الاصلاح منكوساً

المفعول السياسي للعائدات النفطية

انتخابات بلدية وشيكة.. إصلاحات اقتصادية واعدة إثر فائض مالي كبير.. متغيران لم يقدّر لهما الاجتماع في لحظة تاريخية واحدة فضلاً عن أن يتعاضداً مشتركين في مهمة واحدة. فقد اعتادت الحكومة على شراء المطالب الاصلاحية بقدر من الرفاه الاقتصادي وضخ كمية مال في سوق الاسهم لاشغال أكبر عدد ممكن من الناس في دورة المال اليومية. إن رضوخ العائلة المالكة للضغط الشعبي في مجال الاصلاح السياسي أو الاجتماعي يتم غالباً وقهراً في فترات تكون فيه خزينة الدولة عاجزة بصورة شبه تامة عن ضخ كميات من المال في السوق المحلية تكون كافية للجم التذمر الشعبي وكبح تطوره الى مستويات خطيرة، أو تكون أمام قدرها الذي لا مفر منه كما في برامج التحديث في بعدي العمران والتصنيع بدرجة أساسية.

بطبيعة الحال، فإن الدفع المتأخر باتجاه الاصلاح السياسي قد بدأ في فترة لم تكن فيها اسواق النفط تحمل بشارة للعائلة المالكة، فقد جاء المطلب الاصلاحي الشعبي في وقت كانت اوضاع البلاد الاقتصادية تسير ناحية التدهور المتواصل دون أفق واضح يعين الحكومة على اعداد وتنفيذ خطة طوارىء للهروب من قدر الاصلاح السياسي الذي لم يكن سوى خيار الضرورة لانقاذ الدولة والمجتمع معاً.

الا أن ما تجدر ملاحظته أن المطلب الاصلاحي، حتى وان إصطبغ باللون السياسي، الا أن الدافع الاقتصادي فيه كان شديداً وهذا ما عكسته بوضوح بالغ العرائض الاصلاحية (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) و(دفاعاً عن الوطن) و(الاصلاح الدستوري أولاً) وحتى العرائض الفرعية، ولذلك كانت التوقعات تتجه الى أن الحكومة تسعى الى احباط المفعول السياسي للمطالب الاصلاحية من خلال توفير كمية من المال في السوق السعودية تسمح بالتحايل على المضمون الاصلاحي للمطالب الوطنية في بعدها الشامل والجوهري. لقد كانت الحكومة ترقب، بتوق شديد، فرجاً اقتصادياً يفشل أي تحركات داخلية تهدف الى اجبارها على تقديم تنازلات سياسية جوهرية، ولم يكن هناك سوى النفط بضاعة ذات مواصفات سحرية قادرة على تحقيق الانفراج الاقتصادي والاجتماعي.

وقد كان الاعتقاد بأن احتلال العراق سيضعف دور السعودية في السوق النفطية، وسيوفّر للولايات المتحدة بدرجة أساسية فرصاً جديدة تحررها من التعويل ـ كما تطلع الى ذلك المرشح الديمقراطي جيم كيري ـ على البترول السعودي. ولكن ما حصل أن الطلب على النفط في الاسواق العالمية تزايد بدرجات كبيرة تفوق حتى قدرة الدول المصدّرة للنفط على الوفاء بمتطلبات السوق العالمية. ينضاف الى ذلك خروج بعض المنتجين الصغار من السوق النفطية وتدني كميات الانتاج في بعض الدول لأسباب فنية محضة كما في روسيا، وتواصل الاضطراب في معدلات تصدير النفط العراقي بفعل الحرب الدائرة بداخله وعمليات التخريب التي تصيب المنشآت النفطية وأنابيب التصدير. إن النتيجة النهائية من كل تلك الاهتزازات أن السعودية حافظت على موقعها الاستراتيجي كأكبر مصدّر للنفط في العالم، وأنها صاحبة الكلمة العليا في السوق النفطية مما حدا بالادارة الاميركية الحالية أن تعقد آمالاً كبيرة عليها لخدمة مشروعها السياسي والفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة.

على أية حال، فإن التطور المفاجىء في السوق النفطية والزيادة الدراماتيكية في الاسعار في فترة الصيف التي عادة ما تشهد إنخفاضاً في الاسعار قد زوّد الحكومة السعودية بأمد طويل نسبياً من الارتياح والاطمئنان، ولربما قدّم لها سلاحاً ايضاً تواجه به خصومها الداخليين من متشددين واصلاحيين ليبراليين. فقد جاء الفائض المالي في فترة حرجة نسبياً حيث تخوض العائلة المالكة مواجهة شبه مفتوحة ليس مع جماعات العنف فحسب، بل مع التيار الاصلاحي الذي طالما قدّمت العائلة المالكة نفسها للعالم بأنها نصير لمطالبه وتطلعاته، وبخاصة وأن هذا التيار حظي على مدار السنتين الماضيين بشعبية فائقة في الداخل وارتياح دولي أيضاً.

إن خطورة إجتماع الاصلاح السياسي المحدود والانفاق المالي العالي قد تنطوي على تداعيات مختلطة الأثر وبخاصة بالنسبة للدولة التي تراهن على تحسّن الظروف الاقتصادية من أجل تعزيز سلطانها التي لا ترى شريكاً معها فيه على الاطلاق. على أن ما يلزم التشديد عليه أن كمية المال التي حصلت العائلة المالكة عليها من جراء ارتفاع أسعار النفط، مع اسقاط ما تعرّض للنهب والسلب من هذه الكمية وما يتسرب منه خلال سير تنفيذ المشاريع التنموية، فإنه لا يغطي بحال المستلزمات الضرورية المفروضة على الدولة، فالدين الداخلي قد تجاوز 720 مليار ريال (2003)، فيما تستقبل سوق العمل المحلية 350 ألف شخص جديد كل عام، اضافة الى المتطلبات المتعلقة بالخدمات العامة التعليمية والصحية والاجتماعية.

إن ما حصلت عليه الدولة من واردات مالية يخفف بلا ريب من أعباء متراكمة عليها ولكن بالتأكيد لا يقدّم لها ربع حل سحري لأزمة مستفحلة ومتشعّبة. ولعل من نافلة القول التذكير بأن الفائض المالي للعام الفائت قد جرى التكتيم عليه رغم أنه قدّر بما يربو على 40 مليار ريال، ولكن هذا المبلغ قد طاله النهب من قبل وزير الداخلية الذي اقتطع منه الجزء الأكبر تحت ذريعة تطوير اجهزة الأمن وتحسين أدائها في مواجهة جماعات العنف، فيما اقتطع الامير نايف شخصياً عشرة مليارات ريال!.. إن تكرار العملية هذا العام سيكون بلا شك، لو حصل، فاضحاً خصوصاً مع الزيادة الكبيرة جداً في أسعار البترول، ومع ارتفاع حجم الفائض المالي من تصدير البترول.

من منظور مواجهة موجة العنف التي عادت مؤخراً، فإن الانتخابات البلدية والانفاق المالي على مشاريع تخدم رفاه المواطن حسب تعبير ولي العهد قد تضعف النزوعات المتشددة الكامنة، ولكنها بالتأكيد لا تلغي ما عقدت المجاميع الجهادية العزم على تحقيقه، فهذه المجاميع غير معنيّة بالاصلاح السياسي المحدود او الواسع، ولا تنشد رفاهاً اقتصادياً على المستوى الفردي او الجماعي، فهي تحمل رسالة دينية اصلاحية كونية تنطلق من الجزيرة العربية ـ قاعدة لانطلاق تطهير العالم من الشرك والضلال، ولابد من اخلاء الجزير العربية من مظاهر الشرك كيما تتمكن هذه المجاميع من اقامة شرع الله وتمكين العلماء المجاهدين في سبيله من الحكم ونشر رسالة الاسلام في ارجاء الكون.

حين ننظر الى المشهد الحالي في المملكة نجد بأن ظاهرة العنف تلتقي مع الانتخابات البلدية كشكل بدائي للاصلاح السياسي، والانفاق المالي الداخلي، وفي تحليل هذه المتغيرات تصبح العملية السياسية شديدة التعقيد، إذ ما يرتسم ظاهراً أن الحكومة تحقق انتصاراً ساحقاً في معركتها مع تياري العنف والاصلاح، فبالانتخابات والضخ المالي في السوق المحلية تقوم بتحييد غريمها في معركة الاصلاح السياسي، وتسرق منجزه المأمول عن طريق الظهور كراعي رسمي لمسيرة الديمقراطية، وتبدو كما لو أنها قد حققت ما وعدت من اصلاحات عن طريق الاعلان عن دورة الانتخابات البلدية. ومن جهة ثانية، تعزل تيار العنف عن محيطه الاجتماعي والايديولوجي الذي ستراهن العائلة المالكة على إعادته الى جبهتها وتثميره في المعركة القادمة ضد خصميها العنفي والاصلاحي، عن طريق نثر كميات من المال في مشاريع ذات صدى شعبي، وهكذا عن طريق اشراك من ترى فيهم زعماء شعبيين دينيين أو وطنيين ليبراليين يضطلعون بأدوار لا تقدر هي على أدائها أو تفضّل النأي عن الانخراط فيها كي تحافظ على المسافة الاحترازية مع شارع بات لا يكنّ تقديراً كبيراً لها.

في المقابل، إن المنجزات الاقتصادية المأمولة ليست بالنوع الذي يترك أثره الفوري، فهذه مشاريع تتطلب زمناً تنفيذياً يستغرق شهوراً وربما سنوات قبل أن يؤتي ثماره، ولذلك فإن ما يقال حتى الآن عن مشاريع مرتبطة بمصلحة المواطن ورفاهه ليس أكثر من وعود تضاف الى قائمة الوعود الاخرى في المجال الاصلاحي السياسي، حتى يلمس المواطن المحروم الأثر العملي مما يقال. وهذا يعني، بكلمات أخرى، أن التوظيف السياسي للمتغير الاقتصادي قد لا يتجاوز حدود الحدث الاعلامي الذي أوقعه خطاب ولي العهد، ولربما يراد منه تعويض ضآلة المعروض السياسي من قبل الحكومة، أي بدلاً من ديمقراطية سياسية شاملة تطال مجلسي الشورى والمناطق ووضع دستور للبلاد الى انتخابات بلدية تقتصر صلاحياتها على حدود تنظيف الشوارع.

إن المتغيرات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وإن كانت تشكل علامات فارقة في الوقت الراهن باعتبار اجتماعها غير المنسجم والمفعولات المتضاربة التي تحدثها في الواقع، الا أنها دون شك تتطلب لباقة فوق اعتيادية من اجل تحقيق اكبر قدر من الفائدة في ظل استحقاقات منتظرة. للدولة ان تستثمر المتغير الاقتصادي بطريقتها الخاصة، وبما يخدم توجهاً طالما ركنت اليه وهو اشباع حاجات الرعايا بالقدر الممكن من أجل ابعادهم عن حريم السياسة والسلطان، ولكن هل هذا المتغير وحده قادر على تهزيل الارادة الشعبية العارمة الى حد القبول بفتات المائدة من أجل المساومة على المبدأ الكبير، اي الاصلاح السياسي الشامل والجوهري. هذا السؤال وغيره لا شك يلامس الحدود المقررة للكرامة والتطلعات الحضارية للشعب، والتي تنأى بعيداً عن المقايضات المادية أو قصيرة المدى.

ثمة همس خفي وسط بيئات ثقافية وسياسية تنبىء عن تفاؤل بأن ما تخطط له العائلة المالكة من أجل تطويق الأثر السياسي والاجتماعي للعملية الانتخابية لا يعدو كونه وهماً، فمنطق الاشياء سيفرض نفسه على الارض سواء شاءت العائلة المالكة أم أبت، فالانتخابات لا يمكن ان تتم في غرف مغلقة وليس لها سوى الهواء الطلق مجالاً حيوياً كيما تجري وتتم مراحلها كاملة. إن في مثل هذه البيئات يمكن للثقافة السياسية أن تتسلل وتنمو وتنبث في الشارع، وتصبح جزءا من الوعي العام المطلوب من أجل المدافعة الجماعية نحو تطوير المشروع الاصلاحي الداخلي، وهذا ما تحسب العائلة المالكة له حساباً دقيقاً، ولذلك قررت بعناد شديد أن تبقي فترة الحملات الانتخابية ضيقة الأمد والمساحة الجغرافية، بل جعلت من (التمرحل) تدبيراً احترازياً كيما تتلافى أي أخطاء واخطار غير محسوبة، بحيث تستفيد من دروس المرحلة الاولى من الانتخابات في المنطقة الوسطى من أجل تحسين الادارة والضبط في المنطقة الشرقية والحجاز في المرحلتين اللاحقتين.

لاشك ان الحكومة لها هواجس من العملية الانتخابية برمتها ولكنها تجد نفسها مضطرة للاقدام عليها من اجل اعادة طلاء صورتها المقرفة في الخارج، ولأن الانتخابات في هذا البلد دخلت دائرة الضوء، أي تحت مراقبة جزئية لهيئة الامم المتحدة، وقبل ذلك لأن الضغوطات الداخلية من التيار الاصلاحي كانت من الكثافة بمكان بحيث فرضت معادلة جديدة في الساحة المحلية، وسواء جاءت العائلة المالكة الى الانتخابات طوعاً أو كرهاً فإن المصير واحد ولابد لها من السير في الطريق الاصلاحي وان كان بتلكؤ ومواربة ومخاتله.

تأمل العائلة المالكة في معالجة أمراضها المزمنة بإعادة احياء بعض العناصر من دولة الرفاه، كيما لا تضطر لتقديم تنازلات سياسية أكبر مما قررته، وقد يكون الفائض المالي المستحصل من مبيعات النفط الفرصة الذهبية وربما الأخيرة للعائلة المالكة كيما تعيد بناء مصداقيتها وهيبتها وسلطانها المتهدم. والأهم من ذلك كله، أنها تحاول أن تستغل هذا الفائض في التأسيس لمشروع اصلاحي بمواصفات خاصة ومريحة بالنسبة لها وغير مكلف في المستقبل، وبالتالي فإنها تحاول ارساء نظام يكون مرجعية للدولة والمجتمع يجري الامتثال له والتحاكم عليه.

قد يوحي المتغير الاقتصادي الجديد بأن مسيرة الاصلاحات تشهد انكساراً إضافياً بعد الانكسار الكبير الذي حدث في الخامس عشر من مايو الماضي حين أقدمت الحكومة على اعتقال ثلة من الاصلاحيين وأعادت عقارب الاصلاح الى الوراء بعيداً وجفّت اقلام النقد أو كسّرت، بيد أن ما يحول دون التعويل الكبير على التأثير السلبي للمتغير الاقتصادي في المجال الاصلاحي أن جوانب الأزمة التي تواجه الدولة تتطلب جهداً جبّاراً وخارقاً كيما تفلح في ادارة العملية السياسية بصورة مستقلة شبه تامة.

الصفحة السابقة