ماذا بعد الملك فهد؟

إصلاح الدولة أم رحيلها

سؤال طرحه كاتب بريطاني من صحيفة الفانينشال تايمز في مطلع التسعينيات، وكان سؤالاً استفزازياً في وقته، سيما وأنه طُرح في وقت كان يبزغ نجم الملك فهد إبان أزمة الخليج، حيث بات المتحدث العربي الرسمي بإسم قوات التحالف ضد النظام العراقي البائد.. وكان وصول القوات الاميركية الى السعودية والذي أنهى خطراً محدقاً بالاخيرة، التي كانت الطبقة السياسية الحاكمة فيها مكرهة على التوسل بالصمت عدة أيام بعد احتلال الكويت، فلم يصدر تصريح رسمي إزاء هذا الحدث الكارثي الا بعد مرور ثلاثة أيام، وتحديداً بعد قرار الولايات المتحدة إرسال نصف مليون جندي الى السعودية.

ملك مقعد ودولة مقعدة!

بطبيعة الحال، لم يكن الملك فهد شخصية عادية في تاريخ السعودية، فهو من بين الملوك السعوديين الذي بقي أطول فترة على العرش، وهي ثلاثة وعشرين عاماً، دع عنك الفترة التي سبقتها، حيث كان يلعب دور الملك الفعلي في عهد الملك خالد، وخلال تلك الفترة أسس لمرحلة جديدة يكون فيها ملكاً مطلقاً محاطاً بعصبة سديرية تمسك بمفاصل الدولة الرئيسية.

ربما لم يكن الوفاق بين فيصل وفهد دليلاً مضللاً على لامبالاة الاخير وافراطه في الانشغال بالتسلية الفردية واللهو في عواصم أوروبا، ولكن تجربة الملك فهد في الحكم أثبتت قدرته الفريدة في إحداث أخطر إنقسام داخلي لا يمكن جبره بسهولة. فهذه العصبة السديرية التي مكّنها الملك فهد من مقدرات الدولة وإمكانياتها، والتي أحدثت شرخاً داخل العائلة المالكة لم تكن سوى رأس جبل الثلج العائم، فعلى مستوى أوسع، فإن ثمة تحوّلين بنيويين كانا وراء تعطيل مسار الدولة الحقيقي وإحباط إمكانية نمو وطن للجميع:

التحوّل الاول: تنجيد الدولة

بنظرة متأنية على كافة أجهزة الدولة الكبرى والمتوسطة بدءا من مجلس الوزراء والوزارات والمؤسسات العامة ونزولاً الى المجالس المحلية وحتى المؤسسات الصغيرة التابعة للدولة، سنجد أن العنصر النجدي بات متغلغلاً بدرجة خطيرة، ولا يكاد مجلس إدارة ما في كافة أجهزة الدولة الا وعلى رأسه نجدي، بل إن نسبة التمثيل النجدي في كافة الاجهزة والمؤسسات تصل في بعض الاحيان الى 80 بالمئة.

إن هذه الخطوة التي تطلبت إزاحات متعمدة وإعادة تموقع لأفراد من مناطق وتحدرات قبلية ومذهبية معينة، أفضت الى تحويل نجد القاعدة الكبرى والنهائية للدولة، كما ربطت مصير المجتمع النجدي برمته بمصير العائلة المالكة، وهذا من شأنه صناعة تحالف مصالح فعلي، يجعل من أبناء منطقة نجد مدافعين تلقائيين عن العائلة المالكة باعتبار وجودها ضمانة لاستمرار واستقرار مصالحهم وامتيازاتهم.

إن تنجيد الدولة أحدث دون ريب أكبر وأخطر شرخ في تاريخ الدولة، وتطلب عملاً جبّاراً من أجل تحقيق برنامج إدماجي واسع النطاق وفعّال. فالذين خسروا في مرحلة التنجيد إنما خسروا في مرحلة كانوا في مسيس الحاجة الى الدمج، وحين كانت سياسة الادماج خياراً طوعياً، فإن الخاسرين بالأمس لا يأملون اليوم كثيراً في الاندماج لأن درجة الاحتكار النجدي في الجهاز الدولتي قد بلغت مستويات جد خطيرة ولا يمكن تسويتها بمعالجات ناعمة أو تسويات جزئية.

لم يكن تنجيد الدولة في عهد الملك فهد مفصولاً عن النزعة الاحتكارية لدى العصبة السديرية، فمثل تلك النزعات القائمة على تشقيق الطبقة الحاكمة تتطلب فبركة تحالف أوسع مع فئات تجد في هذه العصبة مصدر حماية لمصالحها، ولذلك، فإن من تحالف من سكان نجد مع العصبة السديرية هم أيضاً يشكّلون نسبة عالية وهي تجد في ارتباطها الحميمي مع العائلة المالكة وبخاصة العصبة السديرية أمراً لا مناص عنه لضرورات مصلحية بدرجة أساسية.

تنجيد الدولة لم يكن سياسة خاصة بالملك فهد بمفرده، فالدولة القائمة على مكونات خاصة تلتقي مجتمعة عند إقليم نجد لا يمكن الا السير وراء خيار التنجيد، ولكن ما يجعل الملك فهد رائداً في هذا الطريق، هو إكتمال تكوين الجهاز البيروقراطي للدولة في عهده، الأمر الذي منحه القدرة على ترسيخ سياسة التنجيد والسياسات التمييزية شبه السافرة ضد المناطق والفئات الاجتماعية الاخرى. بطبيعة الحال، إن انتقال الجهاز الدولتي من الساحل الى الداخل كان يؤذن ببدء إنسحاب السلطة الى الداخل، أو بكلمات أخرى لملمة خيوط اللعبة السياسية والحكم في نجد.

ويلزم الفات الانتباه الى الموقف الشخصي لدى الملك فهد من الحجاز، حيث جعل من إنتزاع كل السلطات والصلاحيات التي كانت في أيدي رجال الحجاز ونقلها الى النجديين. للاشارة فحسب، لقد خسر الحجاز مكاسب سياسية لم يكن بالامكان وقوعها لولا تلك النزعة الشديدة لدى الملك فهد بتجريد الحجاز من كل مصادر القوة، وحتى مشروع التوسعة الذي أسبغ عليه إسمه قد أخفى بداخله نوايا غير طيبة إزاء تراث الحجاز وآثار الاسلام فيه. لقد حاول الملك فهد أن يضفي الصفة النجدية على كثير من معالم الحجاز، في عملية طمس مستهدفة، حتى زالت بعض آثار بيوت النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم واهله بيته الكرام وصحابته الأجلاء رضوان الله تعالى عليهم، ومحيت المراسم التاريخية وضاعت الكنوز العلمية تحت حفريات ودفن مشروع التوسعة.

مهما يكن، فإن سياسة التنجيد في عهد الملك أخذت أبعاداً خطيراً وغير قابلة للتسوية الا بطريقة جراحية دون ضمان لنتائج الحل، فالذين ارتبطوا بمشروع التنجيد ويستمدون منه قوة وقدرة لا يبدو أنهم على استعداد للقبول بالقسمة، ما لم تكن العائلة المالكة على استعداد لمواجهة داخل دارها.

بقاؤه محنة للدولة لا مغنماً لها

في الواقع، أرادت العائلة المالكة تخليق المزيد من الضمانات المستقبلية لاستقرار دولتها، عن طريق ربط مصالح ومصير أكبر عدد ممكن من سكان نجد بها، وجوداً وعدماً. وما يلزم التذكير به، أن الملك فهد تبنى سياسة التنجيد في فترة اهتزازات عنيفة شهدتها البلاد في مطلع الثمانينات، وتحديداً منذ إنتفاضة جهيمان في مكة المكرمة وانتفاضة الشيعة في المنطقة الشرقية. وقد يكون هذان الحدثان منبهين مفزعين على إمكانية انفراط عقد الدولة في الاماكن التي تبدو فيه سيطرة العائلة المالكة ضعيفة، مما يتطلب تحقيق أكبر درجة من الدمج في المركز ـ نجد من أجل صناعة طوق أمام الاخطار المحتملة من المناطق الاخرى، أي تحويل المجتمع النجدي الى جيش شعبي في حال تعرض السلطة الى تهديدات داخلية.

إذن، فما نلحظه في عهد الملك أن سياسة تنجيد واسعة النطاق قد جرى إتباعها من أجل تسوير الدولة، وقد أفضت هذه السياسة الى تعميق الفجوة الداخلية وبخاصة بين نجد وباقي الفئات الاجتماعية المنضوية تحت سلطة الدولة. وقد بات الآن الحل في عداد المستحيلات، إذ ان ما يمكن تسميته بـ (de-najdization)، أي تفكيك السيطرة النجدية على الجهاز البيروقراطي يتطلب دفع أثمان باهضة، وربما تفضي العملية الى مواجهات وخصومات داخلية قد لا تغامر العائلة المالكة في خوضها دون نتائج محسومة في مجال العلاقات الداخلية وفي استقرار السلطة.

التحول الثاني: توهيب الدولة

ثمة إنفجار وهابي وقع منذ بداية الثمانينات، وأخذ أبعاداً خطيراً وبطبيعة إقتلاعية، وكان رد فعل على الثورة الايرانية التي جاءت بشعار تصدير الثورة، لتنشيء نموذجاً للاسلام الثوري مقابل الاسلام الاميركي المحافظ في السعودي. في المحصلة النهائية، وجدت المدرسة السلفية فرصة تاريخية لتحقيق أكبر إنتشار لها محلياً ودولياً. إن التمدد اللامتناهي للتيار الديني السلفي في الداخل والخارج كان يراد منه تحقيق غرض مجابهة النموذج الثوري الايراني، ولكن جنيناً جديداً انعقدت نطفته في تلك المرحلة، وقدر له أن ينمو خارج الرحم الذي ولد فيه ويحمل في جوفه تهديداً خطيراً لمصير الحاضنة الطبيعية.

خلال أقل من عقدين انتشرت الوهابية في أصقاع عديدة من العالم، عبر بناء مئات من المساجد بأموال سعودية، وفتح مراكز دعوية وجمعيات خيرية ذات طابع مزدوج ايديولوجي وسياسي، كما تشكلت تنظيمات تطوّعية تتولت مهمة الترويج للخطاب الديني السلفي المبارك من قبل ملك أميل ما يكون للعلمانية في حدها الانفراطي.

لم تكن الوهابية تمثل مشروعاً دينياً بالنسبة للملك فهد، وليس هو بالذي يُعرف عنه الالتزام بالدين، فالقريب والبعيد لا يكشف سراً عن خلواته الحمراء قبل أن تدهمه جلطة دماغية أفقدته القدرة على مزاولة عاداته السابقة، بما فيها لعبة الورق المفضّلة لديه. الوهابية كانت بالنسبة له جزءا من مشروعه السياسي الاستحواذي، فهو بالتنجيد يصنع سوراً لحماية السلطة وبالوهابية يصنع ايديولوجية لتوفير مشروعيتها، ولاشك ان الدعم المطلق الذي حظيت به الوهابية كان على حساب باقي المكوّنات المذهبية الأخرى التي عانت في ظل تورم الجسد الوهابي من أشكال شتى من القيود والمصادرة للحريات والحقوق الدينية.

موت الملك: التغيير المأمول

يمكن القول بأن نبأ مرض أو موت الملك فهد له وقع خاص، ولفرط أهميته دخل في الحكايات الشعبية والتندرات في المجالس. ومن أشهر ما راج من طرائف حتى إبتكر الناس نعوتات فكاهية على الملك فهد منها (قاهر الجلطات)، لتجاوزه العوارض المرضية التي إنتابته منذ إصابته بالجلطة الدماغية عام 1995، وخروجه سالماً من عوارض الجلطة وتبعاتها وارتداداتها. ومن الطرائف الشعبية المتعلقة بمرض الملك، أن الاخير كان على مأدبة غداء فدخل في نوبة صمت مفاجئة فسأله الحاضرون إن كان الصمت لأمر عارض، فرد عليهم قائلاً: أبداً جلطة وعدّت الحمد لله!

طيلة عقد من الزمان، كان الناس في الداخل والخارج تنتظر خروج السر الالهي، برحيل الملك المقعد. وفي كل مرة يتم الاعلان رسمياً عن دخول الملك الى المستشفى، أو تتسرب أنباء عن تدهور حالته الصحية تبدأ التكهنات والشائعات والطرف بالرواج، وكان الخبر الأكثر إثارة للتعقيبات وقراءة هو خبر وفاة الملك، لأن المنتظرين والمؤمّلين وقوعه يمثلون النسبة الأكبر، لاعتقاد بعضهم بأن الملك بات فاقداً لأهلية الحكم وبالتالي يجب أن يرحل برعاية إلهية، طالما أن التقاليد الملكية لا تسمح منذ تنحية الملك سعود عن العرش بعزل الملك خصوصاً وأن الممانعين لقرار العزل داخل العائلة المالكة يصرّون على إبقاء الملك مقعداً على كرسي الحكم من أجل حفظ المصالح الخاصة. ولاعتقاد بعضهم بأن الملك بات عقبة أمام الاصلاح والتغيير، وأن رحيله سيفضي الى انفراط العقد وإحداث تغيير جوهري في ميزان القوى الداخلية وإن رحيله سيفكّ العقدة التي تحول دون إصلاح الوضع السياسي الداخلي، ولاعتقاد بعض ثالث بأن الملك فهد تسبب في إنحرافات خطيرة في المسار العام للدولة، وإن بقاءه يعني استمرار الانحراف. في المقابل هناك من يأمل بقاء الملك على قيد الحياة فترات أطول من أجل استكمال مسيرة الهدم لأسس الدولة بفعل السياسات الخاطئة التي إتبعها منذ وصوله الى العرش، وقد يبالغ البعض الى حد الدعاء له بالبقاء حتى لا يرحل الا برحيل الدولة السعودية معه.

مهما يكن الموقف، فإن رحيل الملك فهد سوف يخلخل أسس الشراكة القائمة داخل العائلة المالكة وسيدفع الى السطح أزمات مستورة مازالت حبيسة القصور، وليس بقاء الملك على العرش مقعداً وفاقداً لأهلية الحكم الا دليلاً على عمق الازمة غير المحسومة بين أجنحة الحكم المتصارعة.

الصفحة السابقة