السعودية وخيار الضرورة

في محاضرة ألقاها الباحث المصري الدكتور طارق حجي بعنوان (السعودية والخيار الحتمي) في الثامن والعشرين من يوليو الماضي نشرها موقع (رياح التغيير) على شبكة الانترنت وتضمّنت عرضاً تاريخياً للحركة الوهابية زائداً ضوءا على دور البيئة الصحراوية النجدية في تنشئة ميول متشددة بالمقارنة مع دول حضرية ذات جذور ثقافية وحضارية عريقة لم تفلح الافكار الجامدة والغارقة في ماضويتها في اختراقها. كما حاول الباحث ان يدحض الفكرة الشائعة في الغرب والمؤسسة على اعتبار العرب كتلة صمّاء موحدة في نظراتها وأفكارها وميولها وعاداتها الاجتماعية واخيراً في نظرتها للغرب ولمنتجات الحضارة الحديثة. وفيما يلي عرض إجمالي للمحاضرة مع توضيحات طفيفة تقتضيها الترجمة:

ثمة قناعة صلبة وراسخة في الدوائر الاكاديمية الغربية وبخاصة الاميركية تفيد بأن كراهية الغرب هي نتاج تدخل القوى الغربية في حياة الشعوب العربية، والتي بدأت منذ استعمار الجزائر عام 1830، ومصر عام 1882 والمغرب عام 1912 وهكذا.

جيش الوهابية الإخواني القديم

وبالرغم من أن هذه القناعة لا يمكن القبول بها بصورة إجمالية وبهذه البساطة، خصوصاً وأن هذه القناعة تقوم على فرضية أن الشعوب العربية تمثل كتلة اجتماعية وايديولوجية وفكرية وسياسية موحدة، والحال أن هناك مناطق عربية لم تخضع للاستعمار المباشر، اضافة الى أن هناك جوانب في المعادلة الجامعة بين الاطراف المفترضة: الشعوب العربية، الغرب والاستعمار قد تلتقي في نقاط وتفترق في أخرى، وبالتالي فإن ما يعتقد بأنه إجماع شعبي عربي تام حيال الغرب يبدو تعسفياً لغياب الآلية العلمية والدقيقة القادرة على رصد اتجاه الرأي العام العربي حيال قضية جدلية واشكالية كالموقف من الغرب، فضلاً عن أي جانب من الغرب يدور الحديث عنه، أهو الغرب الاستعماري، أم هو الغرب التكنولوجي، أم هو الغرب الاجتماعي والاخلاقي وهكذا، فنحن إذن أمام قضية ذات جوانب وأبعاد متعددة. فكراهية شعوب المنطقة للاستعمار هي ظاهرة مشروعة وصحية في حد ذاتها، ولا تعني بالضرورة كراهية الغرب بصورة اجمالية او التقدم الغربي، وإنما كراهية جانب من الغرب وهو الاستعمار.

ولذلك نجد أن بلداناً ذات ميراث حضاري وتاريخي ثري مثل مصر وسوريا الكبرى والعراق كانت قادرة على الجمع بين مقت الاستعمار والاعجاب الخالص بالتقدم، ولذلك فهي تبدي تفهّماً صادقاً للتقدم باعتباره خاصية منفصلة عن مشروع التغريب. إن البديل عن ذلك هو إبداء الاعجاب دونما تمييز بين الاستعمار والتقدم، والذي يمثل ظاهرة إذلالية وازدرائية قد تؤول الى موت أشياء كثيرة تشمل العزة والكرامة.

وعلى أية حال، فإن من الخطأ الافتراض بأن كل دول المنطقة هي سواء في مواقفها والعقلية التي تحملها والنهج الذي تسير عليه. ولذلك يبدو صحيحاً القول بأن الدول العربية مثل المغرب وتونس وليبيا والى حد أقل المناطق الساحلية للجزيرة العربية التي جعلها الوضع الجيوبوليتيكي أكثر انفتاحاً على العالم الخارجي من تلك المناطق الخاضعة للنمط البدوي في الداخل. إن الاوضاع الجيوبوليتيكية الصارمة للنمط المعيشي البدوي وحدها التي تمنح العقلية القبلية الجامدة والصارمة وغير المتسامحة فرصة النمو والازدهار وترفض تكوينياً (الآخر) مهما كان هذا الآخر.

إن تاريخ الكراهية لدى هذه المجتمعات الصحراوية ضد أي شخص يختلف معهم في الدين أو الفكر بات معروفاً. وأن هذه العداوة، على النقيض مع ما يعتقد البعض، ليست نتيجة للشكل الحنبلي للاسلام (أي تفسير ابن تيمية) الذي تعتنقه هذه المجتمعات، فهذه المدرسة الصارمة والجامدة كانت مرفوضة بشدة من قبل العالم الاسلامي ولم تلق قبولاً سوى في هذه المنطقة المعزولة. في واقع الأمر، فإن أفكار وتعاليم وأحكام ابن تيمية (بكل ما فيها من صرامة وتعصب وكراهية لغير المسلمين) لم تجد لها مناصرين لأكثر من ألف من عام في مصر، سوريا وفي المغرب العربي، حيث من غير الممكن أن يقبل المتحدّرون من حضارات عريقة اعتزال بقية البشر.

لقد أرسى محمد بن عبد الوهاب الخطوط العريضة لدعوته (ولم تكن مدرسة في الفقه، فالرجل كان ببساطة مبشّراً وليس تيولوجياً) عام 1798، وهي السنة التي شهدت أول مواجهة مع الغرب في العصور الحديثة، أي حملة نابليون على مصر.

إن السنين الأولى لولادة الدولة السعودية (والتي قضى عليها إبراهيم باشا في 1818) والدولة السعودية الثانية (التي انتهت في 1891) كانت واضحة من حيث الرفض العنيد للحداثة وهكذا كافة متعلقات الحضارة الحديثة، مشفوعة بالكراهية لغير المسلمين وفي حقيقة الأمر كل المسلمين غير المتبّعين لنفس المعتقدات. فالمسلم المصري أو السوري الذي لا يرى ضيراً في الغناء، على سبيل المثال، يعتبر في أزمنة الدولة السعودية الاولى والثانية، ليس أفضل من الكافر. وحين حارب الأخوان الملك عبد العزيز عقب السماح لبعض منتجات الحضارة الحديثة مثل الراديو والسيارة بالدخول الى المملكة، وهكذا السماح للاجانب بالقدوم الى الجزيرة العربية (مع التذكير بأن هذه العملية تتم في القرن العشرين)، كان هؤلاء يجهرون بمتبنياتهم العقدية القديمة ونظام التعاليم الدينية الذي يتمسكون به، والذي ليس له مكان في الأزمنة الحديثة، والذي لا يمكن له البقاء في أي مكان سوى في بيئة من هذا النوع التي فرضت خصائصها الجغرافية عزلتها.

الدين بنسخته الوهابية مشكلة للدولة

إن أفكار المدرسة الوهابية هي تركيبة فكرية تقليدية ناتجة عن بنية تحتية محددة (أي الخصائص الجيوبوليتيكية والاقتصادية لصحراء نجد)، وأن المناصرين لهذه المدرسة لا يمكنهم إدراك بأن ليس هناك مكان آخر على الارض سيتعايش مع معتقدات كهذه. إن هؤلاء يعيشون وهم ثبوت حقيقة الاستنتاج الذي توصل اليه ماركس، والمشتق من نظريات كل من فيورباخ وهيغل بأن هناك رابطة ثابتة ومؤكدة بين أفكار ومعتقدات مجتمع ما والبنية التحتية (الجغرافية والاقتصادية) التي يعيشونها.

من منظورات عديدة وحتى اللحظة فإن التعليم الديني السعودي يقضي بأن شراء الورد وتقديمها للمريض يعتبر حراماً لأنها عادة جاءت الينا من البلدان الكافرة. وهذا مثال واحد قد يبدو للبعض بأنه ضئيل الاهمية او قضية هامشية ولكن حقيقة الأمر غير ذلك، لأنها تكشف عن العقلية التي ترفض بصورة عمياء أي شيء يأتي من خارج القيود الضيّقة الخاصة بها. وتكشف أيضاً عن التناقضات المضحكة المتأصلة في هذا النمط من الفكر: تقديم الورد يعتبر إثماً لأنه (ليس من تقاليدنا الاسلامية عبر القرون)! كما لو أن السفر بالطائرة او السيارة او استعمال الكمبيوتر، وفي الحقيقة استعمال الاسلحة الحديثة المعقّدة التي يستعملها هؤلاء الناس ضد ما يطلقون عليهم بالاعداء هي جزء من (النهج الاسلامي عبر القرون)!.

يشعر أي مسلم (خارج عالم ابن تيمية الضيق) بالازدراء والغضب حيال العقلية التي يمكنها أن تضخ مثل هذا النوع من الفتاوى (الفتوى رقم 21409 المؤرخة 29/3/1492هـ), أو مصطلحات متصالحة مثل (إن هذه عادة جاءت الينا من البلدان الكافرة وأخذها ضعاف الايمان الذين سقطوا تحت تأثيرهم..).

إنها الذهنية التي تحارب الورد، كرمز للجمال، والخير، والصداقة، والبراءة والحب في كافة الثقافات. فالورد، يرمز في العديد من اللغات الى طائفة من المعاني الجميلة والعلو، ولكنها وحدها العقلية الضيقة لدى تلك القبائل البدوية هي التي تأمل في تحويلنا الى حضارة أعداء الورد.

واذا كان هؤلاء الناس ينظرون الى غير المسلمين بهذه الطريقة، فليس من المستغرب اذن أن نجد من وقت لآخر أن هؤلاء يدفعون أشخاصاً يفتحون النار بلا تمييز على رموز الحضارة الحديثة والاجانب (الكفار) الذين يدّنسون حسب زعمهم تراب الجزيرة العربية (بإستعمال أسلحة مصنّعة من قبل ما يطلق عليهم بالكفار).

الحاصل النهائي من ذلك هو إن كراهية الاستعمار تعتبر ظاهرة اعتيادية، صحية، وايجابية، وإن أي بديل عنها سيكون مخزياً ومذّلاً. ومهما يكن من أمر، فإن هذه البلدان في المنطقة الآمنة في طول تاريخ الحضارة ليس لديها نفور من التحديث والتقدم وبالتأكيد لا تحمل كراهية للاجانب، إنها ببساطة لا تريد أن يكون التقدم متساوقاً وموازياً للتغريب، وهذا يعتبر موقفاً ايجابياً وهو يشير الى الكرامة والحكمة معاً.

على أية حال، إنها حقيقة بأن أتباع مذهب ما يمقتون بشكل ظاهر أي شيء خارج العالم الضيق الخاص بهم. لقد أرسل محمد علي (مؤسس مصر الحديثة) جيشاً بقيادة إبنه الى الجزيرة العربية لمحاربة أولئك المتعصّبين، وفي عام 1818 تم احضار قائد هؤلاء المتعصبين الى مصر، وتمت محكامته واعدامه. وفي 1920 شهر مؤسس السلالة السعودية الثالثة السلاح ضد هؤلاء كنتيجة لاستحواذ فكرة محاربة كل رمز للحياة العصرية الحديثة.

ما يحتاجه السعوديون المتنوّرون والحديثون اليوم هو إدراك أن مشكلتهم تكمن بصورة رئيسية في معالجة الذهنية المشوّهة التي ليس لها مكان في عالم اليوم، وفي الواقع في أي مكان أو زمان. فمن غير المناسب واللائق أن يتم إكراه هؤلاء على التعايش مع هذا النوع من الفتاوى التي تحظر على المرأة قيادة السيارة، وهذا مثال واحد فقط.

فليس هناك آية قرآنية تمنع السعودية من تشكيل نظام جديد للفقه الذي يمكن استعماله كمصدر تشريعي يكون أكثر تنويراً ومدنية من تلك المدرسة التي أسسها ابن تيمية أو حتى ابن حنبل. إن مقارنة قيمة ما قاله ابن تيمية مع العلماء الكبار المرموقين مثل ابن حنيفة أو ابن رشد تعادل المقارنة بين الجمل كوسيلة للنقل مع سيارة رولز رويس.

الصفحة السابقة