الـعـنـف والإصـلاح الدسـتـوري فـي السـعــوديـة

أ. د. متروك الفالح

العنف ظاهرة قديمة قدم البشرية. ومع التغيرات الضخمة في هيكلة المجتمعات وبنائها وتنوعها وتقاطع أطرافها واحتياجاتها ومصالحها، ومع التقدم التقني في عناصر القوي المادية، وكذلك في عناصر نقل المعلومة بالصورة الفورية، أخذ العنف يتزايد في انتشاره وفي آثاره، وبالتالي ولد قلق الناس واهتمامهم المتزايد ومتابعتهم في كل مكان. وإذا كان العنف ظاهرة موجودة في كل زمان وفي معظم المجتمعات بدرجة أو بأخري، فإن الذي يهمنا هنا هو ملاحظة أن منطقتنا العربية وبلداننا العربية تشهد في معظمها درجات متزايدة من العنف وصل بعضها إلي حالة من الصراع الاجتماعي المفتوح (الحرب الأهلية). ولما كانت السعودية من البلدان العربية التي بدأت تشهد، وبخاصة منذ أحداث أيلول (سبتمبر) 2001م، وبالذات منذ 12 أيار (مايو) 2003م، أعمالاً متصاعدة من العنف، فإن معالجة الموضوع من حيث العلاقة بين العنف والإصلاح ـ وبخاصة مدي تأثير الأول في مستقبل الأخير ـ هي من القضايا الأساسية المتصلة بفكرة ومطالب الإصلاح الدستوري في السعودية.

في مناقشة العلاقة بين العنف والإصلاح الدستوري، ننطلق من محطات أساسية ذات صلة بالعنف، ومنها:

1 ـ تعريف مفهوم العنف وتحديده.

2 ـ مناقشة متغيرات العنف (تفسير العنف) في السعودية.

3 ـ العنف والإصلاح الدستوري.

أولاً: في مفهوم العنف

إن أية معالجة لقضية ذات صلة ببعض المفاهيم تحتاج أن تحدد تلك المفاهيم من خلال تعريف يوضح مكوناتها وخصائصها. وعليه يمكن من خلال سياق علم الاجتماع السياسي تعريف العنف علي أنه: كل تصرف أو سلوك بشري ينزع إلي استخدام قدر من القوة القسرية (بما في ذلك الإكراه والأذي الجسدي الذي يتضمن الضرب والأذي النفسي وغيرهما) وبخاصة الاستخدام غير المشروع للسلاح ولتقنيات التعذيب التقليدية والحديثة، أو المخالف المنتهك لحقوق الإنسان الأساسية التي أقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية في التعامل مع أو إدارة العلاقات الإنسانية، بما في ذلك وبدرجة أساسية الاختلافات في المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبهدف تحقيق غايات في تلك المجالات تتراوح بين الإخضاع والضغط والتعديل والتهميش (الإقصاء)، وبين الاستئصال والتصفية والتغيير الشامل لتلك العلاقات وبالذات أطرافها (فواعلها)، وقد يطال أذاه آخرين غير مستهدفين. هذا السلوك البشري القسري غير السلمي يحدث بين الأفراد أو الجماعات أو السلطات بعضها تجاه بعض داخل مجتمع معين، أو بين مجتمعات معينة وعناصر معينة.. ويتولد أساساً من تقاطع أو تداخل أو تضافر عناصر من بيئات في تلك المجتمعات صغيرة أكانت أم كبيرة، رئيسة أم فرعية، حبلي بتعقيداتها من اختناقات واختلالات في تلك المجالات. وفي مرحلة لاحقة قد يصبح العنف والعنف المضاد مغذيين لتلك البيئات المحفزة، وربما مدمرين لها.

وبناء علي ذلك فإن هذا التحديد أو التعريف للعنف يتضمن العناصر والمكونات والخصائص الرئيسة التالية:

1ـ سلوك بشري مع الآخرين ـ أو تجاههم أو بينهم.

2ـ غير سلمي (مسلح ـ قسوة ـ تعذيب... الخ).

3ـ غير مشروع، وهذا يعني أن هناك عنفاً مشروعاً، كمقاومة الاحتلال أو الاستعمار.

4ـ مخالف أو منتهك لحقوق الإنسان الأساسية، وهذا يعني أن الحق المشروع للدول والحكومات في ممارسة العنف من أجل فرض السلم الأهلي يجب ألا ينتهك حقوق الناس الأساسية، بما في ذلك عدم الاعتقال والسجن و التعذيب والتحقير والإكراه النفسي للمتهم... الخ.

5ـ مجاله العلاقات الإنسانية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

6ـ أهدافه وغاياته : إلحاق قدر من الأذي يترواح بين الإخضاع أو الضغط أو التعديل أو التهميش وبين الاستئصال والتصفية والتغير الشامل لتلك العلاقات وأطرافها البشرية من أفراد أو جماعات أو سلطات، أو بعضها علي الأقل.

7ـ أطرافه : الأفراد والجماعات والسلطات (الحكومات) بعضها تجاه بعض في مجتمع بعينه، وبين مجتمعات مختلفة أو بعض عناصرها مع العناصر الأخري.

8ـ ومن خلال أهداف العنف وأطرافه، فإن هناك أنواعاً منه. فهناك العنف الأسري والعنف الثقافي والعنف السياسي الذي قد يأخذ أشكالاً متعددة، بما في ذلك الصراع أو العنف الاجتماعي المفتوح أو الحرب الأهلية.

9ـ إنه ناتج مركب من اختلال بيئة مجتمعات تلك الأطراف أو بعضها واختناقاتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، أو من عوامل داخلية، أو من تقاطع أو تداخل بين عناصر من بيئات مجتمعات مختلفة (عوامل خارجية).

10ـ إن للعنف تداعيات قد تلحق الأذي والضرر بغير المستهدفين أصلاً: الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالأطراف مباشرة. وقد يؤدي العنف والعنف المضاد ودورتهما إلي أن يكون ذلك العنف منتجاً ومغذياً لتلك البيئات المختلة، وقد يؤدي إلي دمارها.

ثانياً: في تفسير العنف في السعودية (1)


1 ـ البيئة والعوامل الداخلية:

لكل حالة أو ظاهرة عوامل مكونة لها. والعنف كظاهرة اجتماعية هو الآخر منتج مركب من عوامل متصلة ببيئة داخلية، أو بتداخل من عوامل بيئة خارجية، أو بخليط منهما معاً. والعنف الذي عرفناه آنفاً هو تعريف مجرد عام، بمعني أنه يشمل جميع أنواع العنف وأطرافها المحتملة وغاياتها المحتملة. ولكننا هنا نريد أن نركز علي حالة أو ظاهرة العنف التي تجري في السعودية، وبخاصة منذ أيار (مايو) 2003م، رغم أن جذورها تمتد في بعض العقود السابقة. إن العنف الذي يجري في السعودية هو من نوع العنف العام أو السياسي، ذلك أن أطرافه هي بعض الفئات من المجتمع والسلطة وغاياته تبدو سياسية، وذلك علي رغم تداخل الغايات والأطراف الأخري، وكذلك البيئات المولدة لها.

إن الخطاب الرسمي، وكذلك الثقافي والفكري والإعلامي الموازي، يقدم العنف أو الإرهاب علي أنه ناتج عن الغلو والتطرف في الأفكار وبعض الخطاب الديني، باعتبار ذلك أفكاراً ضالة ومنحرفة، وأنها تعود في جزء كبير منها إلي تأثر أطرافه (بمن في ذلك عناصر من الخارج) بالفكر الإخواني (الإخوان المسلمون). علي أن علم الاجتماع السياسي لا يقبل التفكير الأحادي للظواهر، إذ ليس هناك ظاهرة اجتماعية يمكن تفسيرها فقط بالاعتماد علي عامل واحد مهما كانت أهميته. ومع ذلك فلنفترض أن ذلك التفسير الأحادي للعنف (الارهاب) هو صحيح من باب الجدل العلمي، فنقول أولاً، إذا كان ذلك صحيحاً، فمن الذي سمح بذلك الفكر والخطاب الديني المتطرف؟ ومن الذي قبل بإدخاله في البلد و السلك التعليمي والتربوي؟ أليست الدولة (الحكومة في السعودية) هي التي سمحت بدخول عناصر من الإخوان المسلمين من مصر والشام؟ وكانت تدعم الاتجاهات الإسلامية ونشاطها وأطرها ومرجعيتها التنظيمية في فترة الستينيات بالذات في صراع مع مصر (الناصرية) وما بعدها، وفي سياق الحرب الباردة العربية والحرب الباردة العالمية (أمريكا والسوفييت)؟ ونقول ثانياً إن هناك عناصر من المنخرطين في العنف أو الإرهاب لهم صلة بالجهاد في أفغانستان في فترة الصراع الأفغاني والمقاومة ضد السوفييت. وهذه العناصر ـ بمن فيها عناصر من القاعدة علي رأسها أسامة بن لادن ـ كانت الدولة السعودية والولايات المتحدة الأمريكية هما اللتين تغذيانها وتدعمانها حتي انسحبت القوات السوفييتية من أفغانستان في أواخر عام 1989 م (2).

ونقول ثالثاً إن الفئات المنخرطة في أعمال العنف والإرهاب الحالية هي في أكثرها عناصر شابة لا تتجاوز أعمارها الخامسة والعشرين، وهو ما يدل علي أن تلك الفئات والعناصر هي وليدة وإنتاج البيئة السعودية ذاتها حتي لو ركزنا علي مسألة ثقافية بعينها وخطاب ثقافي بعينه، ذلك أنهم نتاج المدارس أو الجامعات السعودية أو المعاهد التعليمية والمرتبطة أساساً بسياسات التعليم الحكومية. فمن هو المسؤول يا تري عن إنتاج تلك السياسات التعليمية الحكومية؟


الدين ليس الا عاملا من العوامل

وعليه فإنه في سياق تحليل علم الاجتماع السياسي لظاهرة العنف في السعودية، يمكن قبول أن الخطاب الديني له بعد تفسيري للعنف، ولكن هذا الخطاب الديني، من حيث قيمه ومقولاته في التطرف والغلو، ليس إلا عاملاً واحداً وفي سياق مجموعة عوامل أخري. وهو ليس العامل الحاسم بذاته في تفسير العنف، علي أية حال. في تعريف العنف نجد ضمن مكوناته كمفهوم أنه منتج أو ناتج مركب من بيئة فيها اختلالات واختناقات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لذلك نقول إنه في سياق العوامل الداخلية فإن البيئة السعودية، وانغلاقها، وتقاطعات وتضافر عواملها هي المولدة للعنف ـ رغم المجال السياسي في العلاقة بين الدولة والمجتمع وفي سياق.

الممارسات والسياسات الحكومية ـ تكون الأوفر حظاً في توليد ذلك العنف، وهي المسؤولة عنه بدرجة أساسية. وسنبين ذلك ونفصله في ما يلي:

أ ـ في المجال الثقافي: إضافة إلي مسألة مسؤولية الخطاب الديني لغلو وتطرف قيمه ومقولاته، وبغض النظر عن كونه ذا صلة بمصادر خارجية (الإخوان مثلاً) (3)، فإن السياسات الحكومية خلال العقود الماضية، وبالذات الثلاثة الأخيرة، ولا تزال مستمرة في الثقافة والتعليم بما في ذلك المجال الديني وكذلك في الاعلام، هي التي ولدت تلك الإقصاءات المتعلقة بتلك المجالات بما فيها مسألة الخطاب الديني وتطرفه وغلوه. ففي المجال التعليمي، هناك سيادة أحادية التعاليم لمدرسة ترتبط بالمدرسة الوهابية، وهذا واضح في المناهج التعليمية ابتداء بالابتدائية وانتهاء بالجامعات، وحتي في التخصص في الجوانب الشرعية حيث تغلب عليها تعاليم المدرسة الوهابية وفهمها. إضافة إلي ذلك فهناك في المدارس والجامعات السعودية سواء أكانت دينية أم غيرها غياب للحوار والمناقشات. ويسود التلقين والحفظ والتوجيه بدون مناقشة، فلا رأي آخر، ولا تركيز علي تطوير وسائل أساليب الفهم.

وفي الجانب الثقافي العام، والإعلامي الصحافي تحديداً، فإن هناك رؤية واحدة في الغالب تمثل الدولة وسياساتها مع غياب واضح ومتعمد للرأي الآخر. وفي موازاة ذلك هناك كبت وقمع ثقافي، وبخاصة علي مستوي غياب الندوات والمحاضرات و المؤتمرات الداخلية، والتضييق علي المثقفين في المشاركة في تلك المؤتمرات الموازية في الخارج بما في ذلك المنع من المشاركة في البرامج الفكرية والثقافية والسياسية في القنوات الفضائية العربية. وكذلك قلة معارض الكتاب وندرتها، وهي تخضع أصلاً لدرجة كبيرة من الرقابة، كما هي حال وسائل المعلومات الحديثة كالانترنت مثلاً، ومواقعها حيث هناك منع وحذف لكثير من المواقع وأحياناً قفل ومنع لها، وبخاصة إذا كان مصدرها أو أصحابها من المثقفين من أبناء البلد، هذا فضلاً عن غياب مراكز الترفيه. من هنا، فإننا أمام منهجية مبرمجة من عملية متواصلة للتجهيل تؤدي حتماً إلي انغلاق الرأي والبصيرة والحوار، وبخاصة علي مستوي الشباب الناشئ للتو. لذلك ليس غريباً عليهم التشدد والتطرف وعدم التسامح والجنوح أو النزوع باتجاه العنف، وخصوصاً في ضوء تضافر العوامل الأخري في المجالات الأخري كما سوف تتكشف، تالياً، في مناقشة الأجزاء المتبقية من عوامل العنف.

ب ـ في المجال الاجتماعي والاقتصادي والنفسي: حيث إن هناك تداخلاً كبيراً بينهما، ونلاحظ اختلالات في السياسات والممارسات الحكومية فيهما. أولاً هناك سوء توزيع للثروة والموارد في سياق التنمية لتوفير الخدمات والحاجات الأساسية للناس في كافة المناطق وعلي نحو متوازن. ثمة خلل كبير في بعض المناطق والأرياف لحساب بعض المناطق أو أجزاء منها، وكذلك في المراكز (المدن أو أجزاء منها)، إذ ليس كل المدن ـ بما فيها المدن الرئيسية مثل الرياض أو جدة مثلاً ـ تخلو من هذا الخلل حيث لا تتوازن الخدمات في كافة أحيائها. إضافة إلي ذلك وفي موازاته، هناك هدر للمال العام سواء تعلق الأمر بإدارة الأموال العامة، وبخاصة في سياق الميزانية العامة للدولة فضلاً عن ما هو خارجها، وهو ما يعني قدراً غير قليل من الفساد المالي تحديداً، طالما لا توجد آلية مجتمعية قانونية دستورية للرقابة والمحاسبة.

ذلك ليس غريباً مع غياب أو وجـــــود خــــلل في العدالة الاجتماعية أن يكون هناك قدر متعاظم من التظلم والتضجر الاجتماعي الجماعي والحرمان النسبي(4) )Collective Social Injustice Frustration and Relative-deprivation( لدي قطاعات متزايدة من السكان، وبخاصة في بعض المناطق، ومنها الجنوبية والشمالية، وكذلك قري وأرياف المناطق الأخري، إضافة إلي هوامش وأطراف حتي المدن الرئيسية. وليس غريباً أن تجد أعداداً من المنخرطين في أعمال العنف (الإرهاب) يتحدرون من تلك الأجزاء أو الأحياء الاجتماعية أو المناطقية. ومن هنا يلاحظ تمركز فئات وعناصر من المطلوبين في أحياء من أطراف مدينة الرياض مثل السويدي والنسيم والشفاء... إلخ.

عندما نتكلم عن حالة التظلم الاجتماعي والجماعي والحرمان النسبي لدي فئات وقطاعات من أبناء البلد، وبخاصة في بعض المناطق وبعض الأجزاء الأخري، فإننا لا نتكلم بالضرورة عن الفقر والإفقار علي المستوي الفردي، ذلك أن الأفراد المنخرطين في العنف قد يكونون أغنياء بذاتهم، ولكنهم انطلاقاً من الإحساس بالتهميش والدونية من قبل الدولة وإدراكه والتفكير فيه بعمق علي مستوي البعد الجماعي لجماعة ما في منطقة ما، فإنهم غالباً ما ينفسون عن ذلك بالانخراط أو الانحراف في عمليات العنف، إن لم يكن بغيرها من الانحرافات. ولعل من المفارقات العجيبة أن الحكومة السعودية وحتي وقت قريب لم يتجاوز السنتين تقريباً اعترفت بوجود حالة الفقر داخل المدن الرئيسية بما في ذلك مدينة الرياض، حيث قام ولي العهد الأمير عبد الله بزيارة أحد الأحياء الفقيرة فيها. قبل ذلك لم يكن أحد يعرف من المسؤولين عن تلك المسألة، بل لا يريد أن يثيرها، وذلك لتناقضها الفاضح مع قدرات الدولة المالية الهائلة مقابل عدد سكان غير كبير في البلد. وإذا كانت تلك مفارقة عجيبة، فالأعجب أيضاً مفارقتان متلازمتان: المفارقة الأولي هي أن الإعلام السعودي لم يتطرق قبل هذه الزيارة إلي الواقع الاقتصادي المتردي لفئات اجتماعية من المواطنين، وبخاصة في سياق حالة وواقع الفقر. وهو إثبات آخر علي تبعية الإعلام وعدم استقلاليته في تناول المواضيع العامة والتي تدل علي تهميش واضح للرأي الآخر. والمفارقة الثانية هي أن الحكومة السعودية أقرت قبل وبعد زيارة الأمير عبد الله لذلك الحي الفقير في الرياض استراتيجية لمكافحة الفقر في البلد، ولكن هذه الاستراتيجية خصص لها أو جمع لها مبلغ يتراوح بين مئتين إلي ثلاثمئة مليون ريال سعودي. في المقابل ومع اندلاع أعمال العنف منذ أيار (مايو) 2003 م خصصت الحكومة لمكافحة العنف والإرهاب أكثر من 5 مليارات ريال سعودي، وذلك في ميزانية عام 1424 ـ 1425هـ 2003 ـ 2004م. وفي كل هذا وذاك يتكشف دور الإعلام المسيطر عليه بأحادية الرأي والتوجه الرسمي، فهو لا يثير القضايا إلا بالضوء الأخضر، ويتوقف مع الضوء وعند الخط الأحمر.

ـ في سياق مسألة مكافحة الفقر ومكافحة العنف أو الإرهاب والمبالغ المخصصة لها، هناك عدة ملاحظات منها :

رغم أن أحداً لا ينازع في حاجة الأمن إلي أموال وموارد تخصص، إلا أن الأمن يمكن الوصول إليه بطريقة التنمية المتكاملة المتوازنة لكافة المواطنين والمناطق، وبما يعني ضمان حاجاتهم المادية الأساسية وكراماتهم الإنسانية في مجال الحقوق والحريات. وهذا النهج حتي الآن لم يتبع بعد. فهل الأمن هو المنهج الأفضل لمعالجة قضية الإرهاب والعنف؟

وفي ميزانية مكافحة الفقر وما خصص للعام 2003 ـ 2004 م نحن أمام المعادلة التالية: 1/17، بمعني أن هناك ريالاً واحداً مخصصاً للفقر مقابل سبعة عشر ريالاً يصرف للأمن، وهذا الأخير فقط لميزانية عام واحد، بينما الأول (الفقر) قد تكون ميزانيته تشمل عدة سنوات.

ـ في كل ذلك، من يقرر ماذا ومتي وكم هي تلك الأموال؟ وكيف تصرف، وعلي أي أساس؟ في النهاية يبقي المواطن يتفرج علي لجان تشكل باسمه لمعالجة أوضاعه وحاجاته دون أن يكون شريكاً في عملية صنع تلك السياسات. ويبقي المواطن الفقير، بشكل خاص، خارج تلك الدوائر وصناعتها، وقد تصله تلك الأموال وقد لا تصله. وعلي أية حال فليس هناك ضمان قانوني أو دستوري لتحقيق ذلك. لذلك ليس غريباً أن مجموعات من هؤلاء المواطنين الفقراء، والذين قد ازدادوا فقراً مع الوقت، قد تشكل بيئة خصبة للاختطاف باتجاه العنف، بغض النظر عن المسوغات سواء أكانت دينية أم اقتصادية، واعية أم جاهلة.

ج ـ في المجال الاجتماعي: أيضاً هناك تهميش للناس من خلال هدم وتدمير البني الاجتماعية التقليدية من الأسر أو العائلات أو العشائر والقبائل... إلخ. في المقابل لم تعمل الحكومة علي إيجاد بدائل من بني وأطر اجتماعية حديثة تستوعب الأفراد والفئات الاجتماعية بحيث يمكن أن ينخرطوا فيها مع الآخرين في نشاطات سليمة تدافع عن حقوقهم ومصالحهم، وتفصح عن رغباتهم تجاه الدولة وفي الوقت نفسه تقدم لهم إمكانية أن يحددوا آلية للمشاركة والمحاسبة والرقابة سواء تعلق الأمر بهم كمجموعات أو بينهم وبين الدولة (السلطات) أو ما يسمي بالاحتساب علي السلطة، وفي ما بينهم من خلال جمعيات واتحادات أهلية مدنية. مع غياب تلك المؤسسات والجمعيات الحديثة في الوقت الذي تدمر فيه المؤسسات والبني التقليدية، فإن كافة المواطنين والناس عموماً أفراداً و جماعات، وبخاصة الشباب، لا يجدون وسيلة وإطاراً يعملون من خلالهما فيفصحون عن رغباتهم ومطالبهم وحقوقهم بطريقة سليمة تجاه الدولة وتجاه بعضهم البعض، لذلك ليس غريباً في سياق تلك الوضعية من فقدان الأطر الاجتماعية الأهلية والمدنية المستقلة، وكذلك بالتلازم مع ضعف الدمج بين الجماعات والمناطــــق (الوحدة الوطنية) من خلال سوء إدارة الموارد، وكذلك سوء إدارة التنمية وتوازناتها (الخلل في العـــــدل والعدالة الاجتماعية)، أن هناك قدراً من الضعف في الانتماء والولاء للدولة والسلطة. وهذا ما يفسر نزوع أفراد وفئات من المجتمع إلي منح ولائهم لقيادات وزعامات خارج البلد ـ كما هو ملاحظ عند أولئك المرتبطين بالقاعدة مثلاً.

د ـ في المجال السياسي تتبدي كل تلك الاختلالات السابقة وتتمظهر جلياً باعتبارها امتداداً وانعكاساً لبنية السياسة والدولة وممارساتهما. ولعل المعضلة الكبري في كل هذا وذاك من اختلالات تعود إلي طغيان الاستبداد وشموليته لمناحي الحياة، وأحياناً لمجالات كثيرة بأدق تفصيلاتها. نحن أمام دولة ذات سلطة مطلقة لا فصل فيها للسلطات، ولا وجود لمشاركة شعبية من خلال سلطة نيابية لها سلطة رقابية ومحاسبة علي السلطة التنفيذية. لا سلطة قضائية مستقلة بإجراءات وهياكل ومعايير، ولا وجود لآليات وأطر اجتماعية للاحتساب الجماعي علي السلطة وفي ما بينها، وبالتالي ليس غريباً أن يفتقد العدل لأسس إقامته، وأن يختل تحقيق العدالة الاجتماعية، وتغيب الحريات، وتنتهك بما في ذلك حرية الرأي والتعبير والتجمع المدني السلمي، وتهدر الحقوق، ويستشري الفساد المالي والإداري، ويهدر المال العام دون حسيب أو رقيب، طالما ليس هناك دستور وحكومة دستورية.

والسؤال هنا، ما هي العلاقة بين قضية الاستبداد السياسي والعنف؟


طبائع الاستبداد

يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال عدة محاور متصلة بمسألة الاستبداد وكون الدولة والحكومة كسلطة حكومة ذات سلطة مطلقة شمولية، وذلك علي النحو التالي:

أولاً: الاستبداد يعني في الوقت ذاته القمع والقهر والإقصاء للمجتمع أفراداً وجماعة. إن عدم وجود فصل السلطات يعني أن صناعة القرار محصورة بفئة معينة ومقصورة عليها،أما الشعب فإنه خارج السلطة والعملية السياسية وصناعة القرار بالذات. إذاً هناك إقصاء للمواطن من السياسة ومن صناعة القرار، أي أن هناك قرارات تتخذ في مجال السياسة الداخلية والخارجية في ظل تهميش لرأي الشعب، الأمر الذي يعني احتمال وجود قدر من الاعتراض الشعبي علي عدد من القرارات، لكن الحكومة (السلطة) تتصرف دون استشارة شعبها. من ذلك مثلاً قرار الإذن بدخول القوات الأمريكية الأراضي السعودية أثناء وبعد أزمة الخليج الثانية 1990، وقد استمر ذلك الي الآن، وكذلك ما يتصل بتواصل ضرب العراق ما بين عامي 1991 و 2003 م في مناطق الحظر، وبخاصة في الجنوب انطلاقاً من الأراضي السعودية، وكذلك تحالفات الدولة وقراراتها في ما يتعلق بغزو أفغانستان عام 2001م، والاحتلال الأمريكي للعراق في آذار (مارس) 2003م فصاعداً. وينطبق ذلك علي قرارات القيادة السعودية المبادرة للتطبيع مع اسرائيل في مؤتمر قمة بيروت في آذار (مارس) 2002م. هذه القرارات المنفردة بمعزل عن الشعب أثارت ولا تزال تثير كثيراً من تحفظ الناس عموماً، وبعض الفئات خصوصاً، بما في ذلك المجموعات الدينية التي تري حدوداً للتعامل مع الأجنبي، والتي يري بعضها عدم جواز دخول تلك القوات أرض الجزيرة العربية (السعودية بلاد الحرمين) أو التصالح والتطبيع مع الكيان الصهيوني، ولذلك فإن عناصر من الشباب الجهادي في هذا السياق هم من الذين انضموا إلي عناصر القاعدة في الاعتراض المسلح علي الوجود الأمريكي في السعودية.

إضافة إلي ذلك فإن الاستبداد يقابله القمع والكبت والقهر في كافة المستويات، وبالتالي فإن متنفساتها البديلة هي العنف في غياب المتنفسات المدنية السلمية؛ وهي المشاركة وإبداء الرأي والتعبير والاعتراض السلمي. عندما يشارك الشعب من خلال من يثق بهم ممن يمثلونه، فإنه هو الذي يتحمل تلك القرارات إذا ما اتخذت، ذلك أنه لا بد من أن يناقشها ويخصها ويخضعها للمداولة والتعديل، وربما لعدم اتخاذها إذا وجد أنها تتعارض والمصلحة العليا للوطن.

ثانياً: في الممارسات الحكومية الأمنية والمسألة الحقوقية في ظل الاستبداد والسلطات الشمولية المطلقة في أي بلد ـ بما في ذلك السعودية ـ فإن هناك ميلاً واضحاً لانتهاج سياسات أمنية لمعالجة كثير من مظاهر عدم الرضا والاعتراض علي السياسات الحكومية. هذه السياسات الأمنية تميل إلي عدم وجود ضوابط وأنظمة محددة، إذ لا وجود لدستور مقيد للسلطات. وحتي عندما تتبني الدولة أنظمة ما وكذلك حتي عندما تقر الدولة ـ السلطة (الحكومة السعودية) بعض المواثيق الدولية ـ مثلاً في مجال حقوق الإنسان، ومنها حقوق المتهم ـ فإنها لا تلتزم بها، كذلك ليس غريباً أن تنتهكها، وذلك لغياب الرقابة والمحاسبة الدســــتورية القانونية الشعبية. ولذلك فإن السلطات الأمنيـــة وخلال العقود الماضية، منذ الستينيات من القرن الماضي فصاعداً، مارست انتهاكات في مجال حقوق الإنسان وبالذات في سياق حقوق المتهم والمعتقلين، ابتداءً بطريقة الاعتقالات، ومروراً بأصناف ممارسات التعذيب والعزل الانفرادي الطويل والإهانات والمدة الطويلة للسجن والاعتقال دون محاكمات، وانتهاء بالفصل والطرد من الأعمال والوظائف الحكومية. وتلك الممارسات الأمنية، وبخاصة في السجون تم تدوينها وكتابة تقارير مفصلة عنها من قبل بعض الذين سجنوا أنفسهم، وقدمت لمسؤولي وزارة الداخلية.

إضافة إلي ذلك، فإن أولئك العناصر من الذين انخرطوا في الجهاد (الجهاد الأفغاني) وعادوا بعد خروج السوفييت، لم يجدوا معاملة تليق بهم من الدولة، بل لم تقم الدولة باستيعابهم واحتوائهم، وإنما تم إهمالهم وتهميشهم رغم أن الحكومة كانت أساساً تدفع بهم إلي أفغانستان لمقاومة السوفييت هناك. وإذا كان هذا أكثر حدوثاً في ما قبل صدور وتطبيق نظام الإجراءات الجزائية منذ أيار (مايو) 2003، فإنه للأسف لا يزال هناك الكثير من تلك الممارسات والانتهاكات المتواصلة، كما أن كثيراً من المعتقلين أو المتهمين لا يعرفون حقوقهم بما في ذلك حقهم في أن يكون لكل منهم محام (وكيل) للدفاع عنه أمام المحكمة وفي أثناء التحقيق معه. وكيف لهم أن يعرفوا وليس هناك ثقافة حقوقية في البلد وقد ساهمت الدولة أصلاً في غيابها. وحتي أولئك المعتقلين الذين يعرفون بعض حقوقهم، مثل حقهم في توكيل محام عنهم، فإنهم في الغالب يحرمون من هذا الحق، أو تماطل الأجهزة الأمنية في تحقيقه، أو تعطله وتعرقل فاعليته إذا ما تم.

ولعله من المفارقات أن هذه الممارسات الحكومية الأمنية المنتهكة لحقوق الإنسان تمارس بينما تعلن الدولة ممثلة بوزارة الداخلية تطبيق نظام الإجراءات الجزائية الذي يتضمن نصوصاً ومواد تمنع تلك الممارسات، وذلك في تعارض صارخ مع ما وقعت عليه المملكة من اتفاقيات دولية تمنع تلك الممارسات، وبخاصة اتفاقية مناهضة التعذيب التي وقعتها السعودية في عام 1997م.

وإذا كانت تلك الانتهاكات تطال في الأصل أي مواطن، إلا أنها تركز علي فئات من المواطنين، وعلي أولئك الذين هم من الفئات والعناصر الجهادية بالذات، وبالتالي فإن الممارسات الأمنية التي تمثل انتهاكات لحقوق ولكرامة الإنسان داخل السجن، أو في الإقصاء خارج السجون، جعلت من هؤلاء الأفراد أو المؤيدين لهم ينزعون علي نحو متزايد باتجاه العنف والانخراط فيه. طبعاً هذا التحليل لا يعفي أهل العنف من تحمل مسؤولية ممارساتهم، ولا يعني بأي حال من الأحوال أنه ليس لهم دور ومسؤولية في تواصل العنف.

ثالثاً: في السلطة القضائية والأحكام التعزيرية المفتوحة: في موازاة الممارسات الأمنية داخل السجون وخارجها، ودون ضوابط وقانون ومحاسبة، فإنه أيضاً وفي سياق الاستبداد والسلطة المطلقة وعدم وجود فصل السلطات وآلية الرقابة والمحاسبة، وبالذات من السلطة القضائية تجاه السلطة التنفيذية والنيابية، فإن السلطة القضائية نفسها تعاني إشكالية كبري تتصل بمسألة عدم تمكينها من ممارسة استقلالها عن السلطة التنفيذية. في سياق نظرية ولي الأمر يصبح القاضي الأصل ولي الأمر والقضاة وكلاء للقاضي الأصل (ولي الأمر ـ صانع القرار ـ الملك ومن ينوب عنه) وكذلك في سياق قاعدة أن ولي الأمر أدري بالمصلحة، طالما أنه لا يناقض مناقضة صريحة نصاً قطعياً، وكذلك بأن ولي الأمر يحسم الخلاف بين الجهات، وبخاصة بين أقوال القضاة في حال اختلافهم في مسألة ما، وفي غياب مدونة واضحة وفعلية ومحددة لأحكام وعقوبات التعزير، وبشكل عام في سياق غياب معايير دولية وإجراءات وهياكل تعزز من استقلال السلطة القضائية كمؤسسة وتضمنها بما في ذلك عدم علنية وشفافية المحاكم وجلساتها السرية رغم أن نظام الإجراءات الجزائية المطبق منذ أيار (مايو) 2003 فصاعداً يجيز ذلك، فإن القضاء ـ وبخاصة في القضايا التعزيرية، ومنها علي وجه التحديد القضايا السياسية والمتصلة بالشأن العام ـ قد يصدر أحكاماً قاسية في بعضها تصل إلي درجة الإعدام، أو أحكاماً قاسية طويلة الأمد، وكل ذلك تماشياً ـ لا قناعة ـ مع رضا الحاكم ورغباته وتداخلاته. من هنا فإن الأحكام القاسية أوالتعسفية التي صدرت ولا تزال تصدر بتأثيرات وتدخلات من الحاكم ضد المعتقلين، وبخاصة المنخرطين في نشاطات جهادية أو في الشأن العام قد ولدت عند أولئك العناصر ـ وبخاصة الفئات الأولي ـ شعوراً بالتهميش والإقصاء من الدولة، وعزز لديهم سلوك طريق العنف تحت أي مبرر أو مسوغ.


ثانياً ـ البيئة والعوامل الخارجية والعنف في السعودية

البيئة الخارجية وعواملها وصلتها بالعنف في السعودية ترتبط أساساً ببعديْ السياسات الأمريكية في المنطقة العربية، وبالعلاقات السعودية الأمريكية وما يتصل بهما من تداخل، بما في ذلك ما يمكن تسميته بالتحالف السعودي ـ الأمريكي أو التبعية السعودية للولايات المتحدة الأمريكية من منظور مختلف، وتداخل كل من هذين البعدين في البعد الداخلي، في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وعلي محور بنية الدولة والسلطة فيهما.

أ ـ مرحلة ما قبل عام 2001 ـ يمكن القول دون تفصيل إن هناك عدة عناصر ولدت تلك البيئة وتداخلها مع البيئة السعودية وعواملها، وكان لها أثر واضح في اندلاع العنف بداية ثم تطوره وتصاعده في المرحلة الثالثة من تلك العناصر، وهي ذات صلة قوية بالعلاقات السعودية ـ الأمريكية وبالسياسات السعودية في المنطقة:

ـ أزمة الخليج الثانية 1990 ـ 1991ودخول القوات الأمريكية الأراضي السعودية واستخدامها إياها في الحرب علي العراق عام 1991 م، ثم لاحقاً ما بين عامي 1991 و 2003 لشن الضربات الجوية وتطبيق منطقتي الحظر الجوي وبالذات في جنوب العراق، وكذلك في تطبيق الحصار القاتل علي الشعب العراقي.. وقد تم ذلك كله بموافقة أو بغض النظر من السلطات السعودية، ولكن دون موافقة شعبية، بل كان هناك عدم رضا، وبخاصة بعد انتهاء العمليات العسكرية في 1991م، واستمرار القوات والطائرات الأمريكية باستخدام القواعد العسكرية لشن الضربات الجوية ضد العراق، وتطبيق الحصار عليه. ذلك الحصار الذي دام أكثر من اثنتي عشرة سنة، وقتلت فيه مئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ كان محل استياء واضح من قبل الشعب، حيث إن إخوانهم وأشقاءهم في العراق يقتلون ويحاصرون دون ذنب، وفي محاولة لإخضاع العراق والمنطقة وبمساهمة عربية، بما فيها مساهمة من بلدانهم ودولهم تجاه العمليات الأمريكية في العراق.

ـ في الوقت نفسه استمرت السياسات الأمريكية الداعمة لإسرائيل دبلوماسياً وعسكرياً ومالياً وتقنياً. وتلك السياسات تدعم ممارسة مصادرة الحقوق الفلسطينية من خلال قصف الأراضي وقتل الفلسطينيين وهدم المنازل، وقلع الأشجار، وكلها كانت محل غضب متزايد من قبل الشعوب العربية بما في ذلك الشعب السعودي. هذا الغضب بدأ يتزايد أيضاً مع محاولة السياسات الأمريكية سواء في العراق أو في دعم إسرائيل إخضاع المنطقة عن طريق اتفاقيات التسوية سواء تعلق الأمر بأوسلو أو بدول عربية، وبمزيد من الترتيبات الاقتصادية (مشروع الشرق أوسطية وشمال أفريقيا) منذ عام 1994 فصاعداً والذي رغم أنه توقف عام 1996 فإنه كان ينظر إليه علي أنه امتداد لمشروع شمعون بيريس (الشرق الأوسط الجديد) الذي طرح منذ أوائل التسعينيات من القرن العشرين، وبعد ضرب وتدمير القوة العراقية، وارتكز علي أربعة أسس أو قوي، تبدأ كلها بحرف {M} وهي : the Four M's

ـ السوق (المنطقة العربية) Market

ـ المال الخليجي (العربي) Money

ـ العقل اليهودي Mind

ـ اليد العاملة البشرية العربية Men

ويلاحظ أن الذي يدير هو العقل اليهودي، وأن له الهيمنة، ومعادلتها علي النحو التالي:

New Middle East = 4M's (Market +Money + Mind+Man

ومن ثم فقد ولدت السياسات الأمريكية في المنطقة بما انطوت عليه من هيمنة وإخضاع وما يترافق معها من إذلال ومآس في العراق وفلسطين غضباً عارماً لدي الشعوب العربية ومنها الشعب في السعودية الذي بدأت عناصر فيه، بما في ذلك عناصر متصلة بالقاعدة، بالقيام بأولي عمليات العنف في عام 1995 في الرياض، ثم بالخبر عام 1996م ضد الوجود العسكري الأجنبي في السعودية. ثم مع توالي الأحداث منذ 1998 تفجيرات نيروبي ودار السلام وما نتج عنها من ضرب أفغانستان والسودان في آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) 1998م، ثم الضربات الصاروخية للعراق في كانون الأول (ديسمبر) 1998م ولمدة ثلاثة أيام متواصلة وفي أثناء أيام رمضان الأولي، وما تلا ذلك من محاولة غزو العراق (1999 ـ 2000م) وعلي خلفية امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، وعودة مفتشي الأسلحة، وتفتيش حتي القصور الرئاسية في العراق، وما ارتبط بتلك الأزمة من إهانات للشعب العربي عموماً، بما في ذلك أبناء السعودية الذين نظروا إلي تلك السياسات الأمريكية في العراق ليس فقط علي أنها إهانة للعراقيين وحدهم، وإنما لهم أيضاً. من هنا بدأت مشاعر من التعاطف في السعودية تتكون وتتعاظم مع أسامة بن لادن والقاعدة وأفغانستان والعراق والمقاومة الفلسطينية بكافة فصائلها ومنها حماس والجهاد. وبعدها تأتي الانتفاضة الفلسطينية في أيلول (سبتمبر) 2000 علي خلفية التعسف الصهيوني وتدنيس القدس الشريف والمقدسات، وما يعقب ذلك من عمليات مقاومة فلسطينية، والإرهاب الإسرائيلي المتواصل ضد البشر والشجر والحجروكل مناحي الحياة.. وفي ضوء ذلك ينطلق المزيد من المشاعر المعادية للولايات المتحدة وإسرائيل في البلاد العربية، وتنطلق مظاهرات شعبية منددة بالاحتلال الإسرائيلي بما في ذلك في السعودية في كل من الجوف والظهران والقطيف، وقليل منها في الرياض (بنات جامعة الملك سعود) وجدة.

ب ـ مرحلة ما بعد 2001 : إذا كانت مرحلة ما قبل عام 2001 م قد هيأت تلك الأرضية من المشاعر المعادية للسياسات الأمريكية في المنطقة، سواء تعلق الأمر بالعراق أو فلسطين، ومن خلالهما بمحاولة فرض الهيمنة الأمريكية علي المنطقة، فإن أحداث 11/9/2001 م والتي هي انعكاس لتلك السياسات أو رد عليها، وما أسفرت عنه من هجمات قاتلة علي مفاصل القوة المادية الاقتصادية والمالية الأمريكية هيأت المزيد من السياسات المتشددة والعدوانية الأمريكية تجاه البلدان العربية والإسلامية علي خلفية مشاركة الأشخاص التسعة عشر في تلك الهجمات، وهم من العرب والأكثرية منهم من السعودية تحديداً. من هنا أتي ما سمي بـ الحرب الأمريكية علي الإرهاب، والمقصود بالإرهاب هو العربي الإسلامي، وبالذات تلك الجماعات الجهادية، ومن أبرزها عناصر القاعدة في كل مكان، وخصوصاً في أفغانستان. وستكون السعودية ساحة جديدة لتلك الحملة الأمريكية علي ما سمي بالإرهاب، ولكن بطريقة مباشرة وعن طريق فرض مزيد من الاستجابة الرسمية السعودية للطلبات الأمريكية في هذه السياقات. تلك الحرب الأمريكية علي الإرهاب كان ينظر إليها إسلامياً وعربياً، وتحديداً شعبياً، علي أنها حملة صليبية جديدة. أو لم يقلها الرئيس الأمريكي الابن حتي لو قيل إنها زلة لسان، أو أنه لا يقصد معانيها ودلالاتها التاريخية؟

تلك الحملة الأمريكية علي الإرهاب شملت التالي:

أ ـ غزو أفغانستان في تشرين الأول (اكتوبر) 2001 واحتلاله وتدمير حركة وحكومة طالبان وتشتيت عناصر القاعدة واعتقال مئات من العرب الأفغان في معتقل غوانتنامو، وإن لم تستطع القضاء أوالقبض علي أبرز قياداتها ومنها أسامة بن لادن والظواهري.

ب ـ غزو واحتلال العراق في آذار (مارس) ـ نيسان (أبريل) 2003 وتدمير الدولة العراقية ومؤسساتها ونظامها والإطاحة بها علي مرأي من القيادات العربية وشعوبها.

ج ـ أثناء ذلك كله كانت هناك خطوات لمحاصرة التحويلات المالية والتبرعات للعناصر والمنظمات الجهادية، بما في ذلك حركات المقاومة الفلسطينية (حماس والجهاد) ومصادرة الأرصدة والأموال باعتبارها إرهابية. وشملت أيضاً الجمعيات الخيرية الإسلامية والعربية التي كانت تنشط في المشاريع والإغاثة الإسلامية لعدد من البلدان الإسلامية وفي بعض دول الأقليات، واعتقال كثير من العرب والمسلمين في أمريكا وفي أوروبا. كذلك كانت هناك ضغوط في تلك المجالات في معظم البلاد العربية في قضايا التعليم ومناهجه، وتبادل المعلومات حول العناصر الناشطة في الجهاد في أفغانستان أو الشيشان أو العراق أوجنوب شرق آسيا، بمن فيهم العناصر في السعودية.

د ـ في ثنايا تلك الإجراءات والحروب العدوانية الأمريكية كانت الجرائم الصهيونية في فلسطين علي قدم وساق، وقد وصلت إلي تدمير البني التحتية للسلطة الفلسطينية وعناصرها الأمنية وحصار رئيسها عرفات وفرض تغييرات إجبارية علي هيكلة السلطة الفلسطينية. وقد تم جزء كبير منها أمام الرؤساء والملوك العرب في قمة بيروت في آذار (مارس) 2002 التي قدمت السعودية فيها مبادرة التطبيع مع إسرائيل : السلام مقابل الأرض، والتي تبنتها القمة لتصبح مبادرة عربية، وكل ذلك نتيجة استجابة لضغط الإدارة الأمريكية. وقد استمرت الممارسات القمعية الوحشية الصهيونية ضد الأهل والأراضي والممتلكات في فلسطين وبمباركة أمريكية منذ ذلك الوقت (2002) حتي الآن (2004) ولا تزال متواصلة، وفي ظل حكومات دول عربية خاضعة للخارج وسيدة علي الداخل. وهذا وذاك أصل البلاء والداء.

وفي سياق ذلك كله، وبما يتصل بالمجتمع في السعودية وعلاقاته في السلطة، كان المجتمع في قطاعات غير قليلة منه غاضباً علي ما تم في أفغانستان والعراق وبخاصة استخدام القواعد والأراضي السعودية لتنفيذ بعض من أجزاء تلك الحروب والغزوات والاحتلال. كل ذلك مثل ضربة لكثير من الناس في مشاعرهم تجاه حكومتهم وخضوعها للرغبات الأمريكية، وبالتالي تولد لديهم مزيد من الشعور بفقدان الدولة لسيادتها ومشروعيتها، وبخاصة من الزاوية الدينية الإسلامية، إذ كيف تقبل دولة وحكومة تعلن عن نفسها أنها عربية مسلمة بضرب بلد إسلامي، ثم بضرب بلد عربي مجاور؟ هذا فضلاً عن منع السلطات الدينية في السعودية ممثلة في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أئمة المساجد من القيام بدعاء القنوت ضد أمريكا في حربها علي كل من أفغانستان والعراق، والدعوة للأفغان والمجاهدين وكذلك للعراقيين بالنصر ضد الغزاة.

إضافة إلي ذلك فإن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السعودية ضد الجمعيات الخيرية والتبرعات المالية وجمعها وتوزيعها وبمراقبة مستشارين أمريكيين في البنوك، وبخاصة ما يتصل بقضايا تتصل بالجهاد ومنها ما يتعلق بفلسطين، وكذلك إقفال جمعيات خيرية، والتعديل في المناهج التعليمية حسب الرغبة والمطالب والضغوط الأمريكية، والتنسيق المعلوماتي مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن عناصر ومواطنين قد يكون لهم صلة بالنشاطات الجهادية السابقة، وصولاً إلي مزيد من التنسيق الاستخباري في ملاحظة ومطاردة تلك العناصر واعتقالها.. وقد تتطور الأيام لتكشف وجود قوة مهام مشتركة في هذه التنسيقات(5)، كل ذلك أشعل مزيداً من المشاعر الغاضبة لدي قطاعات من المجتمع ضد الوجود الأمريكي، وكذلك ضد تحالفات الدولة السعودية أو انصياعها للضغوط الأمريكية سواء ما تعلق الأمر منها بأفغانستان أو العراق أو فلسطين، بما في ذلك ما يتصل بـ مبادرة التطبيع أو الإجراءات التي اتخذتها منذ نهاية عام 2001م فصاعداً في سياق الحملة الأمريكية علي الإرهاب. ولهذا ينفجر العنف أو الإرهاب بداية في الجوف (بمقتل الدكتور حمد الوردي في 17/2/2003 م) ولكنه يأخذ البدايات الحقيقية له بتفجيرات الرياض في 12 أيار (مايو) 2003 م وما بعدها ليطال أماكن عديدة في الرياض والقصيم والمدينة وجدة ومكة والجوف والرياض، وبعض هذه المدن تتكرر فيها أحداث العنف أو الإرهاب أكثر من مرة.

ويمتد العنف إلي المراكز النفطية في كل من ينبع ثم الخبر، وقبلها بضرب دائرة الأمن السعودية، ثم يتجه إلي قتل الأفراد الأجانب أو اختطافهم وقتلهم.ويبدو أن الهدف من ضرب تلك الأماكن الحيوية واختطاف الأفراد وقتلهم هو ضرب المقومات الاقتصادية للدولة وعلاقتها بالمستثمرين والعاملين الأجانب بمن في ذلك العاملون في قطاعات ذات صلة بالأمن أو الجيش أو الحرس الوطني. والهدف هو محاولة الضغط علي الأجانب ودولهم لسحب رعاياهم، وبالتالي تحييد الصراع بين السلطة وبين أهل العنف أو الإرهاب، وإذا كان الأمر كذلك فإن السلطات السعودية سوف تقوم أيضاً وبمساعدة أمريكية ـ أقلها معلوماتية ـ وإن كان هناك إعلان بعد ضرب دائرة الأمن، بتشكيل قوة مهام مشتركة.

وهذه السياسات الأمنية التعاونية ستزيد، وقد تولد مزيداً من التعبئة لعناصر إضافية، وبخاصة في سياق النظر إلي تلك القوة المشتركة (قوة المهام المشتركة) علي أنها تعطي لأهل العنف الإرهاب ـ في نظر فئات اجتماعية مفترضة عليها ـ مشروعية مقاومة الوجود الأمريكي في السعودية، وكذلك ضد تحالف السلطة مع الأمريكيين في هذه الحرب والحملة علي الإرهاب أو العنف. من هنا فإن هناك خوفاً من أن دائرة العنف أو العنف المضاد وبغض النظر عن مبرراته ومسوغاته ومشروعيته أو عدم مشروعيته، ستزداد يوماً بعد آخر لتصل إلي مرحلة الصراع الاجتماعي المفتوح (الحرب الأهلية).

هذا الاحتمال الأخير يتوقف علي أمور منها مدي الدعم المجتمعي للعنف أو الإرهاب وأهله، وكذلك علي مسألة الحلول التي يمكن أن تتبناها الدولة لمواجهة العنف علي الإرهاب وعناصره، وهل ستكون حلولاً أمنية فقط أم تكون هناك حلول سلمية مدنية إصلاحية. وقبل الوصول إلي مسألة العلاقة بين العنف والإصلاح نود فقط الإشارة سريعاً إلي مسألة الدعم أو التأييد الشعبي للعنف وأهله وعناصره. فقبل تفجيرات أيار (مايو) 2003 وفي ما يخص القاعدة، وبخاصة أثناء حرب وغزو أفغانستان، وأيضاً في سياق الحرب والغزو الأمريكي للعراق فإن هناك تأييداً ملحوظاً من قبل فئات وقطاعات غير قليلة من المجتمع في السعودية للقاعدة وزعيمها أسامة بن لادن.

وهذا التأييد أو الدعم لا يعنيان بالضرورة أن الناس المتعاطفين يقبلون بكل معتقدات وتوجهات القاعدة ورموزها، ولكن التأييد والتعاطف يندفع تحت عنوان أن تلك الحركة وقيادتها وعناصرها وخلاياها تقوم بأعمال فيها مقاومة للسياسة الأمريكية والصهيونية في المنطقة العربية والإسلامية. ولذلك ليس غريباً أن يكون هناك أكثر من 70 بالمئة من الكويتيين يتعاطفون مع القاعدة في سياستها المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية، فكيف إذاً بالسعوديين، والذين تشير بعض التقارير الاستخبارية إلي أن أكثر من 80 بالمئة منهم يؤيدون القاعدة في حربها ومقاومتها للسياسات الأمريكية في المنطقة. ولذلك فإننا نتذكر، وهذا ما يقع في تلك النسبة، أنه أثناء الحرب والغزو الأمريكي لأفغانستان، وكذلك ما بين عامي 2001 و 2002 كانت صور بن لادن تبث بشكل مكثف بين الجوالات في السعودية. طبعاً مع بداية انفجارات الرياض في 12 أيار (مايو) 2003 فصاعداً، وبخاصة مع تضاعف التفجيرات في مجمع المحيا بالرياض ثم في دائرة الأمن، ثم في اختطاف وقتل بعض الغربيين، فإنه من المؤكد أن هناك انخفاضاً في نسبة التأييد لتلك العناصر الفاعلة في العنف أو الإرهاب، وهناك أيضاً عدم اتفاق أو موافقة أعداد متزايدة من الشعب بقبول بعض منها علي الأقل.

ومع ذلك تبقي البيئة الداخلية كما أشرنا إليها وتقاطعها مع البيئة الخارجية وبالذات في سياق الاستبداد الداخلي وممارساته الداخلية، وكذلك في سياق تقاطعاته مع الخارج الأمريكي حاسمة في توليد العنف. وذلك كله يعني أن تلك البيئة واختلالاتها هي التي تعمل علي تفريخ عناصر إضافية لجماعة وعناصر العنف، بل ان الاعتقالات المتزايدة منذ عام 2001 م فصاعداً، وبخاصة عامي 2003 و 2004 م، والتي تجاوزت الآلاف سواء في سياق الاعتقال، أو التحفظ المؤقت ـ وبما يتضمنه من تجاوزات أمنية بما في ذلك استمرار الانتهاكات لحقوق المتهم ـ تعني أن هناك نسبة من المجتمع وفئاته تشكل مخزوناً فيه قدر من الالتزام بالانخراط في تلك العمليات (العنف أو الإرهاب) وليس فقط التعاطف، وذلك المخزون يمكن أن يقدر تقريباً ما بين 10 آلاف إلي 40 ألفاً ممن لديهم القابلية للانخراط بالعنف وبتلك الجماعات.


ثالثا ـ في العنف والاصلاح الدستوري

المحور الأخير في هذه الورقة يتناول العلاقة بين العنف والإصلاح، وهل أهل العنف أو الإرهاب يطالبون بالاصلاح، وهل لديهم أصلاً مشروع اصلاحي؟ وهل المخرج من العنف هو باتباع السياسات الأمنية الصارمة، أم ماذا؟

توصلنا في مناقشة وتحليل عوامل العنف إلي ان الاستبداد وهو أصل الداء والبلاء، وأن منتجاته وفروعه في الاختلالات في السياسات والممارسات الحكومية، وفي كافة المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بدرجة أكبر، وكذلك في تحالفاته وتقاطعاته مع البيئة الخارجية (الولايات المتحدة الأمريكيـة) وتجاهل استشارة الشعب وموافقته، وفي غياب آليات المحاسبة الدستورية.

وبناء علي ذلك يمكن اختصار متغيرات العنف عن طريق المعادلة التالية:

الاستبداد (والممارسات وكذلك في التحالفات الخارجية) = الجهل والتجهيل + الفقر والإفقار + القمع والكبت والإقصاء والتهميش = العنف. وهذه المعادلة لا تنفي ولا تلغي دور أهل العنف في تلك الدائرة من العنف والعنف المضاد. ولذلك من مخاطر تواصل العنف والعنف المضاد أن يتحول إلي دائرة عبثية تهلك الحرث والنسل الأخضر واليابس، وبخاصة في احتمالات تحولها إلي حرب أو صراع اجتماعي مفتوح، وهذا أمر وارد في ضوء:

أولاً، استمرار خلل السياسات الرسمية نفسه.

ثانياً، في احتمال فشل الإدارة الأمريكية في العراق، وكذلك عدم ولوج الإصلاح في السعودية.

طبعاً إن أهل العنف لا يطالبون أصلاً بالإصلاح، وليس لديهم مشروع إصلاحي، ولذلك فإن هناك مسؤولين وكتاباً وباحثين يستغربون الربط ما بين الإصلاح و العنف. المشكلة في هذا الفهم هي أنهم يعتقدون أن هناك عدداً من أهل العنف، فإذا ما تم قتلهم أو اعتقالهم فسوف ينتهي الأمر. وهذا يعني أن أولئك لا ينظرون إلي البيئة المولدة والداعمة للعنف أو الإرهاب وأهله. البيئة المولدة ـ كما قلنا ـ هي تلك البيئة السعودية في طبيعتها وانغلاقها وبصفة أساسية في بيئة الدولة ـ السلطة، في الاستبداد والسياسات الحكومية والممارسات المتولدة عنه، والتي لا تزال كما هي لم تتغير، منذ ما بعد عام 2001 وحتي أوائل عام 2004 حيث تتواصل أسس ومقومات وعناصر تلك السياسات الحكومية وبنيتها أصلاً، ألا وهي السلطة المطلقة والاستبداد.

إن الاتجاهات الرسمية والسياسات الحكومية لا تزال تري أن بإمكانها معالجة العنف أو الإرهاب من خلال سياسة أمنية صارمة تتم فيها ملاحقة ومطاردة وقتل واعتقال العناصرالذين يبدو عددهم للجهات الرسمية عدداً محدداً، وفي سياق تعاون أمني ومعلوماتي، وحتي في سياق تشكيل قوة مهام مشتركة سعودية ـ أمريكية أعلنت مؤخراً.إضافة إلي ذلك، فقد صدرت مبادرة جديدة تتضمن إصدار عفو عن أولئك من العناصر المشاركة أو المرتبطة بأهل العنف، والذين لم يتورطوا في أعمال قتل، ولم يقبض عليهم حتي الآن، إذا سلموا أنفسهم خلال شهر من تاريخ صدور القرار. وجاء في خطاب الأمير عبد الله الذي ألقاه نيابة عن الملك فهد بهذا الشأن: لذلك فإننا نعلن وللمرة الأخيرة بأننا نفتح باب العفو والرجوع للحق وتحكيم الشرع الحنيف لكل من خرج عن طريق الحق وارتكب جرماً باسم الدين وما هو إلا الفساد في الأرض، ولكل من ينتمي إلي تلك الفئة التي ظلمت نفسها ممن لم يقبض عليهم في عمليات الإرهاب فرصة الرجوع إلي الله ومراجعة أنفسهم، فمن أقر بذلك وقام بتسليم نفسه طائعاً مختاراً، في فترة أقصاها شهر من تاريخ هذا الخطاب فإنه آمن بأمان الله علي نفسه، وسيعامل وفق شرع الله في ما يتعلق بحقوق الغير(6).

ولنا ملاحظات علي ماتقدم هي:

1 ـ بالنسبة الي السياسات الأمنية الصارمة، فإننا لا نعتقد أنها هي الحل، بل لن تكون الحل، ذلك أن العنف يولد العنف. إضافة إلي ذلك فهناك اعتقاد خاطئ لدي بعض المسؤولين وغيرهم أن أولئك العناصر المنخرطة في أعمال العنف أو الإرهاب محدودة العدد ويمكن استئصالها بإلقاء القبض عليهم أو قتلهم أو بالاعتقالات المكثفة. وهذه فكرة خاطئة، ذلك أن هؤلاء أصلاً إنما تقدمهم البيئة، والبيئة لم تتغير بعد. ولذلك كما أشرنا سابقاً، فإن تلك السياسات الأمنية الصارمة ستولد أو تدفع بذلك المخزون من العناصر التي لديها القابلية للانخراط فعلاً. فوق هذا وذاك فإن مزيداً من التعاون الأمني السعودي ـ الأمريكي سواء في سياق تبادل المعلومات أو في أطر جديدة بالإعلان عن إنشاء قوة مهام مشتركة لمحاربة الإرهاب في السعودية يعني مزيداً من صب الزيت علي النار، وهذا قد يكون كارثياً في ضوء خروج أمريكا من العراق مهزومة من المقاومة العراقية والتي تضم فيها عناصر عربية ولربما سعودية. كل ذلك قد يوفر مقومات ومسوغات إضافية لصراع اجتماعي مفتوح محتمل في السعودية.

2 ـ بالنسبة إلي العفو، فرغم أنه خطوة جيدة إلا أن فيه قدراً من الغموض وعدم الوضوح، ذلك أن العفو مشروط، وقد تترتب عليه محاكمات وأحكام طويلة المدي. والأفضل لو أصدر عفواً صريحاً بإنهاء القضايا وتعليقها، وأن تحدد فترة حبس محددة معلنة. إضافة إلي ذلك، فإن تلك الخطوة علي كونها خطوة جيدة، لا يمكن لها أن تفي بالغرض دونما إصلاح، وإصلاح حقيقي.

إن المخرج الصحيح هو ولوج الإصلاح الدستوري الذي يدخل المواطن إلي دائرة السلطة، فيحد من الاستبداد، ويقضي علي الاختلالات في كافة المجالات، ويؤكد الحقوق والحريات العامة ويصونها من خلال فصل السلطات، وسلطة نيابية منتخبة (مجلس شوري ملزم) لها سلطات رقابية ومحاسبية، يتيح للمواطن الحق في المشاركة في القرارات وصنع السياسات. إضافة إلي ضمان وجود سلطة قضائية مستقلة بتمكينها من خلال إجراءات وهياكل ومعايير لتستطيع المساهمة في توفير العدالة والمساواة والكرامة وحفظ الحقوق والحريات للأفراد،علي أن تكون السلطة القضائية مستقلة من خلال تلك المعايير والإجراءات والهياكل وفي سياق فصل السلطات ذات الصلاحيات الرقابية ضمن آلية وهياكل الدستور، والذي لا بد لكي تصبح له روح أن يصوت عليه شعبياً.

هذا الإصلاح الدستوري سيولد بيئة جديدة يمكن من خلالها امتصاص تلك الاختلالات في كافة المجالات وإعادة الاعتبار للمواطن من خلال إقامة العدل وضمان الحقوق والحريات والكرامة والحق في المشاركة والتعبير. هذه البيئة الدستورية والتي تعني حكومة دستورية ذات سلطات غير مطلقة، وفي سياق محاسبة ومراقبة ومشاركة شعبية علي مستوي مؤسسات السلطة،وبخاصة النيابية (مجلس الشوري المنتخب الملزم) وعلي مستوي المشاركة والمساهمة في تشكيل جمعيات المجتمع الأهلي المدني في كافة المجالات ليتاح للمواطن الانخراط في تلك الجمعيات والاتحادات والإفصاح عن رغباته وآرائه. فإذا وصلنا إلي سلطة مقيدة، حكومة دستورية، بإصلاح دستوري نستطيع أن نلغي عوامل العنف ومكوناته ودعائمه وحوافزه في كافة المجالات، بما في ذلك تصحيح العلاقة بين الدولة والخارج علي أسس تنطلق من مصالح الشعب وحقوقه وكرامته، عبر مشاركة المواطن في السياسات، بما فيها السياسة الخارجية للدولة، وبالتالي إنهاء سلبيات الممارسات الحكومية داخلياً وسلبيات تحالفها خارجياً باعتبارها (أي السلطة المقيدة) ضوابط شعبية (إرادة ومشاركة شعبية ورقابة علي تلك السياسات).

عندها يمكن أن تتولد أولاً شرعية جديدة وصلبة للدولة والأسرة تقوم علي تعاقد بين المجتمع والسلطة الأسرة، يضمن حقوق المجتمع وحرياته، ويوفر الفرص للأسرة لممارسة الحكم في السلطة بالمشاركة أو الشراكة الدستورية مع الشعب أو من يمثله. وثانياً، في تلك البيئة نستطيع أن نلغي الاختلالات، وأن نجفف بطريقة سليمة هادئة مصادر العنف وأسبابه. وبالتالي فإنه مع الوقت ومع تحقق تلك الإصلاحات علي الأرض فإننا سوف نجد أن تلك العناصر المنخرطة في العنف قد أخذت تتقلص بشكل كبير، وبدأت تتلاشي فعلياً، ذلك أن الدعم والمخزون القابل للعطاء ينتهي.

وفي سياق الإصلاحات الدستورية لا يمنع من اتباع السياسات الأمنية الموازية، ولكن بطريقة تقلل من الإقصاء والتهميش المباشر، بما في ذلك حقوق المتهم، وفي الوقت نفسه تركز علي الحلول الإصلاحية السلمية الدستورية لتوفير الأمن من خلال إدخال المواطن في صلب العملية السياسية لكي يشعر أنه بالفعل جزء من السلطة، وأن السلطة جزء منه. عندها فقط يمكن لنا أن نخرج من دائرة العنف. أما أية طريقة غير ذلك فإنها قد تطيل العنف وتزيده وتفجره إلي صراع اجتماعي مفتوح (حرب أهلية)، والتي يخشي في حالة اندلاعها من أن تولد آثاراً أكبر في الدولة والمجتمع، كما أن الدول الكبري، ومنها الولايات المتحدة، قد ترفع يدها عن الوضع حتي يثبت. وعندها قد تقرر التدخل في الوقت المناسب.

إن التأخر في دخول عملية الإصلاح الدستوري في الوقت الحاضر ومع احتمال اندلاع صراع اجتماعي مفتوح سيعقد مهمة الحكومة مستقبلاً ويجعلها أكثر صعوبة، إذ سوف يعتبر عرضها لو تم مستقبلاً أمراً غير مقبول من قوي الاعتراض والعنف إذا ما أصبح لديها اليد الطولي في الساحة.

الصفحة السابقة