السعوديون في العراق

أجساد تحت الطلب

بقيت قضية السعوديين المتسللين الى العراق للانخراط في صفوف ما يوصف بالمقاومة مثار جدل غير رسمي، فيما كانت تصريحات وزير الداخلية، المسؤول الأول عن ملف الأمن تنفي وجود سعوديين يشاركون في صفوف المقاومة وتحت قيادة الزرقاوي في العراق. الا أن الشهر الماضي شهد تطوراً لافتاً بفعل كثافة المعلومات التي تفجّرت في الداخل والخارج بخصوص هذا الموضوع. فاضافة الى ما يربو عن مائة وثلاثين سعودياً تم القاء القبض عليهم في سوريا قبل نحو شهرين والذين تم الاعلان عن خبر اعتقالهم في حينه، فقد جاءت المعلومات اللاحقة لتؤكد خبر تسليم سوريا لعشرات السعوديين الى الرياض.

من اللحيدان الى الحوالي مروراً بالعودة: الجهاد في العراق وحسب!

كيف وصل هؤلاء الى العراق، ومن حرّضهم على الهجرة والجهاد في صفوف التحالف غير المقدس بين بقايا النظام البعثي وجماعة ابو مصعب الزرقاوي، ومن زرع في أذهانهم فكرة التقنبل بشرياً تلبية لإملاء ديني مزعوم؟ أسئلة كانت تطرح في السابق، فيما كانت الاجابة في نهاية المطاف بالنفي المطلق، فلا أجهزة الامن برئاسة الامير نايف تعترف بوجود عمليات تسلل من الحدود الشمالية ولا بوجود سعوديين في العراق وصلوا اليه عن طريق الاردن أو سوريا بوسائل أخرى متنوعة، ولا رجال الدين السلفيين والممتطين صهوة الصحوة الدينية يقرّون بالمضامين التحريضية لبياناتهم والمهندسة لهجرة العشرات من الشباب الذين تم إقناعهم بنقل مخزونهم الجهادي الى خارج الحدود.. فقد كان النفي سيد الموقف على الدوام!

المعلومات التي أصبحت مورد تداول حول عدد السعوديين المنتظمين في صفوف المقاومة العراقية كانت متضاربة ولاشك ان المصادر الرسمية كانت الأحرص على تخفيض العدد لأسباب معلومة، فيما أوصله فارس بن حزام، الصحافي السعودي المهتم بمقضية تنظيم القاعدة في السعودية الى 2500 سعودياً جاءوا الى العراق بين عامي 2002 ـ 2004 وقتل منهم نحو 400 سعودياً. ورغم ما يحيط الرقم من غموض لعدم إمكانية التحقق منه لأسباب فنية بدرجة أولى الا أن الثابت هو أن السعوديين يمثّلون النسبة الأعلى من بين افراد المقاومة العراقية، وكثير منهم يقودون العمليات الانتحارية في شوارع ومدن العراق، ويسجّلون أسماءهم في قوائم القنابل البشرية التي تتفجر وسط الاهالي وفي المناطق العامة وأمام المراكز الحكومية.

أربعة سعوديون، عادوا الشهر الماضي الى منطقة القصيم والتقتهم جريدة الوطن السعودية، كشفوا جانباً من المعلومات حول السعوديين في العراق، وقالوا بأنهم (تعرضوا لإقناع من بعض المتحمسين لفكرة الجهاد، والذين ركزوا خلال أحاديثهم معهم على أن الجهاد فريضة على المسلم، وأن إخوانهم في العراق يحتاجون إلى مساعدتهم والدفاع عنهم)، وقالوا بأن هناك نحو 300 سعودي من أبناء منطقة القصيم وصلوا الى العراق خلال الفترة الماضية. وكشف أحدهم عن وجود عدد من الشبان السعوديين داخل السجون السورية وآخرين داخل السجون العراقية، كانوا قد غادروا السعودية بهدف الجهاد.

سرادقات العزاء التي انعقدت في أنحاء متفرقة من منطقة القصيم ومناطق أخرى شهدت سرادقات عزاء لسعوديين لقوا حتفهم في العراق، تحوّلت الى ظاهرة جديدة تعيد معها إحياء الظاهرة الافغانية التي مازالت آثارها موصولة بحوادث العنف المحلية، فقد بدأت أنباء الضحايا تتوافد على المناطق المصدّرة للشباب الذين نذروا أنفسهم لقضية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، مدفوعين بفتاوى صدرت في لحظة غفلة تسوق الشباب الى محرقة المقاومة بلا طائل، التي أفنت أعماراً في مشروع خاسر وفي قضية لا يعرفون عنها سوى ما أبغلهم عن بعض متناثراتها السطحية خطيب المسجد المحلي أو دهاقنة الافتاء. كثير من القبائل نعتت أبناءها الذين غاب رسمهم وحضر أسمهم في سرادقات العزاء، فالضحايا يعودون كما رحلوا أسماءً مجهولة.

كان دفق الفتاوى والبيانات التحريضية على الجهاد لا يتوقف منذ أن وجد محترفو صناعة الحشد في العراق ساحة لافراغ المجهود التعبوي الذي تراكم منذ عودة الافغان العرب الى ديارهم. فقد بادروا الى اصدار الفتاوى التي تدعو لنقل المعركة من الداخل الى الخارج، وليعقدوا العزم مع وزارة الداخلية على توجيه حراب الجماعات المسّلحة الى وجهة بعيدة عن الديار.

هؤلاء الداهقنة ينكرون اليوم ما أفتوا به بالأمس بعد أن تبين حجم من ساقتهم الفتاوى غير المسؤولة الى جحيم المقاومة، فصاروا يبرؤون مما اقترفت أقلامهم وألسنتهم، فبعد أن وصلت رسالة الدم الى الداخل أعادوا صياغة الفتاوى الصريحة وعمدوا الى تأويلها بما يتناسب وجو الاستنكار السائد، وبعد سقوط المئات من الشباب بعمر الزهور ضحايا الميول البائسة، فقالوا بأن الجهاد فرض على العراقيين وحدهم، بعد أن عبر الآلاف من السعوديين الحدود لينخرطوا في مشروع انتحاري يقوده الدمويون وذوو العاهات النفسية والعقلية من بقايا النظام البعثي السابق أو ممن خضعوا تحت تأثير المخدّر الايديولوجي.

من الطبيعي بل والضروري أن يتساءل الجميع عن غياب فتوى صريحة من فقهاء هذا البلد الذي برعوا في اصدار الفتاوى الصارمة والحاسمة في قضايا تمس أمن الدولة، وهم يرون شباب هذا البلد يزج بهم في أتون معركة خاسرة بحجة الامتثال لمبدأ لم يدركوا أبعاده الشرعية والسياسية والاجتماعية والامنية، سوى أنهم حملوا معهم صكوك مزوّرة بالشهادة في سبيل الله، فتدافعوا في الشوراع العامة، وفي الاحياء السكنية، وفي الاسواق والمراكز الحكومية وغير الحكومية مؤتمرين بأناس لهم غاياتهم الخاصة، وهم خلو من أدنى معلومة عن البلد التي جاءوا يجاهدون على أرضها أو يرفعون راية الجهاد عليها. لقد تعلم هؤلاء المتسللون عبر المنافذ الحدودية البرية والجوية رحلة اللاعودة بعد أن يمزقوا أجسادهم إن لم يخذلهم حظهم العاثر فيقعوا في الأسر دون أن يلقوا شفيعاً يحول دون مصيرهم المجهول كما هو موتهم مجهول الغاية.

هؤلاء الذين مازالوا في صفوف المقاومة العراقية قدّر لهم أن يواصلوا السير في طريق الموت فيما يتولى أمراء الحرب من بقايا النظام السابق أو الذين هربوا من بلدانهم حذر الموت الذي بانتظارهم يسوقون الشباب القادمين من خلف الحدود الى ساحات الوغى غير عابئين بما سيؤول مصير هؤلاء.. تماماً كما ان الذين أصدروا الفتاوى في بلادنا غير عابئين بتبعات الدم النازف من أجساد هؤلاء الضحايا من الشعب العراقي ومن أبناء هذا البلد.

الوهابيون لا يفرقون بين المقاومة وتفجير الحرب الأهلية في العراق

لاشك ان الاصوات المتصاعدة والمنكرة لكل ما صنعته الفتاوى من دماء بريئة قد أجبرت هؤلاء على التخفي وليس التراجع، وها نحن نجد بعد أن إنكشف نصف الغطاء عن مأساة الشباب السعوديين في العراق من ينادي بإصدار فتوى صريحة وواضحة توقف المزيد من سفك الدماء وقطع الرؤوس وتشظي الاجساد البريئة.

صحيح أن الظاهرة الافغانية تختلف كثيراً عن الظاهرة العراقية، ففي الاولى كانت الحكومة والولايات المتحدة ومن ورائهما المؤسسة الدينية وقطاع كبير من المجتمع يشارك في الجهاد الافغاني وإن الذين عادوا الى ديارهم كانوا بالآلاف ممن نقموا على اميركا في ديارهم وانتقموا لذواتهم المخدوعة، ولاشك ان الدائرة ضاقت على هؤلاء المتورطين في الوحل العراقي فإذا عادوا يعودون بخيبة أمل كبيرة فلا مجتمع يأويهم، ولا أوسمة تنتظرهم، بل قد يواجهوا خطراً آخر لا يقل بشاعة عما هم عليه الآن في دخل العراق..

لقد ربط هؤلاء مصيرهم بمصير القضية الخاسرة التي نذروا أنفسهم لها، واذا ما نجحت الحكومة العراقية الحالية في تصفية جيوب المقاومة فلن تجد لهؤلاء راحماً ولا عاذراً، فليس العراق كأفغانستان، بفعل الاقترافات الشنيعة من هؤلاء الساديين الذين لايفرّقون بين الطفل والمرأة والناس الابرياء الذين يطمعون في عيش هنيء وحياة مستقرة، ولأن مصادر الدعم الدولية والرسمية قد نضبت فإن هؤلاء المستدرجين الى مواطن حتفهم يخسرون ليس أوسمة البطولة فحسب بل وحتى مراسم العزاء الاعتيادية التي يقيموها المثكولون على أحبائهم، وللدهقان الديني أن يعيد تشغيل اسطوانة (الغرباء)! الذين يعودون كما الدين بحسب زعمهم غريباً.

إن علماء الدين في السعودية الذين يقفون وراء فتاوى وبيانات التحريض يتحملون مسؤولية إزهاق أرواح هؤلاء الشباب الذين يقتطفهم الموت بصورة مباغتة، موهمين إياهم بأنهم يؤدّون منسكاً عظيماً لا يقدر على حمله سوى الانبياء والصديقين ومن بعدهم الشهداء والصالحين. إن استغلال النص الديني في قضية سياسية معروفة الغايات لا تقل بشاعة عن إقتراف جريمة فصل الرأس عن الجسد على رؤوس الاشهاد، حتى إذا دارت الدائرة على هؤلاء العلماء تنكّبوا من معاقل جهادهم البياني الى حيث يبرؤون بإسم النص الديني ذاته من كل محجمة دم إهرقت بفعل بياناتهم.

إن مصير هؤلاء الآلاف الذين انضموا الى صفوف المقاومة العراقية بكل الخلائط المتنافرة بداخلها، من بعثية دموية الى عصاباتية المخدرات والسرقة، الى راديكالية رديئة، سيظل محفوفاً بمهزلة الدم غير المباح، ولو ظفروا بجلودهم فسيعودون على غير عودة الافغان العرب محمّلين بكل تشوّهات المقاومة العراقية، فكراً وسلوكاً.

إن النزعة الوصائية التي غرسها صانعو البيانات والفتاوى التحريضية في أولئك الشباب تفقدهم القدرة على ترتريب الاولويات وتحرمهم من مجرد الرؤية الصحيحة لمعادلة الصراع الداخلي في العراق، فهؤلاء يتحوّلون الى مجرد قنابل بشرية يرميها الخاسرون من بقية النظام السابق ضد النظام الحالي، فيما تغيب عن أذهانهم الصورة المستقبلية التي يمكن أن تكون عليه في حال تغيرات الظروف الراهنة وبأية اتجاه كانت، فهؤلاء لا يجنون سوى الثمار المرّة آنيّاً ومستقبلاً. ولعل الخلافات المستعلنة بعد إصابة الزرقاوي ورواج البيانات المتناقضة التي تتحدث عن قيادة بديلة تلفت بوضوح الى حدة التجاذبات داخل جماعات المقاومة، وكأنه قد تقرر سلفاً أن يمثّل السعوديون المخزون البشري لامداد العمليات الانتحارية بالاجساد المتنقبلة، فيما يحتكر غيرهم مواقع القيادة، وفي ذلك خدمة جليلة تسديها المقاومة لأجهزة الامن السعودية التي تحقق مكاسب متنوعة، فهي من جهة تتخلص من خطر مستقبلي قد يرتد عليها في حال عودة هؤلاء الى الداخل، ومن جهة ثانية، فإن هؤلاء يفنون حياتهم بغير سلاحها الذي قد يحمّلها تبعات ذلك، الى جانب إنشغال هؤلاء بساحة أخرى يزاولون عليها مهامهم الدينية المزعومة، كالجهاد الذي هو سنام الاسلام الى غير ذلك من الشعارات الاسلامية الكبرى التي جرى تشويهها على يد صانعي الخطاب التحريضي، فللسعودية، شأنها شأن دول الجوار، مآرب معروفة من إبقاء الساحة العراقية مشغولة بمشكلاتها كي لا تترك تجربتها الجديدة تأثيرات ارتدادية على أوضاع هذه الدول.

لقد فعلت البيانات التحريضية المبثوثة على شبكة الانترنت فعلها التدميري على مئات الشباب الذين يتلقون من أشباح فتاوى الجهاد في العراق، فهؤلاء الاشباح يكسرون حاجزاً حقيقياً أو مفتعلاً من خلال تجاوز هيئة الافتاء الرسمية، ولاريب أن لعبة الامن تحقق أكبر إنجازاتها من خلال دفع هؤلاء الاشباح لاصدار فتاوى لا تحمّلهم أدنى مسؤولية كونهم غير محسوبين على الجهاز الحكومي، فهم أبرياء في العلن مما ورّطوا فيه طبقة المفتين غير الرسميين.

إن الذين اعتبروا العراق ساحة جهاد في سبيل الله نكثوا عهودهم ونكصوا على أعقابهم حين حاصرتهم أنباء الضحايا من الشباب المتساقطين تباعاً، أو الذين وقعوا في قبضة الاجهزة الامنية العراقية والسورية، فأخضعوا الجهاد الى قسمة غير عادلة طلباً لابراء الذمة من فتاوى سابقة تحّث على الهجرة والجهاد في العراق، واكتفوا بالجهاد الاعلامي والمالي، ولكن بعد وصول قوافل من المفقودين سلفاً الى داخل العراق.

لقد توّهم معدّو بيانات التحريض وفتاوى الجهاد بأنهم أعلم من العراقيين أنفسهم كيما يشحدوا منهم نصائح في المقاومة وأن يتلقوا مقررات التوجيه الديني، وكأن العراق لم يكن مناوئاً تكوينياً للتدخل الاجنبي حتى يتلقى رجاله دروساً في النضال التحرري ضد القوات الاجنبية. إن المزاوجة غير الشرعية بين الرؤية البعثية المتهافته للتدخل الأجنبي في العراق والرؤية السلفية المتشددة لمجاهدة الكفار والمشركين لا تنتج سوى موقفاً عقيماً وسلوكاً عبثاً يتسم بالدموية والفوضوية، وبالتالي فإن هذه المزاوجة تجرف وعياً مأزوماً تشكّل في ظروف غامضة تصّب في نهاية المطاف في خدمة الخسائر المتراكمة، فالبعث من منطلق فئوي والسلفي من منطلق طائفي يضخّان نقائضهما في مصب مشترك، فالبعثي بتجربته الدموية والعمل السري والاستخباري والسلفي بزخمه الديني وجاهزيته الانتحارية يقودان معركة غير متكافئة والأخطر كونها معركة غير أخلاقية. وتصوّر لو أن هذا المزيج المتضاد إنصبَّ في طواقم العائدين الى ديارهم كيف سيكون سلوكهم، فهؤلاء حملوا معهم أمراض التجربة العشائرية الافغانية بتمظهرها الحزبي ومنهم الى الجيل اللاحق من الشباب الذين هم الآن يتشربون من مصادر عقيمة لا تنجب الا وهماً ولكنها في إرتداداتها القادمة ستكون أشد إيلاماً لأن العائدين تلقوا تدريبات على تدمير الحدود والقيم والمبادىء، وبالتالي فهم لا يتورعون عن إقتراف أبشع الجرائم بقلوب مطمئنة يعمرها الايمان وأعصاب شديدة البرودة لا تهزّها المجازر.

الصفحة السابقة