رايس في الرياض

قضية الإصلاحيين في الدبلوماسية الأميركية

قليلة هي المناسبات العلنية التي يكون فيها الرسمي السعودي في موقع الدفاع عن مواقفه السياسية، وأقل منها التي يكون فيها الرسمي السعودي عرضة للنقد من حليفه الاستراتيجي، الولايات المتحدة، ولكن النادر من تلك المناسبات حين يواجه الرسمي السعودي نقداً شبه مباشر من هذا الحليف في قضية داخلية. لم يعتد الرسميون السعوديون على النقد العلني بصورة عامة، ويستاءون كثيراً حين يكون النقد موجهاً لقرارات الحكومة في قضية داخلية تعتبرها العائلة المالكة شأناً شديد الخصوصية.

ما لم يدركه الامراء ولا يرتضون التعاطي معه هو قوانين اللعبة السياسية التي اختلفت كثيراً بعد الحادي عشر من سبتمبر، ولكن الرسمي السعودي يرفض قبولها فضلاً عن الرضوخ اليها، ولذلك يتمسك بلغة المواربة الدبلوماسية ذات العبارات المفتوحة على تفسيرات متعددة، مع أن القضايا التي تتفجر تباعاً تفرض تغييراً جوهرياً في اللغة المستعملة في التصريحات الرسمية والمؤتمرات الصحافية، سيما وأن زمن (العموميات) و(التعميمات) لم يعد يشترى، فهناك ملفات ساخنة تتطلب موقفاً صريحاً ومباشراً لا لبس فيه.

ما يقوم به الامراء ليس أكثر من تفعيل دور المال في العمل الدبلوماسي.. فالسعودية ومنذ أربع سنوات تحاول إعادة ترميم التصدعات الخطيرة في جدار التحالف مع الولايات المتحدة، مع فارق جوهري أن الاخيرة لم يعد تغريها شروط الحرب الباردة سيما بعد انفرادها بالسيطرة على العالم، وبالتالي فهي تتصرف كوصي فعلي، وتقرر طبيعة وشروط اللعبة وأهدافها أيضاً.

لقد أنفقت العائلة المالكة مليارات الدولارات على حملة العلاقات العامة في داخل الولايات المتحدة، من أجل مجرد تخفيف حدة الانتقادات المتزايدة لسياساتها الداعمة للارهاب والتطرف، ولكن النتائج لم تكن مشجّعة إن لم تكن وخيمة، فقد كانت حملة الانتقادات مستعرة مع تصاعد حوادث العنف في الشرق الاوسط، فما تكسبه السعودية في العراق عبر عمليات التفجير التي يقودها انتحاريون سلفيون تدفع ثمنه أضعافاً في علاقاتها الدبلوماسية في الغرب.

وتعرف العائلة المالكة كيف يلعب الاميركيون، فهم يتقنون الضربات غير المباشرة، وبعض الاحيان من مربع الخصم، بما يجعل تسديد الضربات سهلاً وموجعاً. وهو ما فعلته وزير الخارجية الاميركية كونداليزا رايس في زيارتها الاخيرة للرياض، حيث قررت في اول زيارة لها للسعودية منذ توليها منصب وزير الخارجية بعد كولن باول أن تفتتح المباراة الدبلوماسية بضربة مباغته.

قبل أن يختم وزير الخارجية الاميركي السابق كولن باول عهده زار السعودية في ظرف بالغ الحساسية حيث كانت وزارة الداخلية السعودية قد وجّهت ضربة للتيار الاصلاحي الوطني عن طريق حملة اعتقالات متزامنة لرموز التيار، وهو أمر فرض على الوزير الاميركي التعليق عليه كونه يتعارض مع التوجهات الاميركية الجديدة الداعمة للتغيير والاصلاح في منطقة الشرق الاوسط، وقد أثار تعليقه على اعتقال الاصلاحيين إستياء وزير الداخلية الامير نايف شخصياً، حيث نفى الاخير أن يكون كولن باول قد تباحث مع القيادة السعودية في هذا الشأن، وكان لتصريحات الامير نايف رد فعل سلبي لدى الجانب الاميركي الذي إعتبر ذلك تحدياً.

لقد جاء الرد الاميركي بعد مرور عام على اعتقال الاصلاحيين الثلاثة، وفي مناسبة مماثلة مع فارق ان تصريح الوزير الاميركي السابق جاءت في خاتمة عهده وتصريحات الوزير اللاحق جاءت في بداية عهده. فالمؤتمر الصحافي الذي جمع وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل بنظيره الاميركي العام الماضي يتكرر مرة أخرى مع بقاء ذات الموضوع الخلافي.

وزيرة الخارجية كونداليزا رايس المعروفة بصرامتها في التعبير عن أفكارها السياسية بوضوح، قدّمت لزيارتها الى السعودية بمحاضرة في الجامعة الاميركية بالقاهرة وقالت بأن (مواطنين شجعاناً يطلبون حكومة قابلة للمساءلة) في اشارة الى مطالب التيار الاصلاحي الوطني في السعودية. واضافت قبل وصولها الى الرياض إن (هناك ثلاثة أشخاص مسجونون حاليا بسبب مطالبات سلمية لحكومتهم ويجب الا يعد ذلك جريمة في اي بلاد)، في موقفاً يعتبر اعتراضياً وناقداً للتدابير الامنية الغاشمة التي اتبعتها وزارة الداخلية بحق الرموز الاصلاحية في البلاد.

وبينما حاول وزير الخارجية الامير سعود الفيصل التخفيف من حدة تصريحات رايس واكتفى بالقول بأن (الخلاف لا معنى له) في محاولة لاحتواء الموقف واستباقاً لأي تداعيات غير حميدة لزيارة الوزيرة رايس، فإن تلك التصريحات كانت بالنسبة لوزير الداخلية الامير نايف أقرب ماتكون الى القضية الشخصية، فها هو يتعرض مرة أخرى من وزير الخارجية الاميركية الى نقد مباشر لسياسة الداخلية السعودية في التعامل مع المطالب السلمية في الاصلاح والتغيير، حيث عبّرت الخارجية الاميركية بعد محاكمة الاصلاحيين الثلاثة عن قلقها من هذه الاحكام.

الامير نايف اعتبر كلام الوزيرة رايس حول الاصلاحيين الثلاثة ليس تدخلاً مباشراً في الشؤون الداخلية للسعودية فحسب، بل وتعريضاً بنهجه الامني في التعامل مع التحركات السلمية، ولذلك حاول أن يتصرف كمسؤول عن شؤون داخلية لا صلة لها بالعلاقات الدبلوماسية وهي مقتضى تقاسم الادوار داخل الجهاز الحاكم. فقد رد الامير نايف على تصريحات رايس بالقول (أعتقد هذا شأن داخلي ليس لأحد الحق في ان يتحدث فيه).

على أية حال رايس التي رمت قنبلة سياسية في وسط السعودية حاولت سحب فتيل قنبلة أخرى في ردها على سؤال عن قيادة المراة للسيارة، حيث اعطت رداً دبلوماسياً متقناً بالقول (اعتقد انه يجب ان تكون لنا حدود في ما نحن ساعون لتحقيقه).

مهما يكن، فإن رايس وان عادت من جولة دبلوماسية مرهقة كونها تحمل في جعبتها موضوعة الديمقراطية في الشرق الاوسط ومن الطبيعي ان تلقى صدوداً ونفوراً من دول ألفت نظاماً شمولياً يراد له البقاء على حساب المطالب الشعبية بالتغيير والاصلاح، الا أن تلك العودة المرهقة وجدت أصداء لها مشجّعة في تصريحات الرئيس بوش الذي أعاد التأكيد وبإصرار بالغ على تعميم التجربة الديمقراطية في العراق الى دول الجوار.

الصفحة السابقة