الانتخابات أم الاصلاح السياسي بين

الممانعة السلفية المتطورة ونفور السلطة

بعد مرور عام على انتكاسة الحكومة في مجال الاصلاح السياسي، والتي بلغت ذروتها بإعتقال ثلة من رموز الاصلاح، والذين لا يزال بعضهم رهن الاعتقال، تبرز أمامنا مشكلات جديدة أفصحت عنها الانتخابات البلدية، وهي تجسّد المزاج السائد في مواقع السلطة، وكانت الانتخابات عاكساً أميناً لميل القوى المتشددة الرافضة للتغيير والاصلاح، وكان للتيار الديني السلفي جولة في تلك الانتخابات بما يترجم سلوكه السياسي ومواقفه إزاء الآخر.

ففي التجربة الانتخابية الاولى التي جرت في الرياض لم يكشف التيار الديني السلفي في شكله المتشدد عن موقفه الصريح، وان كان من حيث المبدأ فهو يمانع من الدخول في عملية تضع المتدين على طريقة السلف على قدم المساواة مع المبتدعة والصوفية والعلمانيين وغيرهم ممن إعتاد عناصر التيار على تصنيفهم في قائمة الخصوم الذين تجب محاربتهم وقطع دابرهم الاجتماعي والسياسي والفكري. ولأن مستوى المنافسة في الرياض كان ضعيفاً تبعاً للاقبال المتواضع على الانتخابات البلدية، فإن التجاذب لم يكن ظاهراً بين التيار السلفي وغيره من القوى الاجتماعية والسياسية المنافسة، فضلاً عن كون الانتخابات البلدية لم تكن تحظى بإهتمام لافت وسط الاهالي، ولا ننسى عزوف كثير من الاصلاحيين والمتطلعين الى رؤية تغييرات جوهرية في نظام الحكم عن الانخراط في عملية محدودة بعد ان كان سقف التوقعات قد بلغ ارتفاعاً عالياً، بفعل النشاط الاصلاحي الذي كانت الرياض مسرحاً له خلال السنتين الماضيتين، اضافة الى وجود عدد من الاصلاحيين من منطقة الرياض داخل المعتقل، مما شكّل ضغطاً نفسياً الى حد ما، حيث كان ينظر عدد كبير من المحسوبين على التيار الاصلاحي بأن المشاركة في الانتخابات البلدية تمثل خروجاً على مبادىء ناضلوا من أجلها ودفع زملاء لهم المعتقل من أجل تحقيقها.

في المنطقة الشرقية كان الوضع مختلفاً، ربما كلياً، ويعود السبب في ذلك الى الاستعدادات الكبيرة التي سبقت الانتخابات البلدية، والحملات الدعائية الانتخابية التي قام بها المرشحون، وهكذا الانفرازات شبه الحادة التي برزت خلال عملية التصويت.. في الواقع، كانت محافظتا الدمام والقطيف بدرجة أساسية والاحساء بدرجة أقل مسارح لتجاذبات داخلية وانقسامات على اساس طائفي وسياسي وإجتماعي.

الممانعة السلفية لا تعني مقاطعة الانتخابات ولكن هي شكل مختلتف لاعادة انتاج الاحتكار والنزعة الاقصائية، حيث تظهر اللهجة السياسية السلفية ممثلة في شعارات وحملات وخطابات الناخبين جنوحاً نحو تطويق العملية السياسية بحيث تكون خاضعة بالكامل للتيار الديني السلفي، ولذلك فهو يشارك في الانتخابات من باب سد الذرائع وأجندة الاولويات ودفع الضرر الأكبر، وليس اعتقاداً منه بشرعية الانتخابات كآلية للحكم والادارة، وإنما هو مجبر للقبول بها حيث لا بديل ناجز يمنحه فرصة المناورة.

لقد أظهر الحضور السلفي في المنطقة الشرقية تميَّزاً كبيراً، والسبب واضح فهذه المنطقة تعتبر خط تماس مع السلفية التقليدية، وبالتالي فإن حملات التعبئة ومستوى المشاركة تكون مضاعفة، كيف وأن العامل الطائفي يمارس فعله التحريضي الشديد. فقد سبق يوم التصويت انتشار شعارات كثيفة توجّه الناخبين للتصويت الى قائمة معدّة سلفاً، حظيت بتزكية المشايخ وأقطاب المؤسسة الدينية، ولاشك أن عنصر التحريض على ما يحلو للتيار السلفي الشعبي أن يطلق عليهم بـ (الروافض) كان بارزاً، فالانتخابات بطبيعتها تفرز الانقسامات الاجتماعية كما تخلق فرصاً عديدة لاستغلالها بطريقة سيئة وتحريضية، لتحقيق أغراض سياسية محددة. ففي بلد يعاني من انقسامات على قاعدة مذهبية وقبلية ومناطقية لا شك أن أية عملية تنافس حر تمنح تلك الانقسامات دفعات قوية للبروز للسطح. وتبدو الانقسامات أشد خطورة في عملية كهذه حين تغيب مؤسسات المجتمع الاهلي التي تمثل بديلاً عن المجتمع التقليدي في سياق صناعة الولاءات والانتماءات الحديثة المهنية والمؤسسية. ومن المؤسف أن ضعف المؤسسات الاهلية أو بالأحرى غياب كثير منها يكرّس الانقسامات التقليدية ويؤجل بدرجة كبيرة وخطيرة فرصة الاندماج من أسفل، أي من خلال انخراط الافراد في مؤسسات حديثة وفق توجهات ومصالح واقعية وواسعة وليس بناء على روابط وانتماءات تقليدية.

من الواضح، أن ما يقال في الادبيات السلفية من تحريض على الجماعات الاخرى المذهبية والسياسية يعاد استعماله في العلن، وخلال حملات الترويج للمرشحين وفي الدعوات للمشاركة في التصويت، وهذا يمثل تجاوزاً فاضحاً لحدود الأدب واللياقة أولاً، لأن من ضرورات التعايش والاحترام المتبادل بين أبناء البلد الواحد النأي عن كل ما يسيء اليهم، وثانياً أن في ذلك استغلالاً قبيحاً للديمقراطية، حيث يتم تحويل العملية الانتخابية الى معركة وتصفية حسابات مذهبية واجتماعية، وهذا بالتأكيد يعمّق الانقسام الداخلي، بينما العملية الانتخابية هي آلية لايصال الخيّرين من أبناء المجتمع الى مواقع القرار المتصل بالمصالح العمومية، وفي الوقت نفسه تحقيق عملية الاندماج بين فئات المجتمع بمختلف توجهاته الفكرية والسياسية.

من المؤسف القول أن الخطاب التقسيمي جرى توظيفه في الانتخابات البلدية وبطريقة ابتزازية لا تنبىء عن رغبة من أي نوع في القبول بمبدأ الانتخابات ولا بنتائجها بقدر ما هي عملية إبتذال للانتخابات لاستغلالها في حملات التعبئة المضادة، فهناك إرادة لتحويل الانتخابات الى وسيلة تحريضية إضافية الى جانب الكتب والمنشورات والخطب الدينية ومجالس الوعظ، فما هو موجود في الكتب يراد الافصاح عنه علانية، من تحريض على المنافسين أو بالأحرى المناوئين اي بحسب القائمة السلفية (الروافض والصوفية والعلمانيين والحداثيين ..الخ)، وهنا تبدو الممانعة في شكلها القبيح بارزة في نزوعها الاقتلاعي والتقويضي من خلال حملات التحريض ضد المرشحين المنافسين وفي الوقت نفسه الانخراط الكثيف في عملية انتخابية هي من حيث المبدأ مرفوضة سلفياً، كون هذه العملية تشترط المساواة بين الموحِّد والمشرك بحسب العقيدة السلفية.

وكما في المنطقة الشرقية، فإن الحملات الدعائية والعملية الانتخابية برمتها ستشهد أشكالاً تحريضية مماثلة في منطقتي الحجاز والجنوب، فالدعوات المتصاعدة من داخل التيار السلفي للمشاركة في الانتخابات البلدية تحمل في طياتها تحريضاً ضد ما يصفهم التيار بـ (الصوفية) والمقصود بهم أهل الحجاز من غير السلفية، ومن هم على غير طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب او المتبدعة (ويقصد بهم الشيعة الاسماعيلية في الجنوب)، حتى لا يفسح المجال أمام الفئات الاخرى المنافسة من الوصول الى مواقع القرار بما يؤسس لمشاركة سياسية شعبية واسعة في صناعات السياسات العامة للبلاد. الحجاز، رغم عدم الاكتراث الواضح من قبل الاهالي بمنجز ضئيل الحجم وقليل الثمرة، بات متأهباً لسجالات قد يضرمها المتشددون في التيار السلفي، فقد بدت الشحناء في شعاراتهم قبل بدء الحملات الانتخابية في الحجاز والجنوب، وهذا يحول دون التأسيس لحالة سياسية صحيّة راهناً ومستقبلاً، بل قد تفيد الحكومة من وضع كهذا في تخريب العملية الاصلاحية وتعويقها.

وهذا يستدرجنا للحديث عن التردد السلطوي في الانتخابات البلدية، فقد بات واضحاً ومنذ بدء الاستعدادات لانتخاب نصف أعضاء المجالس البلدية، بأن الحكومة لم تول إهتماماً كبيراً بالانتخابات البلدية وقد أرادتها أن تكون رسالة سياسة للخارج بعد تراكم الغيوم على سماء المملكة، وكرد فعل على الضغوطات الاوروبية والاميركية على الحكومة السعودية لجهة إجراء إصلاحات سياسية جوهرية. فالعائلة المالكة التي لم تكن راغبة في أن يأت ذلك اليوم الذي تكون فيه مضطرة للتنازل حتى عن جزء ضئيل من سلطتها، تجد نفسها اليوم مكرهة على تقديم فاتورة باهضة لاحتكارها السلطة والثروة لعقود طويلة، فما نبذته بالامس طوعاً قبلته اليوم على كرهٍ، وإن قائمة التنازلات مستمرة بإستمرار تكسير حلقات السلطة.

وبالرغم من مرور عقدين على بدء النشاط الاصلاحي في شكله الشعبي والتنظيمي الا أنه لم يظهر حتى الآن من داخل العائلة المالكة من يتبنى التطلعات الشعبية، فحتى من كانوا بالأمس يحملون راية التغيير والاصلاح من الأمراء، مثل الأمير طلال وأخوته فقد قبلوا بمعادلة القسمة بين السلطة والثروة داخل العائلة المالكة، فيما تنامت القوة المناهضة للتغيير داخل العائلة، فالجناح السديري الذي يعتبر أي عملية إصلاح ستفضي بالضرورة الى تكسير احتكاريته للسلطة والثروة، فإنه قد رسّخ أقدامه داخل السلطة بحيث بات يشكل القوة التعويقية الكبرى للتغيير. فليس هناك من يعوّل عليه داخل الجناح السديري في حمل مبادرة الاصلاح، بل الدليل الثابت حتى الآن ان لا إصلاح حقيقي سيتحقق في ظل هيمنة شبه تامة للجناح السديري على مقدرات الدولة.

ثمة أمل بزغ قبل نحو سنتين منذ أن قدّم ولي العهد نفسه رائداً محتملاً للاصلاح والتغيير، واطلق مبادرات اصلاحية طموحة على مستوى الوطن العربي، وطرحها على القمة العربية، وربما كانت الصورة المبالغة التي صنعها الامير وحاشيته حول دوره كانت الى درجة من التشويه بحيث كانت الصدمة كبيرة حين خضعت تصريحات الامير وصورته وأجندته على محك الاختبار والصدقية، فقد ظهر منذ السادس عشر من مارس 2004 بأن ولي العهد لم يكن كما أراد أن يوحي للداخل والخارج. بل هناك دليل آخر على أن الاصلاح لم يكن تطلعاً حقيقياً لدى الامير، فقد نقل زائروه ومقربون منه والمطلعون على توجهاته السياسية أن الرجل لا يختلف عن أخوانه غير الاشقاء في التمسك الشديد بالسلطة ومناوئة الاصلاح جزئياً كان أم كلياً، فقد صمت صمتاً مطبقاً في قصة الانقلاب على التيار الاصلاحي الوطني وعلى وعوده لهم، بل وصمت إزاء اعتقالهم والتنكيل بهم، وأخيراً صمت عن أفكاره في الاصلاح. نقلت مصادر عديدة أن الامير عبد الله ليس على دراية كافية بالعملية الاصلاحية ومتطلباتها، فهو لا ينظر الى الاصلاح تنازلاً وتقاسماً واشتراكاً في السلطة والثروة، وإنما يعتقد أن الاصلاح ما هو الا شعاراً وخطبة عصماء لا يتلوها إلتزام ورأي لا يعقبه امتثال وفعل.

يظهر مما سبق أن الحليفين التاريخيين الممثلين في التيار الديني والعائلة المالكة هما قوتان كابحتان للتغيير والاصلاح في البلاد. إن تجربة الانتخابات البلدية تكشف النزعة الاقصائية لدى كل منهما، فبينما أظهر التيار السلفي نزوعاً ضارياً نحو الاستئثار بالقرار في مستوياته الدنيا، عن طريق التشنيع على منافسيه والدعوة الى محاربتهم والحيلولة دون وصولهم الى مواقع القرار، فإن العائلة المالكة كانت تتأهب لمحاصرة نتائج العملية الانتخابية وانعكاساتها العملية.

إن الانتخابات كانت محكاً لاختبار النوايا والمواقف والاجندات، وهي كذلك أيضاً، ولكن الأهم في ذلك أن الانتخابات تفضح المسالك غير القويمة للجماعات وللحكومة، من حيث قدرتها على التعاطي الصحيح مع العملية الانتخابية.. ولا شك أن الانتخابات هيأت أجواء لكشف الميولات السياسية الحقيقية بالقدر الذي يسمح باعادة تنظيم الاصطفافات الداخلية خلف قوى معينة.

إن عزوف كثير من الاصلاحيين عن المشاركة فضلاً عن التأييد للانتخابات البلدية كرد فعل على كسر الارادة الشعبية في الاصلاح من قبل وزارة الداخلية مدعومة من قبل الأقطاب الكبار في العائلة المالكة، لا يمنع من إعادة تكتيل القوى الشعبية من أجل مقاومة التيار المناهض للاصلاح والممثل في التيار الديني السلفي المتشدد والعائلة المالكة.. لقد أثبتت الاحداث بأن الاتكال على قوة الشارع وحده الكفيل بتجميع الضغط وفرض الارادة الشعبية على الواقع وإجبار العائلة المالكة على الاستجابة الصادقة والحقيقية لمطالب الاغلبية السكانية واجراء إصلاحات واسعة وشاملة.

الصفحة السابقة