الـمـجـد لـلـثـلاثـة

الإصلاحيون يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه

سليم عزوز

هناك معارضون دخلوا التاريخ، وآخرون خرجوا منه، ومن بوابة الخدم!

الذين خرجوا ليسوا أولئك الذين لم يستطيعوا تحمل أعباء المعارضة، وقبلوا الدنيّة من أمرهم، وكتبوا عرائض التوبة والاسترحام، فهذا الصنف معذور، لأننا في عالمنا العربي نواجه أنظمة قمع، فشلت في كل شيء، ولم تنجح الا في التنكيل بالخلائق، وابتداع وسائل التعذيب والقهر، لتحافظ علي عروش مهزوزة، هي في الواقع كبيوت العنكبوت. فالذين أعنيهم هنا هم أولئك الذين قفزوا من قطار المعارضة ليزينوا للحكومات سوء عملها، ليس خوفا من سيف المعز، ولكن طمعا في ذهبه!

لا أبالغ اذا قلت ان على رأس الذين دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه في أيامنا هذه، هم الثلاثي: متروك بن هابس الفالح، وعبد الله بن حامد، وعلي بن غرم الدميني، والذين يحاكمون الان في المملكة العربية السعودية بتهمة المطالبة بالإصلاح، ويذكر لهم فيشكر، انه كان أمامهم فرصة الهروب بجلودهم من الحبس والبهدلة، من خلال التنازل عن حقوقهم، واعلان التوبة، والدخول الي بيت الطاعة الحكومي، إلا انهم رفضوا بإباء، مما كان سببا في خضوعهم للمحاكمة أمام قضاء لا يتوفر فيه الاستقلال ولو في حدوده الدنيا!

لقد نجح القوم، ولعلهم بالسيف وحده وبدون حاجة لاستخدام الذهب، في الضغط على كثيرين ممن تم إلقاء القبض عليهم، فكتبوا عرائض الاسترحام، وأعلنوا توبتهم علي رؤوس الأشهاد، وهي توبة لا نلومهم عليها، فقد علمنا التاريخ ان الأنظمة العربية تملك من وسائل القهر والإكراه ما تحول به بين المرء وقلبه، وفي سجون الطغاة العرب، وعلى مر التاريخ، وقفنا على حالات مشابهة، ولأناس أعلنوا توبتهم النصوح، ليس من ذنب اقترفوه، وانما لشرف فعلوه، فكانوا بتوبتهم لطمة في جبين كل معتد أثيم. فنحن لا نلوم الذين قرروا ان ينجوا بأنفسهم من العذاب، ولقد أعطى الله للمؤمن رخصة أن يقول كلمة الكفر، اذا تعرض لقهر كهذا!

وعذرنا للذين خلفوا، أو الذين أجبروا على ذلك في الشقيقة الكبري السعودية، هو نفسه الذي يجعلنا نقف بكل إجلال واكبار أمام أسماء الثلاثي، الذين يخوضون معركة من أشرف المعارك وأنبلها، وبعيداً عن أية حماية دولية، بعد أن تنكّر بوش وعصابته لمطالب الإصلاح في البلدان العربية، وثبت عملياً أنه عندما كان يرفع راية الديمقراطية، كان يسعى لابتزاز الأنظمة العربية، الا وأنها قد ابتزت وسارت على صراطه المستقيم، فلا مندوحة من تحطيم الراية، ولحس المطالب، لدرجة أنه لم يقل: أف لمحاكمة ثلاثة، كل جريمتهم أنهم طالبوا بالإصلاح، ولم يخرجوا على الحاكم بالسلاح، ولم يعرضوا الأمن العام للخطر!

إن من يطالع الاتهامات التي ساقها المدعي العام عوض بن علي الأحمري سوف يصاب بالخفيف، لأن تكون بين ظهرانينا حكومات تملك من الجرأة ما يجعلها قادرة على أن تزج بالناس في السجون، وتقدمهم للمحاكمة، وتقرر أن تكون هذه المحاكمة علنية، على تهم هي في الواقع تمثل مسخرة مكتملة الأركان، مع احترامنا للجميع!

فالثلاثة تم إيقافهم لقيامهم ـ وياللهول ـ بين الحين والآخر بإصدار بيانات وعرائض، والسعي بطريقة أو بأخرى للحصول على تواقيع أكبر عدد من المواطنين، والحث على تبنيها، والمطالبة بها، حتى أصبح هذا التوجه أشبه ما يكون بمضمار يتنافس فيه هؤلاء، وكأنهم أوصياء على المواطنين وهم قلة قليلة!

لاحظ أنني نقلت الاتهامات بالنص، لأني على يقين من أن الاتهامات ملفتة للنظر، وقد يظن أحد، من غير المتابعين لسير التحقيقات، إنني أبالغ وادعي على القوم بغير الحق، لذا فان النقل الحرفي سيجنبني ظن السوء، فأنا مدرك أن الاتهام في حد ذاته هو نكتة الموسم!

فالجناة قاموا بكتابة عرائض، وإصدار بيانات تطالب بالإصلاح، وهم سعوا الى كسب ثقة الشعب، ولم يقوموا بانقلاب عسكري بهدف فرض هذه المطالب، وانما لجأوا بها الى السلطة، وهو اعتراف منهم بشرعيتها، لكن السلطات ألقت القبض عليهم وقالت انهم يتصرفون على أنهم أوصياء على المواطنين، وهم قلة قليلة. وفي ظني أن ملامح الوصاية هنا ليست موجودة، فضلا عن أن كونهم قلة قليلة، كان ينبغي أن يجعل السلطة تكبر دماغها، فلا تعمل عقلها بعقلهم، ولا تصاب بالذعر لمجرد أن قلة قليلة أصدرت بيانات او كتبت عرائض، فالقلة القليلة لا يمكن ان تهدد بمطالبها عرشا ضاربا بجذوره في أعماق التاريخ!

لن أقول انهم لم يلجأوا الى الشعب عبر انتخابات حرة، ليضعوا أنفسهم في كفة، ودعاة الإصلاح في كفة، ليعرفوا من على وجه التحديد يمثل الأغلبية الساحقة، ومن هم القلة القليلة التي تتصرف على أساس أنها وصية على الارض ومن عليها، فهذا يندرج حسب قانون عوض بن علي الأحمري في فصل الجنايات، فكل ما أقوله أن الذين يحوزون ثقة الشعب، كان عليهم أن يترفعوا عن هذه التهم، وتلك المحاكمات المهزلة، التي يمكن أن تجد لها مكاناً في كتاب نوادر الحكومات في سالف العصر والأوان، وذلك في ظرف عدة سنوات لا أكثر، لأن قطار الإصلاح انطلق، ولن يوقفه الذين يخافون من الهواء العليل، ومن يعتقدون ان كل صيحة عليهم، وكل نسيم هواء يهدد الأمن العام!

عودة الي عريضة الاتهام، والتي جاء فيها: أصبحت هذه العرائض تشكل ظاهرة مسيئة للامة والشعب والدولة، وجعلت المملكة عرضة بين الحين والآخر لوسائل الإعلام ولتشبيهات لا تليق.

لا اعرف المقصود بالأمة هنا، وهل هي الأمة العربية ام الإسلامية، أم الأمتين معا، ولا اعرف كيف يمكن الإساءة لهذه الأمة او تلك، وللشعب والدولة، بعريضة، يطالب فيها من صاغوها ووقعوا عليها، بالإصلاح، وتحقيق استقلال القضاء، وسيادة القانون، وتكريس حقوق الإنسان!.. انها ذاتها الاسطوانة المشروخة التي يتم ترديدها في مواجهة التقارير الدولية التي تدين الجور على حقوق الإنسان في العالم العربي، حيث يتم الرد عليها بما لو كانت هذه الانتهاكات تتفق مع خصوصياتنا وشريعتنا ووضعنا الحساس في المنطقة!

ولا شك أن الذين يسيئون للامة والشعب والدولة، هم من ينظرون الى دعاوي الإصلاح على أنها تمثل خروجا على التقاليد العربية الراسخة، وفي مخاطبة الحاكم على أنها جريمة لا تغتفر، وفي كتابة العرائض على أنها تهمة شنيعة وفظيعة تستدعي أن يقدم مرتكبها للقضاء، ليواجه مصيره المحتوم، ويتم النظر الى من اقدم عليها على أنهم آثمون يستلزم أن يتوبوا توبة نصوحا، وتتم محاكمة من يصرون منهم على الإثم والعدوان، بل ولا تقبل ممن وقع في هذه المعصية شهادة أو دفاع، باعتبارهم فاقدون للثقة والاعتبار، وليس أدل على هذا من تصرف وزير العدل السعودي الذي استبعد خمسة من أعضاء هيئة الدفاع عن الجناة العصاة، معللا ذلك بأنهم ضمن الموقعين على عريضة الإصلاح!

أرأيتم إلى حكومات تفصّل التهم، وتختار الجناة، وتتدخل في شؤون القضاء، بل وتختار الدفاع، فتستبعد من تشاء وتوافق على وجود من تريد، ثم يغضبها أن يطالب أحد باستقلال القضاء وتنظر الى هذا باعتباره تهمة تعادل الشرف الرفيع الذي لا يسلم من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم!

الآن يتم النظر الى الإصلاح على أنه تهمة؟، ولم يكن كذلك وبوش يرفع رايته، بل شهدنا تزاحماً عربياً في الحديث عنه، وعقدت المؤتمرات والندوات، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن ولي العهد السعودي حفظه الله ورعاه، سبق له في هذه المعمعة أن أعلن عن تبنيه لمبادرة للإصلاح العربي، يتم إلزام الأنظمة العربية بها بعد إقرارها من قبل القمة العربية، وهي المبادرة التي تم القفز عليها وتجاهلها، لأن بوش وعصابته سكتوا عن الكلام المباح، ولم يعد الإصلاح يأتي على طرف ألسنتهم، بعد أن حصلوا من الأنظمة المستهدفة بالإصلاح على كل ما يريدون وزيادة، وما دامت التعليمات الأمريكية تحوّلت كالعادة الى أوامر، اذن فليواصل سكان البيت الأبيض سيرتهم في حماية أنظمة القمع العربي وغض الطرف عن انتهاكاتهم لحقوق الإنسان، والزج بالخصوم السياسيين الى السجون، ومحاكمتهم بتهم تثير الضحك اكثر مما تثير الاندهاش!

ان متروك، وعبد الله، وعلي، دخلوا التاريخ من أوسع الأبواب فالمجد لهم.

الصفحة السابقة