التوازن بين السكان والحاجات الاقتصادية

مع اعلان نتائج الاحصاء السكاني بصورة رسمية تثار القضية الجوهرية حول علاقة الحجم السكاني بالدورة التنموية الشاملة للبلاد، إذ من المستحيل رسم سياسة اقتصادية محكمة في أي بلد دون حساب العامل السكاني بوصفه المحور الذي تدور حوله العملية التنموية الشاملة والذي على ضوئه يتم التخطيط للسياسات الاقتصادية الوطنية.

من الناحية المبدئية، يشكّل السكان إحدى القواعد الرئيسية الثلاث لقيام أي دولة في العالم: الارض، السكان، القوانين. فالسكان هم العمود الفقري والبنية الاساسية في جسم الدولة، ومصدر الثروة والطاقة والعطاء، وبإستبعاد الاطفال والشيوخ والعجزة فإن باقي السكان يطلق عليهم قوة العمل.

لقد شكّلت الاحصائية السكانية مصدر قلق بالنسبة للدولة السعودية منذ نشأتها، وذلك عائد بدرجة أساسية الى سبب أمني في أحد جوانبه حيث العلاقة غير المتكافئة بين السكان والمساحة الجغرافية للدولة، بيد ان تداعيات المشكلة كانت أكبر من ذلك حيث أن غياب احصائية سكانية دقيقة وتفصيلية أدى الى اختلالات عميقة في عملية التخطيط الاقتصادي والتنموي بصورة عامة في البلاد، حيث التوزيع غير المتكافىء للثروة والخدمات بين المناطق، والانتقالات غير المنظمة لقطاعات سكانية، والانثيال العشوائي على المدن ومشكلات أخرى ذات أبعاد اجتماعية وامنية.

وإذا ما نظرنا الى الاحصائيات السكانية الرسمية، فإن احصائية عام 1974 أظهرت أن العدد الاجمالي للسكان في السعودية نحو 7.012.642 مليون منهم 5.128.665 مليون مواطنون. أما في التحقيقات الخاصة بالاحصاء الآخر في عام 1976 فلم تعلن، فلم يكن للأخير وزن ثقيل. وبحسب تقديرات عام 1990 فإن عدد السكان في السعودية قد تم تعديله لعام 1992. وكان تقدير هيئة الامم المتحدة والبنك الدولي لعام 1990 لإجمالي عدد السكان في المملكة بنحو 14 مليون نسمة ويشكل السكان المحليون نحو 9.1 مليون نسمة، وإن أكثر من 50 بالمئة من السكان هم أقل من 15 بالمئة. وبحسب الاحصائية المعلنة مؤخراً، فإن عدد السكان في السعودية قد ظهر أقل مما كان متوقعاً حيث كان اجمالي عدد السكان الاصليين يربو قليلاً فوق الـ 16 مليون نسمة، بينما كانت التقديرات المعلنة لعام 2000 تفيد بأن عدد السكان سيصل الى 19 مليون نسمة، بناء على نسبة نمو سكاني تقدر بـ 3.5 بالمئة.

على أية حال، فإن غياب معلومات موثقة حول حجم وتوزيع السكان السعوديين في السنوات الماضية قد كشف عن معوّق رئيسي للتخطيط الصحيح وأبحاث السوق في كافة المناطق من الخدمات الاقتصادية والاجتماعية. وقد أشارت دراسات عديدة الى أن الحكومة السعودية تعمدت استخدام رقم عال للسكان المحليين، والذي كان يوحي بأنه كبير جداً في سبيل إغراق وتضليل النسبة العالية لغير السعوديين الذين يعيشون في المملكة.

إن السياسات التي اتبعتها الدولة في تقدير الحاجات الاقتصادية للسكان قائمة على أسس غير علمية، ولذلك ما كان لهذه التقديرات أن تنجي الدولة من مشكلات مستقبلية جد خطيرة، حيث أن تركيز النشاط الاقتصادي في مراكز محددة قد أدى الى تفجر مشكلات اقتصادية واجتماعية في مناطق اخرى ظلت مهملة في التخطيط الاقتصادي الوطني.

إن احصائيات وزارات الدولة والمتعلقة بالسكان في سياق التحول الاجتماعي والاقتصادي تبدو ذات طبيعة جدلية الى حد كبير، رغم ما تظهره من تبدّل بنيوي في الدولة والمجتمع. إن مؤشرات وزارة الشؤون البلدية والقروية في بداية عام 1990 تفيد على سبيل المثال بأن 75 بالمئة من سكان السعودية تم توطينهم وأن 22 بالمئة يعيشون في القرى و3 بالمئة هم من الرحّل، ولكن هذا التبدّل لا يلفت الى المشاكل التي صاحبت عمليات التوطين فضلاً عن طبيعة المشكلات التي واجهت ما يقرب من ربع السكان الذين يعيشون في القرى والتي كانت واحدة من تمظهراتها الكارثة المأساوية التي وقعت مؤخراً في منطقة عسير جنوب السعودية حيث ذهب ضحية إهمال وزارة النقل والمواصلات 28 شخصاً بفعل الطرق غير الآمنة التي تكفّلت الوزارة بمدّها وأحدثت فجائع على مدى 25 عاماً، يضاف اليها عشرات الحوادث في مناطق اخرى مثل حرائق المدارس والاختناقات والتصدعات في الطرق والسدود وغيرها، اضافة الى تردي الخدمات الاقتصادية والصحية والتعليمية في العديد من مناطق المملكة.

تفيد الاحصائيات الرسمية بأن وزارة الصحة مسؤولة عن 60 بالمئة من مراكز الرعاية الصحية حسب تقديرات منتصف عام 1990 حيث تدير الوزارة 163 مستشفى و 1.668 مركزاً للرعاية الصحية توظف 57.018 شخصاً. وفي المملكة هناك 85 مستشفى تستوعب 39.500 سريراً، ولكن وراء هذه الارقام المبهرة تكمن مأساة عظيمة في مجال الخدمات الصحية، حيث باتت المستشفيات الحكومية عاجزة عن توفير الحدود الدنيا من متطلبات العلاج للأمراض الشائعة فضلاً عن انعدام كثير من الاصناف الدوائية لأمراض منتشرة في المملكة دع عنك قوائم الانتظار للعمليات الجراحية التي تطول يومياً الامر الذي أعطى فرصة للمستشفيات الخاصة كيما تمارس نشاطاً تجارياً عالي الربحية.

إن الحديث عن التوازن بين الحجم السكاني والحاجات الاقتصادية يفرض نفسه على الخطط الخمسية بوصفها المعتمد في التخطيط التنموي الافتراضي للدولة. فقد كان من أهداف الخطة الخمسية الاولى (1970 ـ 1975) إرساء البنية التحتية للدولة (شق الطرق، بناء المطارات وتشييد المدارس والمستشفيات وبناء المراكز التجارية)، وقد حققت العملية قدراً معقولاً من الاهداف بالرغم من الفساد المالي والاداري المصاحب لهذه الخطة. وقد كانت الحكومة الزبون الأكبر بنسبة 67 بالمئة من كافة فعاليات البناء خلال الخطة الخمسية الاولى مثل الطرق، سكك الحديد، موانىء، مطارات، مواقع عسكرية، وتجهيزات، مستشفيات، مدارس، وجامعات، ومشاريع البيوت السريعة، والمجمعات الحكومية. في القطاع الخاص كانت مجالات البناء محددة في الفيلات والقصور والمجمعات السكنية، والمجمعات التجارية، والسفارات، والفنادق والنبوك.

منشآت نفطية

وكان يفترض في الخطط اللاحقة دعم وتطوير ما تم انجازه في المرحلة اللاحقة الا أن تحوّلاً دراماتيكياً جرى في اهداف المرحلة اللاحقة مما ترك تأثيرات وخيمة على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. فقد تركّزت أهداف الخطة الخمسية الثانية (1975 ـ 1980) على دعم الدفاع والامن الداخلي للمملكة، مع هامش من الاهتمام للحفاظ على معدل مرتفع من النمو الاقتصادي وتخفيض الاعتماد على النفط لتنمية المصادر البشرية، ولرفع معدل المعيشة، وتطوير البنية الاساسية. وقد أبقت الخطتان الخمسيتان الثالثة والرابعة على هذه الاهداف مع اختلاف في الاولويات. فالخطة الخمسية الثالثة أكّدت على الحد من تنامي قوة العمل الوافدة، وتطوير التنمية الزراعية، والصناعية والتنجيم، ولكن ظل التركيز على الدفاع والأمن هدفاً مركزياً يستقطع جزءاً كبيراً من مداخيل الدولة ونفقاتها.

وفيما أعادت الخطة الخمسية الرابعة (1985 ـ 1990) التأكيد على الكفاية والانتاجية، وتطوير التكامل الاقتصادي والاجتماعي داخل دول مجلس التعاون الخليجي بتعزيز الرغبة على تخفيض قوة العمل الاجنبية، ومن ثم التأكيد على اهمية القطاع الخاص في كافة القطاعات الاقتصادية، والتأكيد على الحاجة للعودة التوازن المالي (fiscal balance)، فقد جاءت النتائج عكسية تماماً حيث ظلت قوة العمل الاجنبية تتزايد بصورة اضطرادية، وبقي القطاع الخاص يعمل بمعزل عن خطط الدولة وبرامجها التنموية، فيما كان الدفاع والأمن يستقطع حصة الاسد من موازنة الدولة. ففي وقت كانت فيه البلاد قد دخلت أزمة اقتصادية عكستها العجوزات المتراكمة في الميزانية العامة، الا أن الانفاق الدفاعي للخطة الخمسية الرابعة 1985 ـ 1990 بلغت 735 بليون ريال من أصل 1000 بليون ريال، أي بما يقرب من ثلاثة أرباع الميزانية المخصصة لخمس سنوات.

إن ظروف حرب الخليج الثانية والتكلفة الباهضة المترتبة على المملكة أفضت الى اختلالات بنيوية خطيرة في الاقتصاد الوطني، زائداً النسبة الفائقة للانفاق الدفاعي، حيث بلغت حصة الدفاع في الخطة الخمسية الخامسة 1990 ـ 1995 ما مقداره 255 بليون ريال. وكانت الحكومة أعلنت أن إجمالي الانتاج المحلي الفعلي وصل 7 بالمئة في عامي 1990 و1991 بالنظر الى المصروفات المحلية ذات العلاقة بالحرب، ولذلك إختارت الحكومة تمويل الانفاق العسكري المرتفع من إيداعاتها وعبر البرنامج غير المقرر للاقتراض المحلي والدولي. فقد شمل الاقتراض المباشر من قبل الدولة 4.500 مليون دولار من مصادر خارجية أبرمت في مايو 1991 وقرضاً آخر محلياً بقيمة 2.500 مليون دولار من مصادر محلية في يونيو 1991، يضاف الى ذلك قروض الشركات المدعومة من قبل الحكومة. فمن أجل تخفيض الضغط على مصادر الدولة فقد أعطيت الشركات الحرية للاقتراض مباشرة من مصادر دولية ومحلية وتشمل هذه القروض قرضاً بـ 2 مليار دولار لشركة أرامكو وقرضاً بـ 900 مليون دولار لتمويل الشحن التابع لأرامكو وفيلا وهما بالاقتراض الدولي، وقد وقعت في مارس 1992، كما حصلت كل من سابك وبن زهر وابن سينا على 500 مليون دولار و275 مليون دولار وحصلت شركة (شرق) الشركة البتروكيميائية الشرقية المموّلة من قبل سابك قد حصلت على 275 مليون دولار في خريف 1992. اضافة الى ذلك فقد طلبت كل من (حديد) و(سكيكو غرب) 500 مليون دولار و 1.200 مليون دولار على التوالي قروضاً بالعملة المحلية، وبالمجمل فإن نحو 5 بلايين دولار قد تم الحصول عليها عن طريق العملة الاجنبية والمحلية من قبل شركات مدعومة حكومياً.

تقليدياً، لم يتم اللجوء الى الاقتراض الخارجي في السعودية لتغطية العجوزات في الحساب الجاري ولكن في عام 1991 اقترضت الحكومة السعودية 7 مليارات دولار لتغطية نفقات قوات التحالف في حرب الخليج وهكذا الى بعض دول المنطقة التي ساندت جهود التحالف. ومنذ عام 1988 كانت هناك سياسة حكومية لتمويل العجز في الميزانية من خلال الاقتراض المحلي، وعلى أية حال فإن أزمة الخليج قد تسببت في تخفيض الايداعات الرسمية، وهناك تقييمات أجنبية رسمية ذكرت بأن الايداعات الخارجية السعودية وصلت نحو 55 مليار دولار في نهاية الربع الأول من 1991 وهذا بالمقارنة مع 90 مليار دولار في نهاية 1985 واحتياطي من الذهب في نهاية يوليو انخفض قليلاً بـ 10 مليار دولار بالقياس الى 17 مليار دولار قبل الازمة. وقد كانت المملكة تمتلك احتياطاً نقدياً في عام 1977 يقدر بـ 60 مليار دولار وهي ممتلكات السعودية الخارجية (ذهب، ودائع، استثمارات)، وقد ارتفع المبلغ الى ما يربو عن 90 مليار دولار في نهاية الثمانينات الا أن فاتورة حرب الخليج والانفاق الدفاعي المرتفع أدى الى نضوب الاحتياطي النقدي والذي وصل الى ما يقرب من 5 مليارات دولار عام 1992ـ 1993. وتعرّف الاحتياطات النقدية السعودية في الخارج عادة على أنها الاصول الاجنبية للسيولة الحكومية زائداً الاستثمارات الأخرى الخارجية ويعتقد بأنها تساوي التقديرات الواردة تقرير ساما لموقفها من الوجودات الاجنبية. في مارس 1991 قدّرت ساما الوجودات الاجنبية بنحو 202.8 بليون ريال (54.1 بليون دولار) بانخفاض من كافة الاوقات من 498.5 مليون ريال (145 بليون دولار) في نهاية سبتمبر 1982. وكان هناك تساؤل حول السيولة الاحتياطية الكلية، مع جزء في الاشتراكات في المؤسسات الدولية وجزء منه ربما القروض الى الدول والتي يمكن الحصول عليها بصعوبة بالغة. فقد وصل الاقتراض الخارجي متوسط الأمد في 1991 و 1992 من قبل الحكومة والشركات الحكومية الى 10 بلايين دولار، ولأول مرة يتم تغطية عجوزات الحساب الجاري عن طريق القروض.

على صعيد الموازنة السنوية، فقد بلغت ميزانية عام 1992 ما مقداره 181 ألف مليون ريال وهو حوالي 30 بالمئة أكثر من ميزانية 1990 الا أن الميزانية سجلت عجزاً مقداره 30 ألف مليون ريال، وعلى أية حال، فإن إتفاقاً إضافياً غير مقرر في الميزانية قد أقرّه الملك فهد في مارس عام 1992 بحيث أضاف 3,750 مليون ريال للانفاق والعجز.

للتذكير فحسب، فإن الموازنات العامة واجهت عجزاً متواصلاً منذ أكثر من عقدين. فحتى عام 1981 كان ميزان المدفوعات السعودي متكوناً من الفائض التجاري الهائل لكون قدرة البلد على امتصاص الواردات لم تساو قدرة الصادرات من النفط الخام، ولذلك كان على أية حال هناك عجز كبير في الخدمات تتمثل بصورة ميدانية في مدفوعات الشحن والتأمين على الواردات، والمدفوعات الى الشريك الاميركي لأرامكو والمصروفات الخارجية من قبل كل من الحكومة والقطاع الخاص في العلاج الطبي والتعليم والتمثيل الرسمي والاستشارات وباقي الرسومات.

وفي موازنة 1982/1983 لم تستطع المداخيل أن توازن التقديرات الموضوعة، وفي 1983/1984 كان هناك 35 مليار ريال عجز لأول مرة في تاريخ الدولة السعودية الحديث، وفيما كانت ميزانية 1985/1986 يفترض أن تعادل نحو 200 مليار ريال فقد انتهت الى عجز مقدارة 50 مليار ريال، ولم تصدر ميزانية 1986/1987 في مارس 1986 كما كان مقرراً، ولكن صدرت أخيراً في نهاية ديسمبر لتغطي سنة 1987. وبالمقارنة فإن المداخيل لهذا العام كانت 107 مليار ريال بالمقارنة مع 340 مليار ريال في ميزانية 1981/1982 وخلال هذه الفترة خفضت إنفاقها من 298 بليون ريال الى 160 بليون ريال. وفي 1988 سجّلت الموازنة عجزاً كبيراً ولكن الحكومة إتجهت نحو برنامج الاقتراض المحلي لتغطية جزء أساسي من تناقص المداخيل واستمرت الحكومة في عام 1989 و 1990 في برنامجها لتغطية مصروفاتها المقرر وهكذا عن طريق الضرائب.

ولم تصدر ميزانية عام 1991 بسبب عدم التأكد المحيط بالتغيير الحاصل في تكاليف حرب الخليج، ولكن الارقام الصادرة مع ميزانية 1992 تفيد بأن الانفاق الاجمالي لعام 1991 كانت 262 مليار ريال وقد أقدمت الحكومة على الاقتراض الاجنبي المباشر للمدى المتوسط بحوالي 7 مليارات ريال، أما مداخيل 1992 فبلغت نحو 150 مليار ريال.

الأمير سلطان: شراهة لامحدودة

وقد كانت هناك توقعات بأن إجمالي الناتج المحلي لعام 1992 سيرتفع الى 4 ـ5 بالمئة. وقد ذكرت الاحصاءات المالية الدولية التي نشرت من قبل مؤسسة النقد الدولي في سبتمبر 1992 بأن عجز الحساب الجاري للمملكة والذي يقدر بـ 25.738 مليون دولار عام 1991 يشكل حوالي الربع من الناتج المحلي وهو نتيجة للفواتير العالية لأزمة الخليج وما يترتب عليها، وعلى هذا الأساس كان على الحكومة السعودية توفير 10 مليارات دولار لتمويل العجز. وكانت ميزانية عام 1992 قد أعطت مؤشراً على أن الانفاق الحكومي سيرتفع الى 27 بالمئة بالقياس الى ميزانية 1990 (لم يعلن عن ميزانية 1991) وأن الانفاق الحقيقي ذهب بعيداً عن الرقم المطروح للميزانية بسبب حسابات عاصفة ودرع الصحراء. وقد بلغ التضخم في المملكة عام 1992 نحو خمسة بالمئة بحسب المصادر الرسمية الا ان تقديرات اخرى اشارت الى النسبة كانت تتراوح ما بين 10ـ 12 بالمئة.

وبخلاف التقديرات المتفائلة لمساهمة القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية خلال الخطة الرابعة، فإن الزعم بأن وصول البنية الاساسية للمملكة الى المرحلة النهائية لم يكن سوى طموحاً مثالياً، تماماً كما هي أهداف الخطة الرابعة التي ظلت هي الاخرى مثالية وبخاصة فيما يتعلق بالتبني النظري والتركيز على البرامج والسياسات أكثر من المشاريع والاهداف المحددة.

ورغم التشديد المعبّر على دور القطاع الخاص، فليس هناك بعض المقررات المحددة الجديدة للخصخصة وفي واقع الأمر أن الحكومة أظهرت تراجعاً عن الصناعات الخوصصية، حيث تتطلب أساساً استثماراً جديداً (الهاتف مثالاً بارزاً)، وأن إدراة القطاع الخاص ربما تؤدي الى تحدي النظام الحكومي المعقد في مجال توزيع الدخل وتالياً التمويل المتعارض، ولذلك إستبدلت الطريقة بأن يتم تمويل الشركات الحكومية من الميزانية المركزية لزيادة إستثماراتهم.

في الخطة الخمسية الخامسة كان ثمة ما يلفت الى تغييرات جوهرية في السياسة الاقتصادية للدولة بغرض استدراك الاخطاء والاخطار الناجمة عن المخالفات الكبيرة لأهداف الخطط الخمسية السابقة أو المسار غير القويم الذي إتبعته الدولة في تلبية متطلبات العملية التنموية . لقد بلغت ميزانية الخطة الخمسية الخامسة 386 بليون ريال، تم توفيرها على النحو التالي: (151 بليون ريال من الميزانية المركزية) (35 بليون ريال من مصادر التمويل الخارجية)، و(57 بليون ريال من قبل الشركات الحكومية) و(144 بليون ريال من القطاع الخاص)، وقد حددت بعض أهداف الخطة الخمسية لكل القطاعات وتشمل: توسعة الخدمات التعليمية والصحية وتطوير بعض الطرق الجديدة، وخطط التلفون، وشبكة المياه، وتمديد القدرة الاستيعابية لتوليد الكهرباء بنسبة 25 بالمئة وتنمية الانتاج الزراعي وعدد من المصانع.

كما واصلت السعودية تشريفها لعقود ضخمة طويلة المدى مع شركائها الاميركيين السابقين تكساكو، موبيل، إكسون، شيفرون، ودخلت في عدة إتفاقيات مقايضة طويلة الأمد لبيع النفط، في سبيل تغطية المشتريات العسكرية. وبالمناسبة، فإن الانفاق العسكري المرتفع كان من القضايا الرئيسية في الاقتصاد السعودي، وقد سجّل معدلاً سنوياً يتفاوت ما بين 10 ـ 20 بليون دولار منذ عام 1980، وأن واردات قطع الغيار العسكري تظهر في الاحصاءات التجارية وقد سجّلت حتى عام 1993 بأنها أكثر من 10 بالمئة من فاتورة الايرادات السعودية.

السكان والدورة الصناعية

في بلد يقدر احتياطي النفط فيه بنحو 257.842 مليون برميل أي ما يعادل تقريباً ربع الاحتياطي العالمي المعروف، يفترض دخول سكانه في الدورة الصناعية بصورة شبه تامة كما حصل في البلدان المتقدمة. إن إرساء أسس القطاع الصناعي في المملكة في منتصف السبعينيات كان يمثل بداية تحول اقتصادي، عبّر عنه انشاء شركة الصناعات الاساسية السعودية سابك عام 1976، لتكون الذراع التنفيذي لوزارة الصناعة، حيث كانت سابك تمسك بالمساهمة الحكومية في المناقصات البتروكيميائية في المملكة (ينبع والجبيل).

وكان مؤملاً ان تؤدي هذه البداية الى دخول البلاد في دورة صناعية نشطة. في عام 1990 كان هناك 2.251 معملاً صناعياً مصرحة رسمياً في الخدمة تتمثل في رأس مال مستشمر بنحو 100.6 مليار ريال، وهذه مع عدة آلاف من الشركات غير المصرحة تنتج مشروبات غازية، ومنتوجات ورقية، ومنظفات، وآثاث، ومنتوجات بلاستيكية، وحديد، وصناعات قماشية وغيرها. ومعظم الصناعات الخفيفة في جدة والرياض والدمام، مع أن هناك مجمعات صناعية في القصيم والهفوف ومكة وتبوك وأبها والمدينة وخميس مشيط. وفي السنوات الخمس اللاحقة تم تحويل الكثير من المشاريع الانتاجية الى القطاع الخاص، فيما تم تحويل أغلبها الى مناقصات مشتركة بين المصالح الحكومية والقطاع الخاص في الدول الخليجية الاخرى.

وفي هذا السياق لايمكن اغفال قطاع البناء ودوره في التنمية الاساسية، فقد كان قطاع البناء القوة الرئيسية في الاقتصاد غير النفطي خلال اكثر من عقدين وليس في مجال انتاجها فحسب، وإنما في تكوين متطلبات الانتاج المحلي وصناعات التنمية. وكانت فعاليات البناء من أغلب المناشط الفاعلة في مجال توزيع المصادر الاقتصادية وتزويد فرص العمل في أرجاء المملكة رغم أن قوة العمل في قطاع البناء هي أجنبية. ففي نهاية عام 1986 كان هناك نحو 871.700 وحدة سكنية في المملكة منها 475.700 وحدات سكنية خاصة تم تمويلها بمساعدة القروض من صندوق التنمية العقارية، ومنها 154.374 وحدة كانت في القطاع الخاص، تم تمويلها بشكل خاص، وفي القطاع الخاص 221.600 وحدة تم تمويلها من قبل مؤسسات حكومية مختلفة ووزارات لموظفيهم ومنها 20.026 وحدة بنيت من قبل وزارة الاشغال العامة والاسكان.

غير أن قطاعي الصناعة والبناء لم يحققا تحوّلاً جوهرياً في الدورة التنموية، فقد عجز القطاع الصناعي عن الارتباط العضوي مع القطاع التعليمي باعتباره المزوّد الرئيسي لقوة العمل الوطنية والعاضد الرئيسي للقطاع الصناعي الوطني، فقد بقيت هناك نسبة عالية من المؤهلين للاضطلاع بأدوار ذات طبيعة انتاجية تقوم الجامعات والمراكز العلمية والمعاهد التقنية بتوفيرها من أجل رفد الدورة الصناعية.

لقد أخفقت الدولة في توسيع القاعدة الصناعية وتوزيع مجالاتها بحيث تستوعب المجاميع الكبيرة من الخريجين والافادة منهم في تشغيل ماكينة الصناعة الوطنية والاستغناء بصورة تدريجية عن العمالة الوافدة التي بلغت مستوى خطيراً قدّر بنحو 7 ملايين عاملاً قدموا الى المملكة خلال العقود الاربعة الماضية، في مقابل نسبة بطالة مرتفعة تتراوح ما بين 20 ـ 30 بالمئة. يضاف الى ذلك التركيز الكثيف للمراكز الصناعية بما ترك تأثيرات خطيرة على مستوى النمو في المناطق المهملة وتالياً انعكاسات ذلك على الخدمات الاجتماعية والصحية. إن انعدام التوازن بين التوزيع السكاني والحاجات الاقتصادية يعتبر أحد أشكال لأزمة التي تشهدها البلاد حالياً.

المساعدات الاقتصادية البعد السياسي المتآكل

بطالة في بلد ينتج 14 مليون برميل نفط!

ماهي علاقة المساعدات الاقتصادية الخارجية بموضوعة السكان؟ قد تبدو العلاقة غير مباشرة في الظاهر أو قد توحي بانعدام العلاقة في الأصل، الا أن النظرة الى هذا الأمر من زاوية التخطيط الاقتصادي يجعل العلاقة شديدة الصلة كون الحجم السكاني مرتبطاً بالحاجات الاقتصادية يجعل التفكير في مجمل الدورة المالية الوطنية ضرورياً من اجل الوصول الى حسابات دقيقة، والعودة الى مبدأ المداخيل والنفقات مسنوداً الى الحاجات المحلية أولاً. فهل ثمة ما يربط بين الحاجات الاقتصادية للسكان وحاجات الدولة لصناعة شبكة تحالفات خارجية، مع حساب البعد الانساني لتلك المساعدات. لا يمكن بالطبع افتراض ان المساعدات الاقتصادية الخارجية تقف وراء الازمة الاقتصادية الداخلية التي شهدتها المملكة في العقدين الماضيين، إذ أن ذلك يستبطن إعفاءً لمسؤولية جهات وعوامل أخرى ساهمت بدرجة رئيسية في إحداث تلك الازمة. ولكن، هناك ما يجعل الحديث عن المساعدات الاقتصادية باعتبارها إحدى تعبيرات سوء التخطيط الاقتصادي حيث كان للعامل السياسي والامني دور مركزي في اعتمادها كخيار غير اقتصادي بدرجة أساسية.

تقليدياً، تعد السعودية المتبرع الرئيسي للدول العربية في الخط الامامي، أو ما يعرف تقليدياً بدول الصمود وهكذا منظمة التحرير بموجب اتفاقية الرباط عام 1974 واتفاقية بغداد عام 1978، واستمرت حتى بعد انتهاء صلاحية الاتفاقية الاخيرة في عام 1988، وقد كانت اتفاقية بغداد لمدة عشر سنوات. وفي عام 1974 أنشأت السعودية الصندوق السعودي للتنمية الخاص، وبنهاية عام 1991 قدّم الصندوق بصورة إجمالية 5 بلايين دولار في 277 قرضاً الى 61 بلداً كما أن السعوديين هم مساهمون أساسيون في الصندوق للتنمية الاقتصادية العربية والبنك العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا وصندوق التنمية الاسلامي الذي تملك السعودية 20 بالمئة من أسهمه، كما أن المملكة تعهدت بتقديم تبرع مقداره 2.5 بليون دولار الى صندوق التنمية العربية الجديد الذي تأسس في أعقاب حرب الخليج.

ولسنوات عديدة كانت السعودية المتبرع الأكبر للمساعدات الخارجية رغم ضغوط الميزانية. ففي عام 1989 تسببت ضغوط الميزانية في تخفيض تبرع المملكة بين 3 ـ 5 بالمئة،1 و 1.37 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي، ولكن في عام 1990 ارتفع الرقم الى 3 بالمئة مرة أخرى بحيث أخذت معها المنح وإلغاء الديون والمنح النقدية والتمويلات التي تمت عبر مجموعة التنسيق المالي لأزمة الخليج.

صحيح أن سياسات المساعدة السعودية أعيد تقييمها في ضوء أزمة الخليج والغياب المدرك للعرفان بالجميل في جزء مؤكد من الدول الحاصلة على المساعدات. وكان من المقرر أن يقوم السعوديون بتقديم عروض للمساعدة الضمنية الى الحكومات وستصرّ بدلاً عن ذلك بتمرير مساعدات عبر منظمات غير حكومية، وكان في ذلك مصيدة قاتلة، بعد أن تبين ان المساعدات التي كانت تتدفق من داخل السعودية الى مؤسسات غير حكومية قد تم الافادة منها في تمويل الانشطة الارهابية.

لقد أنفقت الحكومة عشرات المليارات من الدولارت كمساعدات خارجية مقطوعة، بغرض صناعة شبكة تحالفات مع دول مجاورة او بعيدة، دون حساب للتغيرات السياسية المتقلبة، مع الفات الانتباه الى أن المساعدات الاقتصادية كانت تتم عن طريق وسطاء محليين وخارجيين يتقاسمون نسبة من تلك المساعدات. وبدلاً من تخصيص قسم من المساعدات في مشاريع اقتصادية مشتركة بين المملكة والدول المراد مساعدتها، فقد تم اعتماد خيار المساعدات المالية المقطوعة التي كان قسم منها يذهب الى قنوات تفضي في نهاية المطاف الى الوقوع في أيدي جماعات دينية متشددة.

إن تلك المساعدات المالية في حال تقييمها النهائي تركت تأثيرات اقتصادية وخيمة على السكان المحليين من حيث أن جزءا كبيراً من الرأسمال الوطني تبدد دون عوائد سياسية منظورة (وخير مثال أزمة الخليج الثانية)، وثانياً أن بعض الاموال التي ذهبت الى جماعات متشددة أدت الى اهتزاز عنيف للموقف الاقتصادي للدولة من حيث كونها باتت غير مأمونة بالنسبة للاستثمارات الخارجية وكونها أيضاً مسؤولة عن تصدير الارهاب والتشدد.

الصفحة السابقة