مع قطر في حزيران، و»أزمة الحريري» في نوفمبر الماضي، وملف «مجزرة الأمراء» بتداعياته الدولية في الشهر نفسه، وقضية القدس في ديسمبر الماضي بسلسلة الحوادث المصاحبة لها (قمة منظمة التعاون الاسلامي في استانبول في 13 ديسمبر، وغياب الملك سلمان ونجله، واستدعاء محمود عباس في 6 نوفمبر وإبلاغه رسالة شديدة اللهجة بـ «قبول أي عرض يطرحه ترامب أو يستقيل» بحسب صحيفة التايمز في 14 نوفمبر، وتالياً اعتقال الملياردير الأردني الفلسطيني صبيح المصري فور وصوله الرياض في 13 ديسمبر الماضي للضغط على عباس وعبد الله الثاني بعدم المشاركة في قمة استانبول..الخ)، توصل الى خلاصة: ان الدبلوماسية السعودية تعمل بلا أرشيف.

إن كثافة الوقائع المتقاربة زمنياً تختزل العقل الدبلوماسي الذي يدير الملفات الاقليمية والدولية على طريقة «الهوليغانز». باختصار، إن الفريق الدبلوماسي بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان يفتقر للكفاءة بالمعنى العلمي، والخبرة، والمواكبة المستندة إلى الموروث الدبلوماسي الغزير.

الصفحة السابقة