عمليات التنظيم الجهادي في السعودية

بين المفعول الاعلامي والمقتل السياسي

ربما كان اقتحام القنصلية الاميركية في جدة والتي أطلق عليها التنظيم الجهادي في الجزيرة العربية التابع لتنظيم القاعدة عملية الفلوجة مراهنة أخيرة على استعادة الوهج الذي خمد لفترات طويلة، بعد سلسلة ضربات قاصمة تعرض لها التنظيم بعد عمليات عسكرية نوعية.. وربما كان اختيار القنصلية الاميركية كموقع استراتيجي وفي بعده الاعلامي المتميز محاولة يائسة من أجل استعراض القوة واثبات الذات بعد انشطارات واسعة في أنوية التنظيم وتخلخل واضح في العمود الفقري للجماعات المسلّحة..

إن ما يثير الانتباه هذه المرة، أن صورة العمليات المسلّحة التي تقوم بها الجماعة الجهادية داخل السعودية بدأت تتكشف بجلاء بأنها تنزع نحو تسجيل حضوراعلامي فحسب وليس تحقيق أغراض سياسية محددة. إذ ليس اختيار القنصلية الاميركية بجدة وبالطريقة البهلوانية التي قامت بها الجماعة المسلّحة عن طريق اختراق كافة الحواجز الأمنية خارج وداخل السفارة سوى تعبير عن استعداد للقيام بعمل استعراضي يحقق الضجيج الاعلامي المنشود.

فهذا العمل يأتي بعد صمت طويل نسبياً وبعد ملاحقة مفتوحة لفلول الجماعة الجهادية في مناطق عديدة من المملكة، وهو ما أرادت الجماعة أن تعيد بناء مخيالها الاعلامي عبر عمل نوعي، قد لا يعكس بالضرورة قوة في الجماعة ولكن ينبىء عن حاجتها الشديدة لتأكيد الحضور، والحضور المدوّي أيضاً.

وبدون شك، إن نتائج عملية جدة كانت من الناحية العسكرية المباشرة جاءت لصالح الجماعة المسلّحة خصوصاً وأن أفرادها نجحوا في اختراق الحاجز الأمني وتسجيل نقطة ضد البنية الأمنية المحلية، بل كشفت العملية عن هشاشة التدابير الامنية المحيطة بالسفارة وربما هذا ما دفع الى استبدال جهاز الحراسة السعودي بقوات من المارينز الاميركي التي وجّهت رسالة ضمنية شديدة الوقع والقسوة الى الاجهزة الامنية السعودية. مع التذكير بأن مشاركة عضو سابق في هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل بأن بعضهم عملوا في أجهزة الأمن يجعل العملية ذات مغزى خاص بالنسبة للأميركيين الذين باتوا شديدي الحذر في التعامل مع أجهزة الامن السعودية، حيث أصبح ينظر اليها باعتبارها مخترقة من قبل التنظيم الجهادي.

وعلى أية حال، ومهما كانت نتيجة العملية من الناحية العسكرية فإن الجماعة المسلّحة وجّهت ضربة قاسية للنظام الأمني السعودي، رغم أن هدف العملية لم يتجاوز شكله الاعلامي، ومع ذلك فقد فتحت العملية ثقباً جديداً في جدار الامن.

من ناحية أخرى، إن هذه العملية تؤكد مرة أخرى بأن الجماعة المسلّحة تمتلك أجندة عسكرية غير منظّمة وغير موجّهة سياسياً. وبالرغم من أن هذه العملية قد تبدو الوحيدة منذ فترة بعيدة التي تشكّل فعلاً مستقلاً أي انها لم تكن قائمة على أساس رد فعل، وان جاءت في سياق مطاردات متوالية وملاحقات في الخفاء، الا أن هذه العملية لم تكن مصمّمة لتحقيق غرض سياسي محدد. فهذه الجماعة باتت منغمسة في اعمال عسكرية مبعثرة، قد تبدو لأول وهلة ذات منزع ايديولوجي باعتبارها تأتي تحت عنوان (تطهير الجزيرة العربية من المشركين) الا أن حقيقة الأمر تبدو غير ذلك تماماً، فإن ما تعكسه هذه العملية لا يلبي هدفاً من هذا القبيل.

إن عقد الارتباط الوثيق بين العمل الجهادي داخل السعودية ونظيره في العراق يأتي في إطار الرغبة نحو الاستقواء المعنوي بعد أن خسرت الجماعة المسلّحة جزءا من رصيدها المعنوي وانشطار الانوية التنظيمية، ولكن الرسالة السياسية للداخل باتت مبهمة بل وأحياناً ممقوته.. وفي الواقع ان المفعول الاعلامي القوي قد ينتهي الى مقتل سياسي أحياناً، فليس كل عمل عسكري تقوم به الجماعة يستهدف غاية سياسية محددة بقدر ما ينجز نصراً إعلامياً.

ربما كانت لعمليات الجماعة المسلّحة خطوط سياسية عريضة تدفع بها لتوجيه عملياتها وتقديم شروحات ايديولوجية عليها قبل وبعد انجاز أي عملية عسكرية، خصوصاً بعد أن كانت الحكومة تقوم بحملة اعلامية مضادة من أجل إجهاض نشوة الانتصار لدى الجماعة، وهذا ما دفع بالجماعة الجهادية لتبرير عملياتها وتقديم ردود على حملات الحكومة، الا أن هذه العملية وعمليات صغيرة متفرقة في انحاء المملكة تم تنفيذها خلال الشهور السالفة، أفقرت الجماعة سياسياً، خصوصاً مع استسلام بعض اعضائها وايضاً دخول عدد من الناشطين السلفيين على الخط مع الحكومة وتشويهاً لصورة الجماعات الجهادية.

وبلا شك، فإن اندحار بعض الجماعات المسلّحة في العراق قد ترك تأثيرات واضحة على حركة الجماعات المسلّحة في السعودية. إن تصريح الزرقاوي اليائس بأن علماء الدين خذلوا المقاومة وآثروا حب الدنيا على دعم المجاهدين لا شك يلقى صدى لدى الجماعة الجهادية في السعودية أيضاً، فقد عبّروا عن مرارة الخذلان الذي لقوه من علماء الدين في الداخل، بعد أن كانوا يتطلعون الى وقوف بعضهم على الأقل ممن كان يلهب وسائل الاعلام الشعبي بخطابات جهادية مناهضة للمشركين، وينادي بصورة غير مباشرة الى مقاومة اهل الشرك والضلال ويبث الفتاوى الداعية الى إعلان البراءة بكافة الوسائل من ملة الكفر وبالأخص الأميركيين والغرب عموماً.. كل هؤلاء أو جلّهم تراجع او انطوى على نفسه تاركاً من وقعوا تحت تأثير خطابهم التحريضي في مواجهة قدرهم فرادى..

تعيش الجماعة المسلّحة الآن دون غطاء ايديولوجي او بالأحرى شرعي، بعد أن كانت تحظى بدعم من قبل بعض المشايخ غير الرسميين والمعروفين بمواقفهم الدينية المتشددة، وهذا ما دفع بالجماعة لانتاج ايديولوجيين من باطنها، يضطلعون بتصميم الرؤية الكونية للجماعة المسلّحة ويؤكّدون البعد الديني والشرعي في العمل النضالي العسكري.

لقد خسرت الجماعات المسلّحة نصيراً استراتيجياً وضرورياً حين تراجع المحرّضون الأوائل وصانعوا الخطاب التحريضي الجهادي، وبالتالي خسروا أيضاً قاعدة شعبية من وراء انسحاب المشايخ، والاهم من ذلك أن هذه الجماعات باتت غير محصّنة أمام أي اجراء تقدم عليه الحكومة.. وهذا ما يجعل افراد الجماعات هذه امام خيارين أحلاهما مر: اما الاذعان المهين او الانتحار المميت.

الصفحة السابقة