(الدين والملك توأمان)

التحالف المصيري بين الوهابية والعائلة المالكة

كان العامل الديني القوة التوحيدية الفريدة الذي نجح في تشكيل وحدة اجتماعية وسياسية منسجمة في منطقة نجد. فقبل ظهور الدعوة الوهابية كانت نجد مسرحاً لنزاعات قبلية وحروب داخلية على مصادر الثروة، والتي تطلبت سفك الدم، والسلب والنهب واشاعة الفوضى وانعدام الامن. في مثل بيئة الانقسام والاضطراب هذه عقدت المصاهرة التاريخية بين الدين والدولة ممثلة في الشيخ محمد بن عبد الوهاب والامير محمد بن سعود. وبالرغم من الخلفية الايديولوجية التي قيل بأن التحالف بينهما قد انعقد في ضوئها عام 1744 في محاولة لتصوير المهمة الدينية التطهيرية بصورة مبالغة عبر تضخيم ما يمكن وصفه بكتائب التبشير الدعوي الوهابي لمجتمع نجد وازالة المخالفات الشرعية والممارسات الشركية السائدة فيه، الا أن تهويل الصورة في نجد وغيرها من المناطق يشي بهول المطلع الذي ينطوي عليه المخطط السياسي الديني، وهو بلا ريب ينبىء عن نوعية الادوات المستعملة في تحقيق الحلم بإقامة الدولة الدينية السعودية.

لقد توّحدت نجد خلف الدعوة الوهابية، التي نصبت مظلة جامعة تعلو فوق الانتماءات التقليدية في نجد، وبالتالي أمدّت الروابط القبلية والاجتماعية بعصبية علوية، أي دينية قادرة على احتضان كافة الروابط، بل وأن تصنع لأصحابها نظام معنى ديني مستمداً من تراث مشترك يراد من الجميع الاسهام في صياغته وتسجيل أحداثه. إن تعزيز دور الدين ومركزته في المجتمع النجدي قد حقق أكبر منجز تاريخي فشلت في تحقيقه كافة القوى الاجتماعية الاخرى، فقد جاء الدين برسالة جديدة وتطلع مشترك ومعنى مختلف للحياة والكون. ولذلك كان من الطبيعي أن ترهن منطقة نجد نفسها للاسلام الذي منحها الامان والاستقرار واخيراً منحها دولة لم يكن قادتها القبليون قادرين على إقامتها بدون استغلال هذه القوة الجبّارة. وهذا ما يشيد به علماء المذهب ويذّكرون به الامراء السعوديين على الدوام من أجل تأكيد الحاجة الشديدة على التمسك بهذه القوة وعدم التفريط فيها كي لا ينفرط عقد الدولة.

في الدولة السعودية الثانية كتب الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رسالة الى الامير فيصل بن تركي جاء فيها (إعلم إن الله أنعم علينا وعليكم، وعلى كافة أهل نجد، بدين الاسلام، الذي رضيه لعباده ديناً، وعرفنا ذلك بأدلته وبراهينه، دون الكثير من هذه الأمة، الذين خفى عليهم ما خلقوا له، من توحيد ربهم، الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه). (الدرر السنية في الاجوبة النجدية الجزء 14 ص 77) ويذّكره في رسالة اخرى بقوله (وأهل الاسلام ما صالوا على من عاداهم، الا بسيف النبوة، وسلطانها، وخصوصاً دولتكم، فإنها ما قامت الا بهذا الدين..) (الدرر السنية في الاجوبة النجدية الجزء 14 ص 70).

لقد تظافرت جهود أهل الدعوة من آل الشيخ وأهل الحكم من آل سعود على تشييد وتعزيز أركان الدولة إنطلاقاً من منطقة نجد، القاعدة والمركز. وقد أثمرت الجهود المشتركة في إخضاع نجد بكاملها تحت الدعوة الوهابية بإمامة الامير محمد بن سعود، أثر عمليات عسكرية متواترة وبدأ بتطبيق الاحكام الدينية الصارمة على المجتمع النجدي، وفق التفسير الخاص لدى الشيخ محمد بن عبد الوهاب. في غضون ذلك، تشكّلت أنوية لمؤسسات ادارية ومالية وعسكرية خاضعة تحت اشراف الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي كان يمثل بمفرده السلطة التشريعية للدولة الجديدة في نجد. وبسطت الدعوة الوهابية ذراعها بالكامل على منطقة نجد بكاملها، باديتها وحاضرتها.

ابن سعود والوهابية، من استخدم الآخر؟

إن حاصل التجربة السعودية الاولى أنها بدأت دولة دينية بالمعنى الخالص، حتى أسبغ الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ على العهود الثلاثة الاولى من هذه التجربة والتي حكم فيها محمد بن سعود وعبد الله بن محمد وعبد العزيز بن عبد الله لقب (خلافة نبوة)، (الدرر السنية في الاجوبة النجدية ج14 ص 122). ولذلك نجحت في تحقيق الاستقرار والاستمرار كسلطة مركزية قوية وفاعلة في منطقة نجد.

ولكن نهاية التجربة السعودية الاولى كانت غير بدايتها، فقد بدأت الدولة تشق طريقاً منفصلاً عن الدين، وبدأت أطماع السلطة وأحلام العظمة تراود أمراء آل سعود، وكان في ذلك هلاك الدولة السعودية الاولى، حيث دب الخلاف وهزلت العصبية الدينية التي صنعتها الوهابية للدولة والمجتمع النجدي. وقد حذّر علماء المذهب أمراء الدولة السعودية الثانية من العواقب الوخيمة التي آلت اليها الدولة السعودية الأولى حين غيّر سعود بن عبد العزيز بن محمد طريقة والده (وبغاها ملكاً) حسب الشيخ عبد الرحمن بن حسن أي حين (طغت أمور الدنيا على امر الدين) (الدرر السنية في الاجوبة النجدية، ج14 ص 123). فقد أراد هذا العالم تأكيد دور الدين في بقاء واستقرار وقوة الدولة ووحدتها وتمركزها النجدي، ولذلك طالبه بشدة بأن يجعل الحكم أمر دين (الدرر السنية، ج14 ص 124).

لقد سعى العلماء للاحتفاظ بموقعهم ليس كمصدر شرعية لحكم آل سعود فحسب بل وقوة توجيهية ورادعة أيضاً، فحتى نهاية الدولة السعودية الثانية وشطراً من الدولة السعودية الاولى لم يكن بإمكان المرء الفصل بين ما هو خاص بشؤون الدين وما هو خاص بشؤون الحكم، فقد كان الشيخ ابن عبد الوهاب في الدولة السعودية الاولى يمارس السلطتين معاً ولم يكن الامير محمد بن سعود يجد ضيراً في ذلك طالما أنه مازال يحتفظ بلقب إمام المسلمين بالمعنى الديني والسياسي، تماماً كما أن أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانوا يضطلعون بأدوار تندرج في المجالين الديني والسياسي دون فرز واضح بينهما. ولعل في رسائل العلماء من آل الشيخ ما يفصح عن المقام الذي يمنحونه لأنفسهم في مجمل مناشط الدولة وبناها الادارية. فقد كانوا يسهمون عملياً في صناعة القرارات الخطيرة في الدولة ووضع السياسات العامة التي يجب على الحاكم السعودية إتباعها. وفوق ذلك، كانوا في كل التجارب السعودية الثلاث القوة الحارسة للدين والمراقب الأمين والفطن لامتثال الدولة بأحكام الشريعة.

في رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ الى فيصل بن تركي في الدولة السعودية الثانية ما يلمح الى دور العالم في توجيه دفة سفينة السلطة. فقد جاء في الرسالة (ومن الدعوة الواجبة، والفريضة اللازمة: جهاد من أبى ان يلتزم التوحيد ويعرفه، من البادية وغيرهم، وأكثر بادية نجد يكفي فيهم المعلم، وأما من يليهم من المشركين مثل الظفير وأمثالهم، فيجب جهادهم ودعوتهم الى الله)، (الدرر السنية في الاجوبة النجدية، ج14 ص 67).

وقد طالب آل الشيخ فيصل بن تركي بتفتيش عقائد أهل الاحساء والقطيف وأن ينظر في توحيدهم واسلامهم (فقد اشتهر عنهم ما لا يخفاك، من الغلو في أهل البيت، ومسبة أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وعدم التزام كثير من أصول الدين وفروعه.

وكونهم يسرّون ذلك ويخفونه، لا يسقط عنك وجوب الدعوة والتعليم، والنصح لله بظهور دينه، وإلزامهم به، وتعليم صغارهم وكبارهم، فإنك مسؤول عن ذلك، والحمل ثقيل، والحساب شديد) (الدرر السنيّة في الاجوبة النجدية، ج14 ص ص 66 ـ 67).

لقد ناضل علماء المذهب على تحقيق الربط الوثيق والدائم بين الدين والدولة، واعتبروا ذلك شرطاً للاستقرار والاستمرار وشرطاً أيضاً لنيل وصفة المشروعية. لقد أضفى العلماء خصائص دينية وإلهية على الدولة السعودية، وقد حاولوا غرس وتعزيز الصفة الدينية لمشروع الدولة حتى أن الشيخ عبد الرحمن بن حسن أسبغ مواصفات ذات ايحاءات دينية وتاريخية من خلال ربط الحاكم السعودي بخط الخلافة النبوية وامتداداتها. يقول الشيخ عبد الرحمن (من عبد الرحمن بن حسن، الى إمام المسلمين، وخليفة سيد المرسلين، في إقامة العدل والدين، وهو سبيل المؤمنين، والخلفاء الراشدين، فيصل بن تركي، جعله الله في عدادهم، متبعاً لسيرهم، وآثارهم..)، (الدرر السنيّة في الاجوبة النجدية، ج 14 ص 77). وما تلك الالقاب الدينية المسبغة على فيصل بن تركي سوى تعبيرات رمزية للدولة المنشودة لدى العالم. ولربما توحي دعوة الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ لفيصل بن تركي الى إعادة احياء نموذج التجربة السعودية الاولى التي وصفها بانها خلافة نبوة، توحي بأن الشيخ يريد إحياء الدور التاريخي المتميز لعالم الدين أيضاً فضعف دور الدين في شؤون الدولة لا يعني أكثر من ضعف دور العلماء ومكانتهم وتالياً امتيازاتهم. لقد ألّحّ الشيخ عبد الرحمن بن حسن في الطلب من فيصل بن تركي لأن يحيل الدولة الى خلافة دينية وخاطبه قائلاً (جدد هذا الدين الذي اخلولق، لما اقدرك الله على ذلك، والتمس من أهل الخير عدداً يدعون الى هذا الدين ويذكرونه الناس) (الدرر السنيّة، ج 14 ص 89).

لقد شعر العلماء بفداحة الخسارة من زوال الدولة السعودية ـ الوهابية الثانية، وكانوا يتطلعون بشغف شديد الى من ينهض من آل سعود كيما يحمل الراية ليعيد إحياء ما اندثر من الامجاد، وما انفرط من عقد المذهب والدولة.

العلماء وابن سعود في الدولة السعودية الثالثة: 1902 ـ 1932

لقد اشرأبت أعناق العلماء مع ظهور ابن سعود الذين وجدوا فيه ضالتهم بعودة المجد القديم الذي ضاع بفعل الامراء، وقد خاض عبد العزيز التجربة السياسية عن وعي متسلّحاً بتجربة ناضجة، مستدركاً مافات السلف، متوسلاً برؤية متوازنة تحسب بدقة القوى الضالعة والمؤثرة في مشروعه السياسي. فهو يدرك تماماً متى يفيد من قوة العلماء ومتى يتجاوزهم، وكيف يكسر شوكة التمرد داخل قيادة الاخوان ومتى يفيض عليهم من العطاء الجزيل، والى جانب ذلك أتقن الافادة من العامل الدولي الذي أخفق فيه سلفه وضاع ملكه بسبب اصراره على المصادمة معه.

ويجب القول هنا، أن ابن سعود لم يكن عبقرياً كما يصوّره بعض المؤرخين، فأولئك قد سقطوا ضحية القراءة المبتورة للتاريخ، حيث يبدأ تاريخ الدولة السعودية لديهم من لحظة ظهور عبد العزيز بن سعود على مسرح الاحداث، ولذلك اعتقدوا خطئا بأن عبد العزيز هو مبتكر فكرة الاخوان، وهو صانع الهجر كحواضن اجتماعية وايديولوجية وعسكرية للجيش العقائدي المسمى بالاخوان، وهو مهندس العلاقة المعقّدة مع العلماء وراسم حدود الادوار التي يجب عليهم الاضطلاع بها في شؤون الدولة، وفي التعامل مع الحاكم، وفي قمع حركات التمرد التي كانت تتفجر في وسط الاخوان.

عن الهجرة، يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ من أبرز علماء الدولتين السعوديتين الاولى والثانية عن الهجرة بما نصه (ومما يجب أن يعلم: ان الله تعالى فرض على عباده الهجرة، عند ظهور الظلم والمعاصي، حفاظاً للدين، وصيانة لنفوس المؤمنين عن شهود المنكرات، ومخالطة أهل المعاصي والسيئات، وليتميز أهل الطاعات، والايمان، عن طائفة الفساد والعدوان، وليقوم علم الجهاد، الذي به صلاح البلاد والعباد، ولولا الهجرة لما قام الدين، ولا عبد رب العالمين، ومن المحال: ان تحصل البراءة من الشرك، والظلم والفساد، بدونها)، (الدرر السنيّة في الاجوبة النجدية، ج 8 ص 238). وقد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن حكم الهجرة من بين ظهراني المشركين من البادية والحاضرة فقال (الهجرة من واجبات الدين، ومن أفضل الأعمال الصالحة، وهي سبب لسلامة دين العبد وحفظ ايمانه) (الدرر السنيّة ج8 ص 455).

ولذلك كان يطلق على نجد بأنها دار الهجرة، لأنه نزل بها طائفة من المسلمين بإذن الامام واستقروا فيها، فهي دار هجرة لمن هاجر اليها من المسلمين من بلاد الكفر أو من البادية التي قد غلب عليهم الجفاء والمهاجر اليها يسمى مهاجراً، (الدرر السنية، ج 8 ص 475 و 478). ومن هنا يظهر الربط الوثيق بين الهجرة باعتبارها مقدمة للجهاد، ولا جهاد والحال هذه الا بعد هجرة، والهجرة إنما تتم من بلاد الشرك والضلال الى بلاد الطاعة والاسلام.

مع كل الخصائص الكاريزمية التي توفّرت لدى ابن سعود كيما يصبح رمزاً للدولة السعودية الثالثة، الا أنه لم يكن أكثر من وارث لتراث مليء بكل الافكار والتجارب وأيضاً الطموحات السياسية الكبيرة. فابتكار الاخوان كفكرة وتجربة لصقتا خطئاً بالملك عبد العزيز، في الوقت الذي كان لقب الاخوان يعود الى زمان مؤسس المذهب الشيخ ابن عبد الوهاب، وكان اللقب يمنح لتلك الصفوة الدينية في المجتمع الوهابي التي مثّلت خلاصة المجتمع الديني برمته، وهي تستعيد تجربة إخوان الصفا التي فصلت نفسها عن المجتمع ايديولوجياً في محاولة لانشاء نواة مجتمع جديد يقوم على تعاليم دينية ذات طبيعة مختلفة.

ما فعله ابن سعود على وجه التحديد أنه أضاف بعداً عسكرياً تنظيمياً لفكرة الاخوان، بالرغم من أن الاخوان السالفين كانوا يزاولون مهمات جهادية بحكم كونهم القوة الايمانية الأكثر قرباً لتعاليم الدين والأشد امتثالاً لأحكام الشريعة. لقد طوّر ابن سعود فكرة الاخوان، وجعل من الهجر ليست مجرد بؤر معزولة بالمعنى الاجتماعي والديني، ولكن ايضاً الى ما يشبه بمراكز تجنيد وتعبئة عسكرية سهلة الضبط والتوجيه.

لقد وعى ابن سعود الربط الحميمي بين الهجرة والجهاد والجماعة كفاهيم متسلسلة تنصهر في علاقة مقدسة وتصبح شديدة التأثير بوجود البعد الديني أولاً الذي لابد أن يصبغ هذه المفاهيم بلونه الخاص، ومن ثم وجود القيادة الحكيمة القادرة على تثمير هذه المفاهيم على الارض. ولذلك تنبّه ابن سعود بعد احتلال الرياض عام 1902 الى أن مشروعه السياسي الطموح يفتقر الى قوة أخرى معنوية تسنده وتشحنه بالزخم الديني، خصوصاً اذا ما أراد تعبئة المجتمع النجدي ومنازلة خصومه آل الرشيد.

يلزم الاشارة هنا الى أن عبد العزيز لم يحمل أهدافاً دينية ولم يلجأ لاستعمال الخطاب الديني بصورة كثيفة ومعلنة قبل احتلال الاحساء سنة 1913. وحتى تطلعاته السياسية كانت تعاني من الارباك الشديد، بسبب قوة العثمانيين في شرقي الجزيرة العربية، والسياسة البريطانية المواربة في منطقة الخليج والخاضعة لحسابات المعادلة الدولية المضطربة، اضافة الى التحالفات السياسية الخفية بين البريطانيين والشريف حسين في الحجاز.

كان سقوط الاحساء في يد ابن سعود قد منحه ليس مجرد أرض جديدة، بل ثقة ودوراً سياسياً في الشؤون الاقليمية. فالاحساء كانت بالنسبة له أول إختبار لقوته العسكرية خارج منطقة نجد، وأول اختبار أيضاً لقوته السياسية حيث سيفرض عليه من الآن التعامل مع قوى سياسية عظمى في المنطقة.

إن عدم اثارة الانجاز العسكري السعودي في الاحساء لأية حساسية لدى القوى الدولية وبخاصة العثمانيين والبريطانيين شجّع ابن سعود كيما يطلق العنان لتطلعاته البعيدة، ولذلك بدأ يعدّ الخطط والجيوش لشن سلسلة حملات عسكرية متواصلة ضد المناطق الاخرى.

لقد كان الانبعاث الديني واستعمال الخطاب الدعوي بكثافة شديدة ضرورياً من أجل تحشيد المجتمع النجدي وبناء جبهة داخلية مرصوصة البنيان، يلعب فيها العلماء دوراً محورياً من أجل انجاح المشروع الطموح لابن سعود. ولم يكن دافع التوسع العسكري ممكناً الا باستعمال سلاح الدين، حيث نزع العلماء عن المجتمعات المراد اجتياحها صفة الاسلام واستبدلوها بالشرك والضلال وهذه كانت كافية لتوفير مبررات العقاب الالهي المنزل على يد جيش الاخوان. فقد صنع ابن سعود ومن وراءه العلماء معنى دينياً للغزو على المناطق المجاورة، وجعل من إشاعة الرعب واراقة الدم وسلب الممتلكات وقتل الاهالي ممارسات مبررة من السماء، بل وتحظى بالثناء والمدح.

في الحملة السعودية على الحجاز سنة 1925 كانت الذريعة الدينية مفبركة الى حد كبير، فقد أطلق العلماء والجيوش الغازية الخيال الديني والتاريخي من أجل اعادة بناء العصر الجاهلي كيما يتم تصوّير الدور التطهيري باسقاط تجربة المسلمين الاوائل في فتح مكة المكرمة حين أعمل الصحابة الفؤوس في الاصنام المنصوبة على الكعبة، على المهمة التي يقوم بها الجيش الوهابي. في رسالة الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق الى الملك عبد العزيز في شعبان 1343هـ بعد احتلال الحجاز ما يوحي بذلك. يقول ما نصه (ثم لا يخفى ما منّ الله به من فتح الحرم الشريف، وما حصل به من اعلاء كلمة الاسلام، وخذلان أهل الشرك والطغيان والآثام، وهدم ما أحدثه أهل الضلال، من القباب والمقامات، والبنايات التي على القبور، هو من أكبر النعم عليكم، وعلى المسلمين)، وليس المسلمون هنا سوى أهل نجد بطبيعة الحال، (الدرر السنية، ج 14 ص 519).

إن أخطر مشكلة تواجه أية دولة في العالم تكمن في نشوب النزاع على مصادر المشروعية، وأن يكون الضالعون في النزاع هم الأمناء الاوفياء على هذه المصادر والمشاركين في توفيرها. لقد نجح عبد العزيز في تحصين مصدر مشروعيته باعتباره الحاكم السياسي والامام الديني، وساهم العلماء بدرجة كبيرة في تعزيز المقام السياسي والديني لابن سعود، مع التذكير بأن ذلك كله منوط بدرجة وثاقة العلاقة التي تربط ابن سعود بالعلماء ومدى التزامه بتطبيق أحكام الشريعة. ولاشك ان الملك عبد العزيز قد حظي برضا العلماء الكبار وخصوصاً من آل الشيخ الذين أدركوا تماماً بأن لولا دوره التاريخي لما بدأت دعوة جدهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب تنجو من الاندثار والضياع للأبد. ولذلك فإن الدفاع عن امامة عبد العزيز وبيعته وفرض طاعته على الرعية لم يكن سوى تعبيراً أميناً عن العقيدة الخالصة لأولئك العلماء الذين فقدوا بزوال الدولة السعودية الثانية الأمل في استعادة القوة العسكرية التي تحصّن الدعوة وتذب عنها.

سعى العلماء الى محورة القيادة السياسية في عبد العزيز وعارضوا اية محاولات لقسمة القيادة او الانفصال عنها أو إضعافها مهما كانت الذريعة. إن الدفاع المستميت عن ابن سعود من قبل العلماء يصدر عن الاحساس العميق بفداحة الخطر من زوال السلطان القادر على توفير الحماية للمشروع الدعوي، ولذلك التزموا موقفاً صارماً وحاسماً إزاء قادة الاخوان فيصل الدويش وسلطان بن بجاد اللذين بدأت بوادر الانشقاق تتسرب الى قلوبهما بعد سقوط الحجاز، وقرار ابن سعود بإبطال عمل الآلة العسكرية ووقف مشروع الزحف امتثالاً للمعادلة الجيوسياسية الدولية الجديدة.

جيش الإخوان السابق

لقد استشعر قادة الاخوان بأنهم حصدوا الريح من حملات عسكرية متواصلة لم يخرج منها سوى ابن سعود منتصراً ورابحاً وحيداً، وقد كان فيصل الدويش يطمح لتولي الحجاز بعد فتحها وهو ما لم يمكّنه ابن سعود من ذلك لربما لأنه يخشى من عواقب تطلعاته السياسية التي قد تؤول الى انفصال الحجاز وقيام دولة جديدة بقيادة الدويش.

إن بوادر التطلع السياسي لدى قادة الاخوان بدأت منذ احتلال الحجاز، ولابد أنهم وقعوا تحت تأثير النعيم الذي كانت تعيشه الحجاز، ولابد أن ما في هذه المنطقة من مصادر قوة قد أثار غريزة ما لدى قادة الاخوان القادمين من صحراء قاحلة. إن واحدة من أفكار التمرد التي بدأت تتسلل الى أذهان الدويش وابن بجاد أن فتح الحجاز مثّل انجازاً اخوانياً لا شأن لابن سعود فيه، فهو لم يضرب فيه بسيف ولم يطعن فيه برمح، وبالتالي كيف يحق له ان يطير بصيت الفتح وينال حظوة الفاتحين ويتقلب في نعيم الحجاز فيما نحن ـ أي قادة الاخوان ـ نعود كما لو لم تكسو خيولنا الغبرة في سوح القتال، ولم تذبل شفاهنا من شدة الصولات والجولات، ولم تعانق سيوفنا ورامحنا السيوف والرماح، أو لم تطأ أقدامنا التراب.

لقد حاول الملك عبد العزيز شخصياً أن يخمد بوادر التمرد لدى قادة الاخوان، فكتب رسالة اليهم يذّكرهم فيها بتعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهاب جاء فيها (ومن سنة الخلفاء الراشدين ـ أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم ـ أنهم هم الذين بعثوا البعوث، وجندوا الأجناد، وفتحوا الفتوحات العظيمة، كمصر والشام والعراق، والفرس، وأنفقوا خزائنها في سبيل الله، كما هو مشهور في سيرتهم، ولم يقل أحد من الصحابة، والتابعين رضي الله عنهم: إنا نحن الذين فتحنا هذه الأمصار، بل ذكر العلماء: أن الذين فتحها هم الخلفاء الراشدون) (الدرر السنية في الاجوبة النجدية ج9 ص 154).

ثم يقول ( وآخر من كان على هذه الطريقة المرضية، شيخ الاسلام: محمد بن عبد الوهاب، وآل سعود، رحمهم الله تعالى، فإنه لما سار عثمان المضايفي، وعبد الوهاب ابو نقطة أمير عسير، وربيع، ومبارك بن روية بالدواسر، وهادي بن قرملة بقحطان، وحصل بينهم الوقعة المشهورة، هم وراجح الشريف، ثم بعد ذلك حاصروا مكة المشرفة، حتى أذعنوا بالصلح، وطلب منهم غالب الشريف الصلح، فلم يقبلوا منه الا بعد مراجعة الامام سعود، فأمر بإتمام الصلح، وحج من العام المقبل بجميع المسلمين، ودخلوا مكة آمنين من غير قتال.

ولم يقل أحد من العلماء في تآريخهم، أن الذين فتحها هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، وإنما ذكروا أن الذي فتحها سعود، وهو الذي تولى اخراجها، ولم يتولى اخراجها أحد ممن ذكرنا، ولم نسمع من قديم زمان أو حديثه ممن سلف من الائمة ولا من خلف ممن بعدهم أنهم قالوا بمثل قول هؤلاء..) (الدرر السنية، جزء 9 ص155).

وتنبىء هذه الرسالة عن أن الاخوان كانوا ينسبون الى أنفسهم فتح الحجاز وينازعون ابن سعود امتياز الفاتحين، فيما هو ينسبه الى نفسه قياساً على نسبة الفتح الى الخلفاء الراشدين وليس الى القادة العسكريين الميدانيين الذين كانوا على رأس جيوش الفتح.

وعلى اية حال، لم تفلح رسالة ابن سعود في إحباط التطلع السياسي لدى قادة الاخوان، بل أصرّوا على ذلك وتمسكوا بحقهم في اقتسام المغنم السياسي, الامر الذي دفع ابن سعود للاستعانة بالاحتياطي الاستراتيجي الممثل في علماء الدين، الورقة الحاسمة في منازعة تتطلب رأياً شرعياً كيما يحاصر أبعادها غير المنظورة، وليس هناك أقدر من ابن سعود على استعمال هذه الورقة بذكاء خارق، وبالطريقة التي تدعم موقفه وتعزز سلطانه.

وبإيحاء من ابن سعود، كتب الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ رسالة الى الاخوان شدّد فيها على طاعة الامام والتمسك بحبل البيعة وحذّر من نقض العهد، ومنازعة ابن سعود الامر ومنع قتاله على أساس أن (طاعة ولي الأمر، وترك منازعته، طريقة أهل السنة والجماعة). وكان الاخوان قد قدحوا في العلماء الذين إتهمهم الاخوان بالتواطىء مع ابن سعود والخضوع له فرد عليهم (وقد بلغني عن بعض من غره الغرور، من الطعن في العلماء، ورميهم بالمداهنة..).(الدرر السنية، ج 9 ص 91).

لقد لعب العلماء دوراً محورياً في الخلاف بين عبد العزيز وقائد الاخوان فيصل الدويش، وثبّتوا مركزية القرار السياسي والديني في يد ابن سعود، وربطوا مشروعية عمل الاخوان بامتثالهم لطاعة قرارات ابن سعود. وفي سنة 1338 ـ 1919م كتب عدد من العلماء وهم الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ حسن بن حسين، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن عبد اللطيف الى الملك عبد العزيز حذّروا فيها من الفرقة والخروج عن طاعة الامام وإن كان تحت شعار الجهاد وقالوا (إن حقيقة الجهاد، ومصالحة العدو، وبذل الذمة للعامة، وإقامة الحدود، أنها مختصة بالإمام، ومتعلقة به، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك..).

وتعرّضوا للقرار الانفرادي الذي اتخذه الدويش باعلان الجهاد، وقد استفتى ابن سعود أحد العلماء في قرار الدويش فأفتى بعدم شرعية الجهاد ما لم يكن بإذن الامام، ولكن لم يلتزم أحد بحكم العالم، فما كان من ابن سعود الى أن أوحى لمجموعة من العلماء بالادلاء برأي شرعي والكتابة في مسألة الدويش كي يلقي الحجة عليه وعلى من يليه في مسألة اعلان الجهاد دون إذن الامام الممثل في ابن سعود. وقد خاطب العلماء ابن سعود بالقول (فالواجب عليك: حفظ ثغر الاسلام عن التلاعب به، وأنه لا يغزو أحد من أهل الهجر الا بإذن منك، وأمير منك لو صاحب مطية، وتسد الباب عنهم جملة، لئلا يتمادوا في الأمر، يقع بسبب تماديكم وتغافلكم خلل كبير..)، (الدرر السنية، ج 9 ص 95 ـ 96).

وكان الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ قد حذّر في رسالة الى قائدي الاخوان فيصل الدويش وسلطان بن بجاد بن حميد ومن يليهما من الاخوان من مغبة الخروج على الامام ونزع يد الطاعة واعلان العصيان. وكانت أنباء قد بلغت ابن سعود عن لقاءات سرية يعقدها قادة الاخوان لجهة اعداد خطة لازالة ابن سعود عن الامامة، فأراد أبن سعود احباط مخططاً يحاك ضده في السر من أجل ازالة ملكه، فحرّك العلماء وأوحى لهم بالتحرك العاجل كيما ينهروا قادة الاخوان عن التفكير فيم هم عازمون على فعله.

وقد كانت مناسبة كيما يدبّج العلماء رسائل في التمجيد والتعضيد لامامة ابن سعود، ولعل رسالة آل الشيخ كانت واحدة من تلك الرسائل التي كانت أشبه شيء بشهادة تزكية واطراء لابن سعود وتثبيت لجدارته وآهليته للقيام بمهام الامامة. فقد طالب الاخوان وقادتهم بالشكر لله (على ما منّ به في هذا الزمان، من ولاية هذا الامام (أي ابن سعود)، الذي أسبغ الله عليكم على يديه، من النعم العظيمة، ودفع به عنكم من النقم الكثيرة، وخولكم مما أعطاه الله، وتابع عليكم إحسانه، صغيركم وكبيركم...). بل وبالغ في الشهادة قائلاً (فو الله ثم والله: إنا لا نعلم على وجه الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً ولا جنوباً، شخصاً أحق وأولى بالإمامة منه، ونعتقد صحة إمامته وثبوتها، لأن إمامته إمامة اسلامية، وولايته ولاية دينية..) (الدرر السنيّة، ج9 ص ص 103 ـ 104).

إن هذه الشهادة المليئة بزخم عاطفي وديني هائل تشير من ناحية الى عظم الخطر المحدق بحكم ابن سعود، ومن ناحية أخرى تحمل رسالة تحذيرية قوية للحيلولة دون إقدام قادة الاخوان على فعل يعد في نظر العلماء شنيعاً وزيغاً عن جادة الحق.

لقد أفصح الاخوان عن مؤاخذاتهم على ابن سعود من أجل تبرير الارتداد عنه والخروج عليه، وفي ذلك محاولة واضحة لنزع الصفة الدينية عنه. وقد كتب عدد من قادة الاخوان برسالة الى عبد العزيز قالوا له فيها (أنا لا نجتمع وإياك ان خالفت شيئاً مما ذكرنا الا كما يجتمع الماء والنار)، وكان في ذلك بداية اعلان التمرد والخروج على ابن سعود.

وقد تدخّل كبار العلماء مثل سعد بن حمد بن عتيق وسليمان بن سحمان وصالح بن عبد العزيز وعبد العزيز بن عبد اللطيف وعمر بن عبد اللطيف وعبد الرحمن بن عبد اللطيف ومحمد بن ابراهيم وكاتبوا قادة الاخوان بلهجة شديدة وحرّموا الخروج على ابن سعود بما نصه (وأما الخروج، ونزع اليد من طاعته، فهذا لايجوز)، كما طالبوهم بالتوبة والاستغفار وملازمة طاعة ابن سعود (الدرر السنيّة ج9 ص ص 183 ـ 185).

في رسالة من الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري الى الاخوان والتي جاءت عقب موجة من الانتقادات الواسعة أطلقها الاخوان ضد ابن سعود، من أبرزها وربما المحرض على غيرها مخالطة الكفار والتعامل معهم. يقول الشيخ العنقري (وقد بلغنا: أن الذي أشكل عليكم، أن مجرد مخالطة الكفار ومعاملتهم، بمصالحة ونحوها، وقدومهم على ولي الأمر لأجل ذلك، إنما هو مولاة المشركين، المنهي عنها في الآيات والأحاديث). وقد استندوا في ذلك على كتابي (الدلائل) الذي صنّفه الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ الشيخ و(من سبيل النجاة) للشيخ حمد بن عتيق.

وقد شرح العنقري الخلفية الشرعية للمصنّفين على أساس أنهما وضعا عقب هجوم العساكر التركية على نجد وساعدهم في ذلك جماعة من نجد وأحبوا ظهورهم. وكان المراد من التصنيف (موافقة الكفار ـ أي الاتراك ـ على كفرهم وإظهار مودتهم، ومعاونتهم على المسلمين، وتحسين أفعالهم، وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم) (الدرر السنية ج9 ص 157 ـ 158).

ثم برأ العنقري ساحة ابن سعود وقال (والامام وفقه الله لم يقع في شيء مما ذكر، فإنه إمام المسلمين، والناظر في مصالحهم، ولابدّ له من التحفظ على رعاياه وولايته، من الدول والأجانب، والمشايخ رحمهم الله، كالشيخ سليمان بن عبد الله، والشيخ عبد اللطيف، والشيخ حمد بن عتيق، إذا كروا موالاة المشركين، فسّروها بالموافقة والنصرة، والمعاونة والرضا بأفعالهم..) (الدر السنية ج9 ص 158). وهناك رسائل اخرى كتبها علماء كبار مثل الشيخ عمر بن محمد بن سليم والشيخ محمد بن عبد اللطيف وغيرهم، في محاولة لتبديد الاتهامات ضد ابن سعود، ومحاصرة الفورة الاخوانية التي بدأت تحشد مبرراتها من كتب المذهب وتنفصل عن مجال التأثير الديني والمعنوي للعلماء، وتعزيز قيم الجماعة والتوحد خلف الامام.

وقد اضطلع الشيخ العنقري بدور الوسيط بين ابن سعود والاخوان في محاولة لاقناعهم بالعدول عن قرار الخروج ودعوتهم لتحكيم الشرع في مسألة الخلاف مع ابن سعود، ولكن لم ينجح في مهمته. وعلى أية حال، فقد كان التأييد الديني الواسع الذي جناه عبد العزيز في خلافه مع الاخوان كان كافياً لانزال ضربة عسكرية قاصمة بالاستعانة بالقوات البريطانية التي استعملت الطائرات لتشتيت فلوهم ودك حصنهم. ولم يكن هذا القرار العسكري الحاسم يصدر دون غطاء ديني، فقد أصدر العلماء حكمهم في الدويش وجماعته واصمين اياهم جميعاً بالكفر والردة (الدرر السنيّة ج9 ص 209).

إن ما يظهر من سيرة العلاقة بين العلماء والحكام السعوديين، أن ثمة تحالفاً مصيرياً غير قابل للفكاك بين الوهابية والعائلة المالكة بما يجعل التلاحم بينهما ضرورة مشتركة، إذ أن بقاء أحدهما متوقف على بقاء الآخر وبالضرورة فإن زوال أحدهما يعني زوال الآخر، وهذا ما يجعل خيار التمسك بالوهابية من قبل العائلة المالكة استراتيجياً ومصيرياً.

الصفحة السابقة