أسطورتان في بلادي: الدفاع والأمن

لم يحصد قطاع في الدولة من الثروة الوطنية والموارد العامة كما حصد قطاعا الدفاع والأمن، ولم يتكبد المواطن من الخسائر الفادحة كما تكبد في الدفاع والأمن.. فقد تولت عليهما شخصيتان بلغت بهما الشراهة حد التقيوء، فلم تكفيهما المخصصات الفلكية من الميزانية العامة للدولة، بل إنداحت شراهتهما الشرسة الى مافي أيدي العباد في هذه الديار، فنصّبا أعيناً وجنّدا رصداً لمراقبة ما في ايدي الناس وصولاً الى مصادرة الاراضي والعقار بل وانتزاع الملكيات من أصحابها..

فقد ضرب الامير سلطان وزير الدفاع مثالاً فريداً في رفع الاعباء عن مواطنيه بمصادرة أملاكهم وتخليصهم مما أفاء عليهم خالقهم ورازقهم، حتى أن عينه كانت تجوب الآفاق بحثاً عن أرض يسوّرها أو عقار يضع القفل عليه، أو حقل يضمّه، أو زرع يشمُّه، وقد ملأ صيته السماء وطار في الآفاق، ولم يبق صغير ولا كبير الا تحدث عن مغامراته في البر والبحر لانتزاع ما في أيدي الناس.. وفي المقابل، لم نسمع عن إنجازات دفاعية، فهذه الامبراطورية العسكرية التي أنفق عليها مئات المليارات من الدولارات لم تدفع الشرّ عن الارض حين اقتربت دبابات نظام صدام حسين البائد من حدودنا الشمالية، ولم نسمع أن حقق الاطمئنان لمواطنيه إزاء أي تهديد عسكري خارجي، وكأنما المشتريات المليارية من السلاح كانت تتم لأغراض غير عسكرية، أو لأغراض عسكرية ولكن ليست خاصة ببلادنا.. وبإمكان المرء تصوّر حجم المخصصات المالية التي تذهب لوزارة الدفاع سنوياً والتي تربو فوق 40 بالمئة. فقد بلغت مشتريات السعودية من السلاح الاميركي حتى عام 1991 أكثر من 150 مليار دولار، مع أن حكومة بلادنا لم تدخل في حرب عسكرية مباشرة أو تواجه تهديداً جديّاً من قبل أي من دول الجوار بما في ذلك اسرائيل، منذ توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة..

ومما لم ينشر حتى الآن عن بنود الاتفاقية الدفاعية بين البلدين أن السعودية مكلّفة ـ بموجب الاتفاقية ـ بعقد صفقات سلاح مع الشركات الأميركية من أجل تزويد القوات السعودية وهكذا الاميركية المرابطة في القواعد العسكرية داخل المملكة.. ومن الجدير بالذكر أن هذا البند يمثل حجر الزاوية في الاتفاقية الدفاعية، إذ يعتمد عليه تماسك الاتفاقية.

مصادر خبرية ذكرت مؤخراً بأن الولايات المتحدة مازالت في ريب من قدرة السعودية على دفع تكاليف مشروع تسلّح مكوّن من طائرات عسكرية. وبالرغم من زيادة المداخيل من النفط في عام 2003 فإن السعودية حسب هذه المصادر قد لا تملك التمويل الكافي أو الارادة السياسية للمضي في صفقة عسكرية بملايين الدولايات لشراء طائرات مقاتلة جديدة. ويقال بأن وزارة الدفاع الاميركية حذَّرت بأن الرياض قد تلغي أية صفقة طائرات عسكرية وسترفض دفع التكاليف للمزوّدين الاميركيين.

ومن الغريب أن هذه التحذيرات جاءت وسط مشاورات حول تعاون دفاعي مخطط بين الرياض وواشنطن بهدف تمهيد الطريق لصفقة سلاح جديدة ببلايين الدولارت بين البلدين، وكانت السعودية قد طلبت قبل عدة شهور من الولايات المتحدة تحديث جهاز الحرس الوطني وهو مشروع تبلغ كلفته أكثر من 900 مليون دولار.

ما لم تذكره هذه المصادر، أن الأمن ممثلاً في وزارة الداخلية يحتل منذ بدء التفجيرات وأحداث العنف في أجزاء متفرقة من المملكة موقع الصدارة في القطاعات الأكثر إستهلاكاً لموارد الدولة المالية عموما.. وقد ذكرنا على صفحات المجلة قبل عددين بأن وزارة الداخلية تستقطب جزءاً كبيراً من أموال الدولة بحجة محاربة الارهاب في الداخل، وقد خصصت لهذه المهمة مبالغ طائلة وضعت تحت تصرّف وزير الداخلية من أجل تصفية جماعات العنف.. وقد ذكرت الزميلة (شؤون سعودية) خبراً في عددها السادس عشر ما يؤكد ما ذهبنا اليه سابقاً في مجلتنا، مفاده أن 32 مليار ريال من أصل 42 مليار اجمالي الدخل الاضافي من ارتفاع أسعار البترول للعام الماضي كانت من نصيب وزارة الداخلية، تسلّم منها الامير نايف 8 مليارات يصرفها حيث يشاء على جهازه الأمني.

تجدر الاشارة الى أن الامير نايف كان قد تحدث أمام جمع من دعاة الاصلاح الذين اجتمع بهم في منزل سكرتيره بالرياض عقب اعتقال عدد من الشخصيات الاصلاحية، وأكّد على التوجه الجديد لدى الدولة في محاربة الفساد المالي ومراقبة سير المال العام، مع أن بعض من إجتمع بهم يدرك تماما أن لحاشية الأمير وفريقه الخاص بطولات في مصادرة الاراضي ووضع اليد على المال الخاص قبل العام..

وما يقال عن الدفاع يقال عن الأمن في كون الاخير لم ينشأ الا لحماية السلطة أولاً وقبل كل شيء، بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك للقول بأن الأمن في بلادنا يمثل الخصم التكعيبي للمجتمع في مسيرته نحو الاصلاح والتغيير.. ومع ذلك فإن الاجهزة الأمنية لم تثبت حتى الآن رغم النفقات الفلكية قدرة متميزة في مواجهة الاخطار الداخلية، وتحديداً العنف والجريمة المنظّمة وحتى الفردية.. فقد خرجت عن سيطرة هذه الاجهزة مناطق بكاملها في الشمال والجنوب الغربي، حتى انتشر السلاح بصورة مخيفة وبات السكان يخشون الخروج من منازلهم ليلاً، فضلاً عن الاداء المتواضع لهذه الاجهزة في القضاء على أفراد الجماعات العنفية، وسقوط ضحايا من أفراد هذه الاجهزة بأعداد كبيرة نسبياً.. وكلما زعم كبار الامراء بأن الحرب على الارهاب شارفت على النهاية، أثبتت الجماعات المسلّحة بأنها مازالت قادرة على تجديد المواجهات.. إنها حقاً أسطورتان في بلادي: الدفاع والأمن.

الصفحة السابقة