المفتي في بيان حول تفجيرات لندن

الحضور المبتذل للديني في السياسة

المفتي: بيان لمن ودفاعاً عن من؟

ليس إنكاراً لبشاعة الجريمة ولا شجباً لعبثية الفعل الدموي البالغ في إستهانته بالانسان تنبري شخصيات سياسية ودينية سعودية الى إصدار بيانات وتصريحات متوالية لتسجيل موقف إزاء جريمة التفجيرات في العاصمة البريطانية لندن.. فلم نعتد من شخصيات دينية محلية إصدار بيانات وبهذه السرعة الفائقة في أحداث خارجية لو لم يكن ثمة مصلحة خاصة في فعل ذلك. فقد باتت بيانات الاستنكار ضرورة دينية وسياسية من أجل درء ما فرّطوا به بالأمس، ولأن السعودية باتت في مركز الاعصار الاعلامي الدولي، كونها بؤرة نشطة للارهاب ومركز تصدير الانتحاريين الى مناطق مختلفة من العالم، فإن الطبقة الحاكمة تدفع الآن فاتورة باهضة الكلفة لعمليات التنشئة العقدية الصارمة والاحادية.

منذ الحادي عشر من سبتمبر بات كل عمل إرهابي يحمل بصمة سعودية بالفعل او بالقوة.. هكذا ينظر العالم، وهكذا هو واقع الحال أحياناً، وهو ما تدركه العائلة المالكة والمؤسسة الدينية، وهو الدافع ربما الوحيد وراء إصدار هذه البيانات. ولأن الشعور بالزهو بقتل الابرياء وإراقة الدم الحرام يغمر المهووسين بالقتل، فقد كان لبيانات القاعدة وذيولها دور المدعي العام في المحكمة الذي لم يدع فرصة سانحة للسعودية للتخلص من آثار وعار الارهاب حتى قدّم دليلاً آخر مصبوغاً بالدم على تورط المتهم الرئيسي، أي مركز تكوين وتنشئة طوابير العنفيين.

جريمة تفجيرات لندن لم تستغرق زمناً تحقيقياً طويلاً، مع أن اضبارة التحقيق مازالت مفتوحة حتى الآن، فقد أكفت نيويورك وواشنطن ومدريد مؤونة البحث عن فاعلين آخرين، وإذا كانت هيئة التحقيق الفيدرالية في الولايات المتحدة هي التي توصَّلت الى تورط شبكة تنظيم القاعدة في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فإن تفجيرات لندن سهّلت المهمة على المحققين بإصدار فرع القاعدة في اوروبا بيان تتبنى فيه وبجرأة وقحة هذا الفعل الاجرامي غير المبرر والجبان.

مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ أصدر على عجل بياناً إستنكارياً بعد يوم من وقوع جريمة التفجيرات، في خطوة سريعة وصفت بأنها قياسية. البيان كما هو واضح محاولة لاستباق صدور فتاوى او بيانات دينية معاضدة لما جرى في لندن، فالمفتي وبإملاء من العائلة المالكة يدرك تماماً انفراط العقد الفريد بين العائلة المالكة والمجتمع الديني السلفي، فقد تسرَّب كثير من حملة ألوية الافتاء من تحت عباءة الهيئة الدينية الرسمية العليا، ويمثّل هؤلاء الناطقين غير الرسميين بالعقيدة السلفية الأصلية.

لم يشجب المفتي تنظيم القاعدة، على طريقة الامير نايف الذي لا يزال يشكك في الرواية الاميركية حول ضلوع القاعدة في تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، بالرغم من سلسلة البيانات والخطب الصوتية لقادة التنظيم التي يفصحون فيها بلغة واضحة وإحتفالية لا لبس فيها عن انتصارهم في تلك الغزوات الحالمة. عزوف المفتي عن شجب القاعدة ليس إبراءً لذمتها، وإن كان ذلك محمولاً على الرغبة في عدم الاصطدام بالقاعدة الشعبية للتنظيم، ولكن الأهم في ذلك هو درء التهمة عن الذات، إذ ان الشجب يستبطن إقراراً ضمنياً بالتورط في دورة العنف وثقافة الكراهية التي أنتجت تلك الاعمال الارهابية العابثة.

التضامن مع لندن لدفع التهم عن الرياض

قد يكون البيان إستباقاً ليس لصدور بيان من رجال دين من الطبقة الثانية أو الثالثة والذين دخلوا حلبة الافتاء وباتوا ينافسون هيئة كبار العلماء في مجال التشريع في بعديه الاجتماعي والسياسي، ولكن البيان جاء أيضاً استباقاً لصدور بيانات من داخل هيئة كبار العلماء نفسها، التي لا تخلو من متشددين، يحملون أفكاراً إقتلاعية في الولاء والبراء والتي تشكّل الاساس الشرعي للعمليات الارهابية. ولعل في ذلك ما يثير الانتباه، فالعائلة المالكة في مسعى لتعقّب واحتواء تداعيات حوادث الحادي عشر من سبتمر وإعادة السيطرة على مصادر الافتاء الديني داخل حدودها، تجد نفسها عاجزة أحياناً حتى عن إحتواء الهيئة الدينية العليا من الانفلات عن حدود الرشد السياسي وأيضاً الديني، من خلال إصدار فتاوى أقل ما يقال عنها أنها مقطوعة الصلة بالزمن الذي يعيش فيها عالم الدين، أضف الى ذلك الأثر التدميري للفتوى على مستوى الوحدة الوطنية والتماسك الداخلي وهكذا السلام الاهلي والعالمي.

بطبيعة الحال، فإن المفتي آل الشيخ لا تنقصه المعلومة حول الأنشطة الارهابية في أرجاء مختلفة من العالم، فهو لم يصدر بياناً حول عمليات القتل والتفجير في العراق بمشاركة كمية ونوعية من جماعات سلفية سعودية بكل الصراحة والوضوح والصرامة التي جاءت في بيانه حول تفجيرات لندن. فبيان المفتي هو سياسي بإمتياز وتقرر أن يصاغ بلغة دينية، بسبب الربط بين الارهاب والوهابية منذ سبتمبر 2001. مع أن المفتي سعى في بيانه الى إخلاء ذمة السعودية من كل الانشطة الارهابية الدموية في أرجاء العالم، أي بالمساحة التي تغطّيها نشاطات التنظيمات السلفية المسلّحة المنضوية تحت مظلة شبكة القاعدة. يقول المفتي (ان ما يجري في العالم من حوادث قتل فردية أو جماعية أو حوادث تفجيرات وتدمير ممتلكات وترويع الآمنين كل هذه من الإفساد في الأرض وهو محرم في دين الإسلام ونسبة ذلك إلى دين الإسلام نسبة ظالمة).

والمفتي هنا لا يتحدث بوصفه فقيهاً أممياً مع الاستعمال المفرط لمفردة الاممية في الخطاب السلفي وانغراسه العميق في ادبيات القاعدة، ولكنه يتحدّث بوصفه ممثلاً لدين الدولة الرسمي، فهو الصورة الدينية للسلطة السياسية، تماماً كما أن الاسلام هو الغطاء الديني للدولة، فالدفاع عن الاسلام يصبح دفاعاً عن السعودية. إن الربط المصيري والتاريخي بين الدين والدولة في السعودية يجعل من استخدام أحدهما كافياً لتمثيل الآخر، بل وللدفاع عنه، وهو ما يفعل المفتي بإتقان. ولا غرابة، والحال هذه، أن تغيب الحماسة والسرعة الفائقة لدى المفتي في قضايا أخرى قريبة أشد شراسة كالعمليات الانتحارية في العراق التي يقوم بها سلفيون سعوديون، ما لم يحمل الأمر على كونه متعلقاً بمصلحة سياسية.

وكما الديني، فإن السلطوي السعودي وجد نفسه أيضاً معنياً بتفجيرات لندن، وعلى ذات القاعدة، فالمشاركة النوعية والمدهشة لشباب سعوديين ينتمون للعقيدة السلفية او عرب تخرّجوا من الحواضن الدينية السعودية تفرض هذا الاحساس الدائم بالخوف والمراقبة وهاجس الاتهام الذي يلاحق الطبقة الحاكمة دينية وسياسية سواء بسواء.

لم يعد الشجب والاستنكار وحده كافياً ومقنعاً بالنسبة للحكومات الغربية التي إبتليت بجماعات مشدودة عراها بمراكز دينية سلفية، وقد سبق للحكومة الاميركية أن طالبت بأكثر من مجرد شجب، فقد أرسلت لجنة من المحققين الاميركيين الى السعودية للتحقيق مع معتقلين سعوديين، وفرضت على الحكومة القيام بسلسلة تدابير أمنية صارمة..

انفجارات لندن: السلفية الوهابية أساس العنف

لقد حاولت السعودية الافادة من تفجيرات لندن على طريقتها الخاصة، مع أن البريطانيين يدركون تماماً أغراض السلطات السعودية من الاتصالات الامنية بين لندن والرياض وهي أغراض تقترب كثيراً من استغلال الحادث الارهابي لصالحها، وليس في ذلك ما يدعو للدهشة فالولايات المتحدة باتت هي الاخرى تستغل حوادث الارهاب في الخارج من أجل شرعنة حضورها العسكري في العراق وافغانستان بل وفي العالم بأسره. بالنسبة للسعودية، فإن لندن تمثل حاضنة رئيسية لطيف متنوع من التشكيلات السياسية السعودية، فالى جانب المعارضة السلمية المعتدلة الداعية الى تبني مبادىء الدستور والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحقوق الانسان وإشاعة الحريات السياسية هناك جماعات سلفية متطرفة تتفاوت في وسائل تعبيرها السياسي من إعلامي وتحريضي الى عسكري عنفي.

وبطبيعة الحال، فإن السلطات السعودية تسعى لتثمير تفجيرات لندن التي تبدو بصمات الفكر السلفي الراديكالي المنتج سعودياً بإمتياز واضحه عليها، عن طريق إقناع الاجهزة الأمنية البريطانية بموقفها من وجود تشكيلات سياسية اعتراضية على الاراضي البريطانية. وهو أمر لا تجهله السلطات البريطانية، فهي تملك من المعلومات الكافية حول طبيعة الانشطة التي تقوم بها كافة التشكيلات السياسية المتواجدة على أراضيها كما تدرك حقيقة أهدافها ووسائل تحقيقها. كل ذلك في محاولة من الحكومة السعودية لتوجيه الجريمة الارهابية التي وقعت في لندن بطريقة ابتزازية نحو أغراض خاصة، وهذا ما لا يروق للسلطات البريطانية التي تخضع للمساءلة ومحاسبة الرأي العام في بريطانيا، فهنا لندن وليس الرياض حيث تغيب الشفافية وتمسك الاجهزة الأمنية بوسائل الاعلام المحلية فلا خبر ينشر ولا تصريح أو تعليق يمرّ دون رقابة ذاتية أو رسمية.

وما ينطبق على الديني ينطبق على السياسي في السعودية من حيث تقديم ملف القضية معزولاً عن المتورطين الاصليين فيها، فالامير نايف يتحدث عن الارهابيين وكأنهم من غير نتاج الارض التي نشأوا عليها وتشربوا منها ثقافة التشدد والكراهية، فضلاً عن كونهم في وقت سابق شركاء حقيقيين في الاجهزة الدينية والامنية والعسكرية. صحيح أن الامير نايف يتصرف بموجب غايات ويستخدم وسائل مناسبة لغايات معروفة سيما في هذا الحادث الدموي العبثي، الا أن الفكاك من المسؤولية يبدو مستحيلاً. فبخلاف التصوّر السعودي لمعالجة ظاهرة الارهاب، فإن التصور البريطاني، كما الاميركي، وبحسب ما أفصح عنه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يبدو معاكساً تماماً. فمن وجهة النظر البريطانية، فإن تسوية مشكلة الارهاب لا تتم عن طريق استعمال الوسائل الامنية وإنما من خلال معالجة أسبابها وجذورها. ومن واقع التجربة الاميركية في معالجة الارهاب، ندرك مغزى تصريح رئيس الوزراء بلير، وهذا يملي على السعودية بذل المزيد ومضاعفة الجهد في كبح تغوّل فكرها الديني المتشدد الذي ينمّي ميولاً عدوانية لدى أتباعه.

قد يختلف الامير نايف مع الاوروبيين والاميركيين على تعريف الارهاب، ولكن الدم لا يرتهن لتفسيرات متعددة ولا يخضع للمماحكات اللغوية الساخرة، فهناك أفكار متطرفة مزروعة في أدمغة الجماعات المتطرفة وهي التي حرّضت على مثل هذه الاعمال الاجرامية. لدى الامير نايف تفسيره الخاص بالارهاب، خلاصته هي منع الجماعات السياسية المعارضة من العمل بأي صورة كانت انطلاقاً من الاراضي البريطانية أو الاروبية والاميركية، وهو ما يطمح الى ترسيخ الاعتقاد به في تلك الاوساط. في المقابل، فإن ثمة موقفاً موحداً بين الاوروبيين والاميركيين على أن الارهاب بدأ فكراً ثم صار فعلاً دموياً. وهذا لا يعني بحال إغفال دور السياسات الاوروبية والاميركية في دعم الانظمة الاستبدادية الشمولية والاستئثار بخيرات الشعوب والمعايير المزدوجة في التعامل مع قضايا العرب والمسلمين في إنماء نزوعات متطرفة.

على أية حال، فإن بيان المفتي الذي أريد له أن يؤسس لموقف ديني عام في السعودية قد جلب معه بعض المحسوبين زعماً على خط الاعتدال داخل الهيئة الدينية العليا، ولكن تبقى الشريحة الأكبر في المؤسسة الدينية صامتة حتى الآن، فالاكتفاء بالبيانات ذات الطابع الفردي لا تعكس موقفاً جماعياً وإجماعياً، وقد يرجعها البعض الى القليل خير من العدم وخصوصاً في ظل طغيان جبهة التشدد داخل المؤسسة الدينية الرسمية.

الصفحة السابقة