النفط والسياسة

قصة النفط في المملكة بدأت في مطلع الثلاثنيات مع بداية عمليات التنقيب في الصحراء الواقعة في شبه الجزيرة العربية، والتي قامت بها أربع شركات نفطية أميركية: سوكال، تكساكو، اكسون، موبيل.

ففي شتاء 1931 اجتمع ش. كراين الموظف باللجنة الحكومية الاميركية مع ابن سعود في جدة وأسفر عن وصول بعثة جيولوجية صغيرة الى السعودية. وفي ديسمبر 1932 بدأت مباحثات الحكومة السعودية مع ممثلي شركة (سوكال) وهم لورد هاميلتون رئيس الشركة وف. لوميس النائب السابق لوزير خارجية أميركا ووساطة قنصل أمريكا في لندن أ. هالستيد، وقد وضع الجانب السعودي الشروط التالية بعد خبرته من الامتيار الاول: 1) تقوم الحكومة بتأجير المنطقة اللازمة للشركة مقابل أن تدفع الشركة لها مقدماً ما مقداره 5 آلاف جنيه استرليني، 2) تحصل الحكومة على 30 بالمئة من صافي أرباح التنقيب وبيع البترول، 3) تقدم الشركة للحكومة قرضا في حدود 100 ألف جنيه استرليني ذهب.

من الجدير بالاشارة أن المصاعب التي شهدتها المملكة في بداية الثلاثينات على صعيد الموارد المالية بعد الأزمة الاقتصادية العالمية وتناقص حاد في أعداد الحجاج، دفع الملك عبد العزيز الى منح شركة سوكال، امتياز التنقيب عن البترول في بلاده، والتي قدمت ثمن الاجار السنوي مبلغ 35 مليون دولار وقرضاً بقيمة 210 ألف دولار في السنة الاولى و140 ألف في السنة الثانية والتي ساهمت في إنعاش اقتصاد المملكة في الايام اللاحقة. اضافة الى ذلك كان هناك قرضان بقيمة 350 ألف دولار سيعطي كل قرض في حال اكتشاف كميات تجارية من النفط وسيكون السعر 7 دولار للطن الواحد.

وفي 29 مايو 1933 وقع لورد هاملتون مع عبد الله السليمان (توفي 1965) وزير المالية السعودي اتفاقاً يمنح شركة (سوكال) امتيازاً بالبحث والتنقيب عن البترول في مساحة قدرها 932 ألف كم مربع لمدة 66 عاماً، وفي السابع من مايو وقع ابن سعود المرسوم رقم 1135 الذي يعطي لهذا الامتياز ضمانات.(أنظر: ياكوفليف ـ العربية السعودية والغرب ص 15 ـ 16).

وقعت السعودية اتفاقية الامتياز الاولى بين شركة ستاندر اويل اوف كاليفورنيا والمملكة في 29 آيار ـ مايو 1933 وأصبحت سارية المفعول في 14 تموز ـ يوليو 1933 وكانت الشركة تعرف رسمياً بإسم (كاليفورنيا آربيان ستاندرد أويل كومباني) وبعد 11 سنة، أي في 3 جزيان 1944 تبدل إسم الشركة الى آربيان أميركان أويل كومباني (أرامكو) وكانت الاتفاقات الاولى قد أرست إمتيازاً مدته 66 عاماً ابتداءً من 1933 الا أن اتفاقيات المشاركة أبطلت الامتياز الاصلي.

في عهد ابن سعود والملك سعود كانت البلاد بصورة عامة تعاني أوضاعاً اقتصادية متردية لأن المداخيل كانت تصرف على العائلة المالكة وعلى شخص الملك. في الواقع كانت نظرة الملك عبد العزيز وابنه بأن البلاد بما فوقها وتحتها هي ملك خاص وان لهم حق احتكار ثروتها وانفاقها على شؤونهم الخاصة، وهذا ما جعل البلاد تعيش شكلاً من أشكال الاستزبان السياسي كصيغة بدائية للحكم يكون فيها زعيم القبيلة وحده المتصرف الوحيد في موارد الدولة. من جهة أخرى، أن هذه الصيغة السلطوية منحت رئيس الدولة ـ الملك فرصة رسم التخطيط الاقتصادي للدولة وهكذا العلاقات الخارجية، وقد كان النفط هو الحاكم على مجمل المناشط الاقتصادية والسياسية للدولة.

في عام 1936 باعت سوكال نصف امتيازاتها الى شركة تكساكو، الاولى كانت لتحديد موقع النفط وبدء انتاجه والثانية للتسويق والتوزيع. وقد ظهرت شركتان جديدتان هما (كاسوك) و(كالتيكس) اللتين دخلتا الى عالم النفط في السعودية. ويمكن تسجيل عام 1938 كبداية لاكتشاف النفط بكميات تجارية، ومن هنا تبدأ مداخيل النفط وأيضاً تبدأ قصة العلاقات الاستراتيجية بين السعودية والولايات المتحدة الاميركية. فقد بلغت مداخيل النفط في هذا العام 3.2 مليون دولار، الا ان سنوات الحرب العالمية الثانية حالت دون تصاعد كميات الانتاج، حيث تناقصت مداخيل النفط الى (1.2 مليون دولار) وخلال هذه الفترة كان الملك سعود يضغط من أجل الحصول على قروض أميركية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عبر شركة سوكال حيث كانت الولايات المتحدة بعد لم تقتنع حتى ذلك الوقت بإقامة علاقات قوية مع المملكة، رغم محاولات بذلتها شركات النفط في الولايات المتحدة من أجل إقناع الادارة الاميركية بإيلاء إهتمام خاص بالسعودية.

بعد نهاية الحرب العالمية عام 1945 بدأ الانتاج النفطي بكميات تجارية تصل الى 50 ألف برميل، وقد تحلحلت المشكلة الاقتصادية في عام 1946 (10 مليون دولار) 1948 (38 مليون دولار) وفي عام 1950 (57 مليون دولار). وقد كان للاوضاع الاقتصادية خلال الحرب العالمية الثانية دور في تحفيز الادارة الاميركة على تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية مع المملكة، وقد عملت بعض الدوائر الاميركية على إقناع الادارة من أجل استغلال فرص الحرب وتشكيل شبكة تحالف استراتيجي مع السعودية ضمن الرؤية المستقبلية التي صاغتها تلك الدوائر. وكان أربعة من أعضاء الكونجرس عملوا لصالح لوبي أرامكو خلال 1946 ـ 1949، وفي عام 1948 أعلنت لجنة الكونجرس الاميركي أن أرامكو شجعت الحكومة الاميركية على ضمان قرض للعربية السعودية في حدود 99 مليون دولار ووعدت أن تبيع للقوات البحرية الاميركية المسلحة مادة الديزل بسعر 0.4 جولار للبرميل في حين وصل سعر البرميل منه في السوق العالمي آنذاك 1.05 دولاراً للبرميل من مادة الديزل، وكانت تلك إحدى التعبيرات السياسية الهامة للنفط والتي بدأت تأخذ طابع التقليد السياسي المتبع من قبل الحكومة السعودية إزاء الحليف الاميركي، الذي بات ينتظر تلقي عطاءات سخية من النفط السعودي مقابل مواقف سياسية محددة.

في المجال النفطي، زاد الانتاج السعودي من النفط بحلول عام 1950 بنسبة 1000 بالمئة ليتعدي نصف مليون برميل يومياً وفي عام 1958 بلغ المليون ثم تجاوز المليونين عام 1965 وصعد فوق 4 ملايين عام 1971 وبلغت في نهاية عام 1974 8.5 مليون برميل يومياً، وهو الآن يراوح بين هذا الرقم و9 ملايين برميل يومياً، وقد اعلنت السعودية على لسان وزير البترول علي النعيمي مؤخراً بأن السعودية على استعداد لانتاج ما يقرب من 12 مليون برميل يومياً من أجل المحافظة على اسعار معتدلة في سوق النفط العالمية. في شباط فبراير 1983 كان الانتاج السعودي قد انخفض الى حوالي 4 ملايين برميل يومياً بعد أن كان قد بلغ نحو 10 ملايين برميل يومياً في عام 1980. وكانت السعودية تنتج بعد ازمة الخليج 8.5 مليون برميل يومياً لتعويض النقص في الاسواق النفطية بعد توقف النفط العراقي والكويتي.

وقد قدّر احتياطي المملكة من النفط عام 1986 بـ 170 مليار برميل بما يعادل 34 بالمئة من احتياطي منظمة الأوبك البالغ (503) مليار ويعادل (30 بالمئة) من الاحتياطي العالمي عدا دول الكموميكون والصين الذي بلغ نحو 724 مليار برميل لنفس السنة، ويعادل أكثر من 6 أضعاف إحتياطي الولايات المتحدة والبالغ 25 مليار برميل لنفس السنة. (أنظر: تقرير الامين العام السنوي رقم 13، منظمة الاوبك، الصفاة، الكويت 1986 ص 72 ـ 73). وفي حساب آخر، فإن الاحتياطي النفطي للسعودية يتجاوز احتياطي الولايات المتحدة وروسيا وفنزويلا والمكسيك وكندا مجتمعة فهو يصل الى 15 تريليون برميل و85 ألف تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي وهو يكفي لمائة سنة أخرى حسب معدلات الانتاج الجارية. بحلول عام 1991 أصبحت السعودية تمتلك أكبر احتياطي للبترول في العالم ويبلغ 258 مليار برميل. كما أنتجت أكثر من 60 بليون برميل من البترول منذ عام 1938 وفي أول مايو 1939 تم تحويل أول شحنة من البترول السعودي الى الاسواق العالمية وتوقفت مع نشوب الحرب العالمية الثانية ثم تم إستئنافها عام 1943. وقد قدّر إحتياطي النفط في المملكة مع بداية عام 1992 بـنحو 257.842 مليون برميل، الى ما يساوي تقريباً ربع الاحتياطي العالمي المعروف، ومعظم إحتياطي النفط في المملكة يقع في المنطقة الشرقية أو في سواحلها.

في المستوى السياسي، يلزم التذكير دائماً بأن الولايات المتحدة تنظر الى السعودية باعتبارها شريكاً تجارياً بدرجة اولى وهذا ما عكسته مذكرات الرئيس الاميركي روزفلت حيث قال للملك سعود عند لقائه به في ربيع 1945 (إن رئيس الولايات المتحدة الاميركية هو أولاً وقبل كل شي رجل أعمال.. وأنه يولي إهتمامه بصفته رجل أعمال لشبه الجزيرة العربية) (أنظر: ياكوفليف، العربية السعودية والغرب، ص 22). وعليه فإن علاقة الاشتراك المباشر للحكومة الاميركية في أرامكو هي علاقة الدور الذي يقوم به التاجر في رعاية مصالحه الاقتصادية.

باع الإمتياز بثمن بخس

إن معضلة السعوديين فيما يتعلق بسياساتهم النفطية تظهر جانباً من سياسة السعودية الخارجية. إن مصدر الثروة السعودية وما تولده من نفوذ سياسي، يتأتى بدرجة أساسية إن لم يكن وحيدة في بعض الحالات من العائدات النفطية. ولكن الحسابات السياسية تخضع في أغلب الاحيان للمتغيرات الاقتصادية، والمرتبطة بدرجة أساسية بالمتغيرات الحاصلة في مجال النفط. فالمنتج السياسي لدور النفط يخضع بصورة غير مباشرة لحسابات القرار النفطي ومنها: 1ـ انكماش في العرض والطلب، 2ـ المداخيل المطلوبة وحاجة البلد الى عوائد مالية لمواجهة متطلبات داخلية ولتنفيذ خطط إنمائية. فمن الضروري الاشارة الى أن البترول يمثل المصدر الأول والأخير للمال، وقد بلغت نسبة البترول من الصادرات السعودية خلال الفترة 1970 ـ 1982 ما نسبته 100 بالمئة.(أنظر: د. فؤاد حيدر، التنمية والتخلف في الوطن العربي، ص 111)، وقد ارتفعت عوائد النفط في الفترة ما بين 1970 ـ 1980 من 1.2 مليار دولار الى 95 مليار دولار. وفي عام 1946 كانت مداخيل النفط لدى المملكة أقل من 400 مليون دولار في السنة وفي عام 1981 أصبحت هذه المداخيل تقدر بـ 400 مليون دولار في اليوم. في عام 1990 ـ 1991 كانت الصادرات النفطية الغازية السعودية تشكل 91 بالمئة من إجمالي الصادرات، وقد ارتفعت مداخيل النفط السعودية في 1980 ـ 1981 وكانت أسعار البترول في هذه الفترة في أعلى مستوى لها، فيما كان الانتاج السعودية من النفط إرتفع من معدل 8.4 مليون برميل يومياً في فترة 1973 ـ 1979 الى 9.9 مليون برميل يومياً في 1982 ـ 1985، وقد دخلت السعودية في تجربة انخفاض سنوي جاد لمداخيل النفط والتي عكست تخفيضاً في كل من الصادرات والاسعار. فيما تنخفض مداخيل البترول، كان على الحكومة التعاطي مع مدخول الاستثمارات الخارجية، بالقياس الى سقوط معدل الفائدة في العالم وانخفاض حجم الاصول الحكومية. وإن واحدة من المشاكل الرئيسية التي تواجه الحكومة هي الانفاق الجاري والذي أظهر صعوبة التراجع، فهناك تكاليف هائلة تتعلق بالنشاطات الجارية والناشئة عن الاستثمارات المالية لمشارع التنمية في الخدمات الاجتماعية كما في البنية الاساسية الطبيعية، ويبقى الانفاق الدفاعي الموضوع الرئيسي وقد يصبح ربما أكبر يعطي الحكومة السعودية الموقف المتجدد (بعد عام 1990) للتمدد العسكري خدمة الاقتراض المحلي والخارجي وهو أيضاً موضوع اتفاق آخر قد يتنامى في المستقبل في ظل تزايد انفاق الاستثمار الحكومي.

وحتى بداية التسعينيات كانت السعودية واحدة من أكبر 20 اقتصاد في العالم والأكبر في العالم العربي حيث وصل الانتاج القومي الاجمالي نحو 60 مليار جنيه استرليني (أي نحو 100 مليار دولار سنوياً)، ومعدلات معيشية مرتفعة ودخل فرد مرتفع. بكلام آخر لقد زحفت السعودية من الافلاس الى واحدة من اغنى عشرين دولة في العالم في عشرين عام. ففي عام 1980 بلغ إجمالي الانتاج الوطني 100 مليار دولار وهو أعلى من دول عريقة مثل تشيكوسلوفاكيا وجنوب أفريقيا والارجنتين، وأقل بقليل من سويسرا (106 مليار) والسويد (111 مليار). كما أن دخل الفرد الواحد في المملكة بعد أن كان في المرتبة الرابعة بين 171 دولة بمعدل 18.344 دولاراً، وهكذا بالنسبة لعشر أعلى أماكن في الولايات المتحدة والتي يبلغ دخل الفرد فيها 11360 دولاراً. أما الآن فإن دخل الفرد في السعودية فيصل بحسب احصائيات عام 2003 الى 11.068 دولار أي أقل من دخل الفرد في دولة البحرين وهي دولة غير نفطية، حيث يصل دخل الفرد فيها الى 14.852 دولار اما الكويت فدخل الفرد بلغ 16879 دولاراً وقطر 19472 دولاراً اما الامارات العربية المتحدة فتكاد تكون ضعف السعودية حيث يصل دخل الفرد 21719 دولاراً.

3 ـ المشاكل الفنية وعدم كفاءة حقول النفط مما يصعب استثمارها بمعدلات مرتفعة وتلاؤم الاحتياطي مع نسبة 50 بالمئة من الزيت العربي الخفيف، و 50 بالمئة من الزيت المتوسط وحتى الثقيل. وقد حددت الحكومة السعودية مجموع إنتاج (أرامكو) من الزيت العربي الخفيف بـ 65 بالمئة لتتلائم مع تركيبة الاحتياط تلك وضمن إتجاه زيادة انتاج النفط الأثقل من الحقول القريبة من الحدود الكويتية، 4ـ السياسة الداخلية، فكثير من المواطنين يؤيدون انتاجاً نفطياً معتدلاً لا يضرّ بمصالح المملكة والعرب. 5ـ التوقعات في الاسعار والبدائل للنفط بما يشمل نسبة التضخم في المستقبل والاستثمارات الموجودة في الغرب، معدلات الاستهلاك. 6 ـ ضغوطات الأوبك: إن محاولة السعودية إنتاج كميات كبيرة من النفط ولخفض الاسعار تواجه ضغوطات اخرى من قبل أعضاء آخرين فاعلين في الابك مثل ايران وفي وقت سابق العراق.. 7ـ الغاز المصاحب، فالمنشآت الصناعية السعودية تحتاج الى غاز مصاحب بـ (8.5) مليون برميل يومياً، وبالتالي فإنها بحاجة الى هذه الكمية لتمشية معاملها. 8 ـ العلاقات مع الولايات المتحدة، إن الاسلحة والدعم العسكري من أميركا وما أشبه ذات علاقة وثيقة بالسياسة النفطية السعودية تجاه أميركا.

إن النفط بلا ريب هو سلاح سياسي في يد المملكة رغم إنكار الملك الربط بينهما، بدليل ان المملكة التزمت من عام 1974 بإتفاقية طهران وحتى اليوم بمبدأ خفض أسعار النفط لحساب حلفائها، وعادت واستعملته مرة اخرى ولنفس الهدف في السنوات الاخيرة من أجل زيادة الانتاج تلبية لحاجات السوق العالمية وبوجه خاص الاميركية.

كان ومايزال للنفط أيضاً دور سياسي فاعل على المستوى المحلي، فالعائلة المالكة تستعمله في أحيان كثيرة لمواجهة المطالب الاصلاحية وقوى التغيير، كما تستعمله لبسط المزيد من نفوذها. وقد لحظة خلدون النقيب أن الانفاق الحكومي الذي ترتب على ارتفاع الدخل من النفط، لا يعني تعاظم دور الدولة ومركزيته في حياة الناس السياسية فقط، إنما يعني أكثر من ذلك بكثير وأنه يعني اختراق الدولة الكامل للاقتصاد وتالياً بقرطة الاقتصاد (بيروقراطية الاقتصاد) كما يعني تحكم الدولة بالمصدر الاساسي للقوة المادية المتأتية من ملكية موارد البلاد الاقتصادية، ولذلك فتوسع ملكية القطاع العام ليس بهذه البراءة أولاً لأنه يوسع بشكل كبير من دائرة تسلط الدولة. (أنظر: خلدون النقيبب، الدولة التسلطية، ص 153).

بلع إيرادات النفط

إن دور النفط في العلاقات السعودية الاميركية كان جوهرياً فهو الاساس الذي قام عليه التحالف الاستراتيجي بين البلدين وهو الدافع الرئيسي وراء تطوير نوع من الشراكة الحيوية والمصيرية خلال الحرب الباردة. وكان النفط بالنسبة للسعودية ورقة الاقناع الكبرى التي تقدّمها للادارة الاميركية من أجل توفير أشكال الدعم المختلفة للنظام السياسي في المملكة. فالمملكة لم تستفد من الاميركيين في انتاج النفط فحسب بل تطورات الفائدة الى اعتماد المملكة على الاميركيين في الاستفادة من عائدات البترول في تطوير البلاد اقتصادياً وعسكرياً.. لقد عمل استشاريون أميركيون في المملكة في الخطط الخمسية المتتالية بما في ذلك خطة 1981 ـ 1985 حيث بلغت المصروفات الى 250 بليون دولار. وكانت الشركات الاميركية قد ضاعفت نشاطها التجاري مع المملكة في السنوات السابقة وتحديداً بعد الحظر النفطي عام 1973، فقد دخل بنك تشيزمانهاتن الاميركي عام 1974 للتخطيط الاقتصادي السعودي وأعدّ المشاريع التنموية التي يمولها الصندق السعودي للتنمية الصناعية والذي يقع تحت ادارة البنك الاميركي ذاك. تعد الولايات المتحدة المساهم الأكبر في سوق الغذاء وهكذا المزوّد الرئيسي لمعدات النقل والآلات السعودية. وفي عام 1979 وقعت الشركات الاميركية عقوداً غير عسكرية بقيمة 6 مليارات دولار أي بما يعادل 35 بالمئة من القيمة الكلية للعقود. وفوق ذلك، فإن السعودية شكّلت الضامن الحقيقي لاستقرار السوق النفطية واستمرار تدفق النفط للولايات المتحدة في ظروف سياسية متقلبة كالتي شهدتها المنطقة في الحربين الاولى بين العراق وايران والثانية في بعد احتلال الكويت. ففي الثاني من أغسطس 1990 قامت أرامكو بتوجيه من الملك بتعويض معظم النقص الناجم عن احتلال الكويت، والحال نفسه بعد انتصار الثورة الايرانية عام 1979. من الناحية النظرية، فإن رفع سعر البترول بمعدل دولار واحد فقط يضيف الى ايرادات التصدير مقدار 2.500 مليون دولار سنوياً، ولكن رفع الاسعار ستزيد من الضغوط على اقتصاديات الغرب والتي تعد أكبر زبائن النفط السعودي. ولذلك قامت السعودية بتوفير ضمانات الاستقرار في السوق النفطية السعودية، ومنذ تفجر أزمة الكويت، فإن إنتاج النفط الخام في السعودية لم ينخفض عن 8 ملايين برميل يومياً. في اجتماع وزراء النفط في الدول المصدّرة للنفط أوبك قبل الغزو العراقي للكويت حصصت المملكة بنسبة 24 بالمئة من سقف الانتاج لثلاثة عشر دولة في المنطقة. وحين أصدر اجتماع الاوبك بيانه في نهاية يوليو 1990 كان سقف الانتاج قد تمدد عن أقل من 22.5 مليون برميل يومياً أي حوالي 90 بالمئة مما يتوقع أن تطالب به الاوبك في الوصول في هذا الشتاء. وقد صرّح علي النعيمي رئيس شركة أرامكو (وزير البترول السعودي حالياً) بأنه (ليس سراً بأننا لدينا هدف بإنتاج 10 ملايين برميل يومياً من الزيت الخام، ولكن هذا الهدف متحرك..)، ويأتي هذا التصريح في اطار الترتيبات الخاصة التي يجريها عدد من السياسيين السعوديين والاميركيين من أجل اعادة ترميم العلاقات بين البلدين.

إن الحديث عن النفط يلقي بظلاله على دور شركة أرامكو، التي سبقت الدولة في إرساء أسس برامج التحديث في البلاد، ولاشك أنها لعبت دوراً في تحديث المجتمع السعودي عبر البرامج التعليمية منذ أنشأت أول مدرسة ابتدائية للكبار عام 1940 وهكذا تواصل البعثات الدراسية من قبل الشركة ونشاطها في مجال التعليم والرعاية الصحية والتي ربما تجاوزت العرف الاجتماعي في مجال التعليم الذي كان منحصراً في إعداد رجال الدين والمحاكم الشرعية.

بل أكثر من ذلك، أن شركة أرامكو شكّلت أشبه ما يكون بلوبي اقتصادي داخل السعودية، التي يغيب فيها دور النقابات واللوبيات الاقتصادية من شركات أو رجال أعمال على غرار بازار طهران كلوبي قوي ومؤثر في القرار السياسي للدولة، رغم أن الحكومة السعودية شجّعت في فترة الخمسينيات سياسة الاستثمار القومي على نطاق محدود، وأصدرت في 1955 قانوناً يحظر الاستثمارات السعودية في الخارج وبإعادة الأموال الى البلاد لاستخدامها في مشروعات التنمية القومية ولكن لم يؤد ذلك الى خلق طبقة من التجار يمكن أن نسميها لوبي.

في المقابل، تضخم دور العائلة المالكة في النشاط الاقتصادي التي لم تقف حدود نفوذها عند القطاع العام الحكومي فحسب، بل إمتد ليصل للقطاع الخاص، حيث تظهر احصائيات نشرت مؤخراً بأن نسبة عالية من الشركات التجارية في السعودية هي مملوكة لأفراد من الاسرة المالكة أو يتخفى مالكوها الاصليون تحت أسماء أخرى، حيث ترد أسماء أمراء كبار يسيطرون على الشركات الكبرى مثل الامير سلطان، الامير نايف والامير الوليد بن طلال، الامير محمد بن فهد، الامير عبد العزيز بن فهد الامير سعود بن نايف، وغيرهم. وهذا يلفت الى ما تسرّب من أخبار حول عمليات النهب التي طالت مداخيل النفط لعام 2000 والتي بلغت 72 مليار دولار، والارتفاع الملحوظ والقياسي لسعر برميل البترول في السنوات الثلاث الاخيرة حيث كان ينتظر من الحكومة توظيف جزء كبير من الفائض المالي في توفير مشاريع استثمارية جديدة ومعالجة مشكلة البطالة وتسديد جزء من المديونية الداخلية التي بلغت نحو 700 مليار ريال. فيما يبدو أن العائلة المالكة عمدت الى اسلوبها التقليدي في الاستثمار السياسي للعامل النفطي والذي ظهر بجلاء هذا العام حيث كان لارتفاع سعر البترول الأثر الجوهري في العملية السياسية على المستويين المحلي والدولي. فبحسب المعطيات المعروفة فإن السعودية تدخّل في العام 2005 من صادرات النفط ما يربو عن مليار ونصف المليار ريال يومياً، مما منحها قوة تساومية في الداخل والخارج، فهي الآن قد عادت الى ممارسة لعبة العصا والجزرة مرة أخرى، وهكذا ترميم العلاقات مع واشنطن، من أجل العودة الى السياسة من برميل النفط.

الصفحة السابقة