الجيش والسياسة في المملكة العربية السعودية

جيش الإخوان انتهى الى التمرد

تعود أول تجربة لانخراط الجيش في العملية السياسية في السعودية الى جيش ابن سعود، المعروف بإسم الاخوان حيث كان تحت تصرفه 60 ألفاً من الاخوان في أوج الحركة وهي نتيجة 200 مستوطنة بلغت عام 1917 وضمّت زهاء ربع مليون نسمة. فقد أنشأ عبد العزيز عفريتاً إسمه الاخوان، وقد تعاظم خطره عليه بعد معركة تربة في 26 مايو 1919 وهزيمة جيش عبد الله بن الحسن حيث مازالت حمى الحرب تتفاعل في داخلهم، وكانت الحجاز مهددة بالسقوط بعد إنكسار شوكة عبد الله الذي هرب مع نفر من جيشه الى الطائف ولذلك طلب عبد العزيز منهم عدم الاستمرار حتى يواجه بهم تحدي آل الرشيد (ليسي، المملكة، ص 110). ولكن قادة الاخوان الذين تنامت تطلعاتهم السياسية بعد احتلال الحجاز، نظّموا حركة تمرد ضد الملك عبد العزيز الذي واجه خطر تحلل دولته لولا تدخل السلطات الا ستعمارية البريطانية التي أمدّته بالمال والسلاح لاخماد حركة التمرد في جيش ابن سعود.

وقد كان إهتمام الملك عبد العزيز بعد إقامة المملكة منصباً على الحفاظ عليها وتحصينها أمنياً من المخاطر الداخلية والخارجية، وقد استفاد إبن سعود من الثروة النفطية للحصول على الامن بمساعدة بريطانيا ثم الولايات المتحدة الولايات المتحدة وفي إقامة علاقات جوار وأصدقاء عرب معارضين للحكام الهاشميين وبناء قوات مسلحة وبالتالي تحقيق الغرض الأمني.

وفي عام 1930 شُكِّلت أول هيئة عسكرية، لادارة شؤون الجيش، مع زيادة تعداد العسكريين ونمو دور الجيش واتساع وظائفه، وفي عام 1936 تم تقسيم التشكيلات القديمة الى وكالة الدفاع وادارة الشؤون العسكرية وتمت تصفية جميع الهيئات العسكرية غير النظامية ماعدا المقاتلين المجاهدين، وفي هذا الوقت كان الجيش يتألف من: المشاة، المدفعية، الحرس. وبدأت تظهر في الجيش تقسيمات كالفرق والأفواج وفي عام 1945 تحولت وكالة الادفاع الى وزارة الدفاع والطيران.

وتعود نشأة الجيش النظامي السعودي الى فوزي القاوقجي، الذي كان أول رئييس لأركان الجيش السعودي، وقد هرب من لبنان أيام الاحتلال الفرنسي فلجأ الى عبد العزيز. ويبدو أن كثيراً من المناضلين العرب القدامى من الشام والعراق والمغرب لجأوا فترة الاستعمارين الانجليزي والفرنسي الى الجزيرة العربية والتي لم يدر الاستعمار أنظاره إليها فاستفاد عبد العزيز من هذه الطاقات لبناء دولته وإدارتها. (أنظر: فهد الفانك، شيم العرب، الجزء الثاني ص 280). وأسس قاوقجي نواة الجيش السعودي النظامي في جدة، على بقايا عساكر الحجاز وهم يمثِّلون كجيش للحضر فيما يمثل الحرس الوطني البدو. فالجيش السعودي النظامي هو امتداد لجيش الحجاز في الثلاثينات بمساعد ضباط غير سعوديين من العراقيين والباكستانيين، وسبب عدم نجاح هذه النشأة يعود الى قلة العائدات المالية للدولة، ورغبة عبد العزيز في الاعتماد على القوة العسكرية التي توفِّرها القبائل التي ساعدته في إقامة مملكته، إضافة الى غياب الاخطار نتيجة قدوم الاميركيين لبناء قاعدة الظهران، وحاول سعود أن يعيد التجربة بمساعدة المصريين ورغم المعاداة والاختلاف ثم جاءت مبادىء إيزنهاور فحرب اليمن لتضع حداً للتعاون مع القاهرة.

وقد بلغ عدد الجيش في وسط الخمسينيات 17 ألف عنصراً ووضعت خطة توسعته في الولايات المتحدة حيث كان المخطط مصمماً لتشكيل خمسة أفواج (عوضاً عن ثلاثة) يتكون كل منها من ثلاثة آلاف جندي وضابط مزوّدين بالاسلحة الثقيلة والهندسية والمعدات وهيأوا الجيش وسلَّحوه بشكل خاص لخوض الحروب الصحراوية اضافة الى الجيش النظامي هناك فيلق الهجانة على الجمال.

ولكن يلزم القول بأنه حتى عام 1970 لم تبذل الحكومة السعودية مجهوداً كبيراً لتطوير قدراتهم العسكرية وقد كان المعتقد بأن العائلة المالكة مترددة لوضع كثير من القوة بيد العكسريين، وعلى أية حال فإن التاريخ الحديث في المنطقة يقدم تجارب على إزاحة الملكيات من قبل ضباط يسعون للاصلاح. ومن أجل إحباط أي انقلاب عسكري فقد تم تجنيد أبناء القبائل الموالية في الحرس الوطني والذي يحتل مواقع استراتيجية قرب الرياض وجدة والظهران بينما وضع الجيش وسلاح الطيران بعيداً عن التجمعات السكنية وبحيث لا يتوفر الا القليل من الذخيرة ووسائط النقل. ولقد ساعد ذلك على منع القوات المسلحة من التدخل في السياسة. (أنظر وليم كوانت، السعودية في الثمانينات ص 65).

لقد تبدّل هذا النهج بعد الاعتماد على الخدمات العسكرية الاميركية التي وفّرت برنامجاً ضخماً للتحديث والتدريب. فمنذ عام 1951 كانت بعثة للتدريب العسكرية الاميركية (USMTM) تعمل بشكل مستمر وفعال مع القوات المسلحة السعودية وحتى السبعينيات كان الوجود العسكري الاميركي محدوداً من ضباط ومختصين ومدربين اضافة الى 1000 أميركي يعملون في مشاريع دفاعية ولكن سلاح المهندسين الاميركي (US ARMY CROPS) يعمل بنشاط في المملكة منذ 1965 وتولى الاعمال الانشائية حيث بلغت بحلول عام 1980 أكثر من 20 بليون دولار. وفي عام 1978 بلغ تعداد القوات المسلحة السعودية 99 ألف شخص وفي عام 1982 ارتفع الى 116 ألفاً دون حساب سلاح الحدود منهم 58 ألف مشاة و15 ألف في سلاح الطيران و3 آلاف في البحرين و40 ألف في الحرس الوطني. ورغم لجوء العائلة المالكة الى المراهنة على الحرس الوطني كدرع لنظام الحكم ضد محاولات الانقلاب والتمرد العسكري أو الاضطرابات الداخلية الا أن المراهنة بدأت تفقد مبررها حيث أن عملية التحديث الاقتصادي وبرامج توطين البدو قد محيا الولاءات التقليدية التي عززت الروابط المادية بين آل سعود والقبائل، فأبقت فقط على الروابط المالية وبالتالي فإن الحرس الوطني ليس محصنا ضد تسرب رياح المعارضة (الاخوان 1979 مثالاً).

الجيش وهاجس الانقلاب والتمرد

الجيش السعودي: إطار بدون محتوى

كتب السفير العراقي في السعودية في صيف 1955 (أن السلطات السعودية قمعت بشدة حركة عرفت بحركة الضباط الاحرار على غرار حركة الضباط الاحرار في مصر التي أسقطت الملك فاروق في 1952. وكانت الحركة بقيادة الطيار عبد الرحمن الشمراني إضافة الى إثني عشر ضابطاً على الاقل) وتقول أبحاث المخابرات الاميركية (NEA) في بداية عام 1956 (وكانت الحركة تخطط في أبريل/مايو 1955 لاغتيال رئيس الوزراء فيصل ووزراء آخرين، وإجبار الملك على الاستقالة إن لم يتم إغتيال). وقد قرر رجال الحركة تأسيس مجلس قيادة الثورة، ولكن تم إعدامهم، فيما ذكرت تقارير أخرى أن البلاد عاشت حالة الطوارىء وثم انتشار أفراد الحرس الوطني في النقاط الاسترتيجية، وقد اختفى الملك سعود فجأة.

وفي نهاية يناير 1957 زار سعود الولايات المتحد وقد دعم مبدأ إيزنهاور ووعد بتطويره ورعايته في العالم العربي كما وافق على تمديد بقاء القوات الجوية الاميركية في قاعدة الظهران لمدة خمس سنوات، وفي واشنطن التقى سعود بالامير عبد الله الهاشمي واتفق معه على التصدي للايديولوجية الثورية التي يروج له عبد الناصر. ولكن خطة التصدي لم تؤت ثمارها سريعاً، ففي عام 1962 هرب طيارون من القوة الجوية الى مصر خلال المواجهة المصرية السعودية في حرب اليمن وادى الى انهيار القوة الجوية السعودية بكاملها، وقد تعاطف ضباط القوة الجوية الذين كانوا ينوفون عن الاربعين مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر.

وفي يونيو وسبتمبر 1969 جرت محاولة انقلاب قادت الى موجات اعتقالات وتطهيرات لعناصر مدنية وعسكرية وكان الهدف من وراء التدابير الصارمة التي اتخذتها الحكومة هو للتعامل مع عدم الولاء الحقيقي او المشبوه في القوات المسلحة والذي أدى بدوره الى إضعاف عملية تحديث الجيش.

وحتى بداية السبعينيات كان الحجازيون يتعرضون لعصبية مضادة بين المتطوعين للقوات المسلحة أو في ترقيات مراتب الضباط بزعم أن ولاءهم كان مشكوكاً فيه، مما كان يؤخّر برامجاً للدفاع الوطني كانت تعتمد على تطوير القوات المسلحة. وفي عام 1977 تم احباط محاولة انقلاب اضافة عدة حالات فرار لأفراد أو جماعات صغيرة من الضباط، وقد انتشرت شائعات إبان أزمة الخليج الثانية عام 1990ـ 91 حول فرار طيارين سعوديين الى السودان.

وبطبيعة الحال، فإن ظاهرة الانقلابات في آسيا وأفريقيا وأداتها الجيش من أندونيسيا الى المغرب دفعت آل سعود كقوة ناشئة للحذر من قوة العسكر وألا يكون بيدهم التوجيه المباشر لادارة الدولة. يقول ويلتش جرت خلال عشرين عاماً (1958 ـ 1977) في بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية 51 محاولة انقلابية نجح منها 97 وفي بعض البلدان جرى خلال عام واحد أكثر من انقلاب وانقلاب مضاد (1952 مصر)، (1958، 1963، 1968 العراق، (1962 اليمن)، (1958 السودان)، (1961 و1963 سوريا)، (1969 ليبيا)، ومحاولات انقلاب فاشلة في كل من الاردن عام 1957 و المغرب في عامي 1970 و 1971.

وقد تم تطهير الجيش السعودي في تلك الفترة من الضباط المتعاطفين مع مصر عبد الناصر، واحتل الضباط والجنرالات الاميركيين المراكز القيادية فيه، مع التذكير بأن الجيش السعودي لم يتشكّل في فترة استعمارية لأن البلد لم يخضع للاستعمار المباشر. ولكن يبقى القول بأن للجيش خاصيات تجعله مؤهلاً بامتياز لقيادة عمليات قلب أنظمة الحكم واستبدالها، وفي الوقت نفسه تعزيز أركانها، بوصفه مؤسسة منظمة تقوم على الأوامر الصارمة وهكذا المالكة لقوة الضبط والردع.

وقد إعتمدت العائلة المالكة اجراءات وقائية ضد الانقلابات:

1ـ تجاهل الجيش تنموياً (لم تنفق الحكومة على الجيش كثيراً حتى منتصف الستينات).

2 ـ تشكيل قوى عسكرية رديفة (الحرس الوطني، حرس الحدود، الحرس الملكي).

3 ـ إناطة مسؤولية الجيش بأفراد من الاسرة.

وكان من أسباب زيادة التسلح السعودي، رغم عدم إهتمام العائلة المالكة بتنمية الجيش وتدريبه وقيادته:

1 ـ القلق على استقرار نظام الحكم السعودي (مسألة داخلية بالدرجة الاولى) كون الحكومة تعلم يقيناً بعدم قدرتها على الحرب.

2 ـ توفير امكانيات عسكرية هائلة تتناسب وخطة التدخل العسكري الاميركي في الاضطرابات الداخلية والخارجية.

3 ـ دعم ميزان المدفوعات الاميركي الذي كان يعاني من ضائقة مالية منذ السبعينيات وحتى التسعينيات. ويصف نداف سافران الصفقات العسكرية في مايو 1973 بأنها تخفف ضغط المضاربة على الدولار وتساعد ميزان المدفوعات الاميركي الواقع في ضائقة..) (الخليج العربي في مواجهة التحديات، بحث الدكتور عبد الله فهد النفيسي، ميزان القوى في منطقة الخليج العربي ص 172).

وهنك صنوف ثلاثة للجيش وهي: القوات البرية، وهي الأكثر عدداً في القوات المسلحة السعودية وقد بدأ تحديث القوة البرية منذ 1965 إذ تم التخطيط منذ عام 1974 لزيادة حجم الجيش وتوسيعه ليبلغ تعداده 89 ألف رجل بحلول 1995. والقوات البحرية وقد تشكلت عام 1960 بعد توقيع المملكة عام 1974 إتفاقية مع الولايات المتحدة للاشراف على تطوير وتوسيع حجم القوة البحرية، ببناء تسهيلات بحرية وعسكرية في ميناء الجبيل وجدة وقد نجحت السعودية ضمن مشروع الصواري مع فرنسا في بناء قوتها البحرية. والقوة الجويّة تشكلت عام 1931 إذ تم إرسال أول دفعة من الطيارين السعوديين وعددهم 10 للتدريب في ايطاليا في عهد موسيليني عام 1935 بعد غزوه الحبشه. وتأسست أول مدرسة للطيران بعد الحرب العالمية الثانية في الطائف، وتوزعت القوات الجوية السعودية في قاعدة الظهران.. وقد زوّد البريطانيون الملك عبد العزيز في سبتمبر 1930 بأول أربع طائرات من نوع هافيلاند مع طياريها.

النفقات العسكرية السعودية

أين ذهبت مليارات صفقات التسلح؟

تزايدت مخصصات الدفاع والامن من الفترة 1947 ـ 1953 أي من اكتشاف النفط بكميات تجارية بعد الحرب العالمية الثانية وحتى موت ابن سعود. ففي عام 1947 ـ 1948 بلغ الدخل الاجمالي 215 مليون ريالاً منها 81 مليون ريال سعودي (دون الحرس الملكي ومخصصات الرياض والمخصصات النقدية السنوية ووزارة الداخلية والمصروفات الطارئة والمصروفات غير المتوقعة، ومصنع الخرج والادارات). وفي عام 1951 ـ 1952 كان الدخل الاجمالي 490 مليون ريال منها 158 مليون وهذه أيضاً دون المذكور سابقاً. وفي 1952 ـ 1953 كانت الميزانية 758 مليون ريال منها 400 مليون ريال (دون المنح للقبائل، ومخصصات المناطق، ومديرية الامن العام).

في الفترة ما بين 1962 ـ 1972 ظلت مخصصات الدفاع والأمن تحتل ثلث الميزانية العامة للدولة وبقيت كذلك في السنوات اللاحقة، بل بلغت احياناً نسبة تصل الى قرابة نصف الميزانية في بداية الثمانينات. ففي الخطة الخمسية الثالثة 1980 ـ 1985 بلغت مخصصات الدفاع والامن ما يصل الى 100 بليون دولار من أصل 237 بليون دولار إجمالي الموازنة العامة للخطة.

في الخطة الخمسية الاولى (1970 ـ 1975) بلغت النسبة المئوية من الميزانية 21 بالمئة أي 41.3 مليار ريال، وفي الخطة الخمسية الثانية 1975 ـ 1980 بلغت 17 بالمئة أي 78 مليار ريال (23 مليار دولار) من أصل 498 مليار ريال وفي الواقع العملي تم تخصيص اكثر من 35 بالمئة لحاجات الدفاع والامن الوطني.

وبحسب الفترة ما بين 1990 ـ 1995، فقد بلغت قيمة النفقات العسكرية على الجندي السعودي 2000 دولار في مقابل 520 دولار في الولايات المتحدة و243 دولاراً في سوريا و32 دولاراً في الجزائر، وفي 1982 ارتفع المؤشر الى 3500 دولار بينما بقي في الولايات المتحدة على حاله. إن نفقات السعودية على الجيش تشكل 10 ـ 13 بالمئة من الناتج الوطني الاجمالي أي إنها أعلى من أي بلد من بلدان حلف الاطلسي بما فيها الولايات المتحدة.

أظهرت أزمة الخليج الثانية أن الحكومة واجهت أزمة داخلية وهي عدم كفاءة الجيش (رغم ضخامة النفقات العسكرية السعودية) في مواجهة التهديد الخارجي بعد احتلال العراق للكويت مما جعل الرأي العام الداخلي يواجه الحكومة بالنقد اللاذع بشأن الاموال الطائلة المصروفة على الجيش وضعف كيانه.

ولذلك بقيت المؤسسة العسكرية مصدراً للاثراء فحسب وغطاء يتم من ورائه عقد الصفقات الخيالية التي يجني وزير الدفاع وحاشيته المليارات من الدلاورات من مخصصات الدفاع الطائلة، وقد بقيت المؤسسة العسكرية مجرد تكنولوجيا متقدمة ولكن سريعة العطب قليلة الأثر او منزوعة التأثير في الحياة السياسية والمدنية، وبالتالي فإن الدور السياسي للجيش تضاءل الى حد كبير منذ سيطرة الامراء على مفاصله الرئيسية.

الصفحة السابقة