الدولة النرجسية

ولّدت الدولة في الحركة ـ الصفوة المندغمة في مشروعها الديني والسياسي إحساساً بالتميّز عما حولها، لا لكون أفرادها أشدّ إيماناً وأنقى طويّة، وأحدّ ذكاءً فحسب، بل لكونهم كحركة تطهيرية تمثل مصدر الاشياء ومنتهاها.. فهذه الحركة ترى بأن الخير كله فيها ولها وأن الشر كله في سواها، فإذا جرى الخير فإنما على يد أفراد هذه الصفوة يجري ويعم، وإذا نزل البلاء فإنما ينزل ويعمّ لانصراف غيره عن إرشادها وسبل هديها.

إن هذا الاحساس المتعاظم، والمفتعل في أحيان كثيرة، أحال العالم الى شطرين: شطر يمثل البقعة الطاهرة التي يجب أن ينأى أهلها عما يعكّر صفو العيش فيها، أو يجلبوا اليها مصادر الكدر والشقاء من خارجها، لأنها بقعة تقطنها صفوة الخلق وخلاصة أهل الأرض وخاصة الخلق، التي يجب أن تكون مصانة من كل سوء ومكروه كيما تظل ثقل الله في الأرض والضامن لأهلها من العذاب والغرق، وهناك شطر آخر ممتد ومفتوح على العالم بأسره، وهو يمثل مسرح عمليات ضخم لهذه الحركة ـ الصفوة التي يعتمل بداخل أفرادها نزوع شديد الشراسة ويقوم على الاعتقاد بأن العالم كله مباح الدم والأرض، وبالتالي فإن للحركة ـ الصفوة مطلق الحق في تشييد مشروعاتها الدعوية والجهادية في كل أجزاء هذا الشطر المتسع، تحت شعار هداية العباد من الضلال.

إن هذا الانشطار الجغرافي للعالم قد تأسس ابتداءً على إنشطار ايديولوجي أيضاً، وقد حظي بعد ذلك بمباركة دينية وسياسية مشتركة.. بل نكاد نزعم بأن النخبة السياسية في بلادنا ساهمت بصورة متعمدّة ولأغراض خاصة في زرع وتعزيز فكرة الانشطار الايديولوجي داخل أفراد الحركة ـ الصفوة التي نشأت في الاصل بوحي والهام الخطاب الديني الذي كان يوقد فتيل الغارات. فمن ايحاءات هذا الخطاب، تشّرُب أفراد الحركة ـ الصفوة البلاغ المبين والذي يقضي بأن مشروع الدعوة في الداخل قد أكمل بنيانه وأن ما فاض منه قابل للاستعمال في مشاريع دعوية أخرى في الخارج، أي في المساحة الممتدة من العالم.. وفي غضون عقدين من الزمان تمددت المشاريع الدعوية بمستوى أفقي بحيث شملت القارات الست، ولاتكاد تخلو بقعة في هذا الكوكب من راية للدعوة، وكوكبة من المجاهدين الذين تحوّلوا بقدرة قادر الى رموز كاريزميين في بلدان لا يكاد يتقنون أسماء مدنها، بل وباتوا جزءا من الرأسمال الرمزي والتاريخي والثقافي لهذه البلدان.

ولأن العالم كله، باستثناء البقعة الطاهرة التي تناسل منها أفراد الحركة ـ الصفوة، يمثل فضاءً مباحاً ومفتوحاً لمشروع الدعوة، فإنه يمثل محطة افراغ لشحنات التوتر الداخلية، واملاءات الدعوة، أو حتى الطموحات الكاريزمية، ففي الخارج متسع لكل ذلك، طالما أن ذلك فيه سلامة للداخل.. بل سيجد هؤلاء من يدفع لهم المال، ويحشد لهم الرجال، ويطلق لهم العناق دعاءً ودعاية من أجل نقل هؤلاء المشحونين الى الخارج كيما يحققوا ذواتهم ولو بالتضحية بدمهم ودم غيرهم ولكن في غير الارض.

فهناك مكبّ نفايات في الخارج لكل من لديه فائض انفعالي ورغبة في تمريس نزعته الدعوية، لأن الداخل يعتبر خطاً أحمر لا يجوز اختراقه.. فهذا الداخل ينظر اليه باعتباره وسطاً طاهراً يقطنه مجتمع الحواريين والملائكة وأن الخارج هو مأوى الكفار وأهل الضلال، ولا عجب حين يتباكى رموز الحركة ـ الصفوة المتأخرين بعد سقوط ضحايا التفجيرات في الداخل وانهدام البيوت وتلف المصالح العامة، فقد كان ذلك كله من نصيب شعوب الخارج، التي ظلت تتلقى هدايا بعض الدعوة والدعاة على هيئة قنابل، ودماء، وجثث، وكأن هذه الشعوب لا تستحق الحياة الكريمة والآمنة، أو كأنها وحدها التي قدّر عليها البلاء بأيدي دعاة الحركة ـ الصفوة، أو كأن الدعوة صارت شقيقة الدم!

ولذلك يظل السؤال قائماً: لماذا تصدّر حكومتنا مشاغبيها الى العالم، شرقاً وغرباً، فكلما أرادت الخلاص من مشكلة صدّرتها الى الخارج القريب والبعيد، حتى انبث مجاهدوها في أرجاء المعمورة يحققون الانتصارات، وكاريزما الشهادة، ولكن على جثث الموتى الذين يتحولون الى جسر بشري تعبر عليه مشاريع الجهاد المنطلق من نجد.

إن ما يقال عن تواطىء بين وزير الداخلية وإبنه من جهة وكتائب الجهاد في الداخل حول تسهيلات العبور الى بعض الساحات الخارجية والعراق بصورة بارزة لم يكن ضرباً من التكهن، فالتقارير الامنية الصادرة مؤخراً عن جهات عراقية وغربية تثبت بأن المقاتلين السعوديين الذين شاركوا في عمليات داخل العراق قد حظوا بتشجيع جهات أمنية، وهناك من يموّل أنشطة هذه المقاتلين.. إن التفسير الذي بات يحظى بقبول لدى كثير من المراقبين هو أن السعودية تصدّر المجاهدين للخارج في محاولة لامتصاص مصادر التوتر في الداخل.. هل لأن كل من يريد اقتراف حماقات بإسم الدعوة، ومزاولة طقس الجهاد الدموي في الخارج يجد فيه متسعاً ويحتمل اهراق الدم، وكأن الدماء تلك ليست دماء مسلمين، أو أن أهل العراق وافغانستان وباكستان والشيشان ليسوا من مجتمع المسلمين بحيث يصبح سقوط الضحايا في أوساطهم مقبولاً أو أن تحال مدنهم وقراهم الى ساحات حرب يقاتلون عليها، رغماً عن أنوفهم ودونما تفويض منهم، رغم أن حروب هؤلاء المجاهدين قد حصدت من أرواح المدنيين الآلاف، وهجّرت أمنهم سكان قرى بأكلمها، ودمّرت البيوت والحقول والمصالح العامة..

فلماذا يصبح الآخر وإن كان مسلماً مسترخصاً الى حد تحويله الى ضحية محتملة دائماً وهو هدف لمشروع جهادي ينطلق من الداخل، وهو غنيمة سهلة يجوز إستعماله درعاً ومتراساً في حروب خارجية.. أليس في ذلك اعتقاد راسخ ولكن غير مفصح عنه بأن الآخر حتى المسلم فضلاً عن الانسان بصورة عامة بات مهتوك الكرامة والحرمة الى حد عدم الاكتراث بحياته وسعادته وألمه.

الصفحة السابقة