جسر قطر ـ الامارات يفجّر الخلاف الحدودي مع الرياض

نهاية العزلة الجغرافية والسياسية

حمدان بن زايد: خلافاتنا عميقة مع السعودية

موضوعة الخلافات الحدودية بين دول مجلس التعاون الخليجي قديمة بقدم الدول ذاتها، فقد برزت في لحظة نشأة الدول، وفرضت نفسها بشدة على مجمل أوجه العلاقة بين المشيخات الخليجية. وبالرغم من محاولات التسوية التي قامت بها عدة أطراف خليجية ودولية لحسم موضوعة الخلافات وترسيم الحدود بصورة نهائية الا أن المحاولات تنتهي غالباً الى الفشل وأحياناً التفجر كما حصل بين قطر والبحرين والسعودية وقطر والسعودية والامارات.

وقد ظلّت الخلافات الحدودية تشهد توترات متفاوتة الحجم، فتارة تقتصر على القنوات السرية مع توافق ضمني على إبقاء الخلاف في حدود تلك القنوات، وتارة أخرى يتسرب الى الاروقة السياسية مع قدر قليل من العلنية وتارة ثالثة يتفجّر بصورة مباغته مطلقاً العنان لطرفي النزاع في البوح بمواقف متشددة، وتارة رابعة يترجم الخلاف الى مواجهات عسكرية.

وفيما يبدو فأن ثمة إرادة جماعية بين قادة دول مجلس التعاون على إبقاء الخلاف الحدودي حاضراً كجزء من التجاذبات التي تصبح مطلوبة أحياناً للمساومات السياسية والاقتصادية، نلحظ ذلك من تجميد قضية الحدود بين دولتين خليجيتين لجهة تمرير قضية أخرى تكون فيها القضية الحدودية عنصراً تفاوضياً فاعلاً، وقد تصبح مادة للابتزاز السياسي أحياناً.

وشأن خلافات حدودية أخرى على الضفة الغربية من الخليج، فإن الخلاف بين دولة الامارات العربية المتحدة والسعودية على الحدود بينهما يتجاوز حد البعد الجغرافي وينسحب على ابعاد إقتصادية واستراتيجية. ومع التذكير بقدم الخلاف الحدودي بين السعودية والامارات على واحة البريمي المشهورة، فإن ثمة مكوّنات جديدة للخلاف تفرض نفسها أحياناً على الطرفين بما يجعل طرحها متجاوزاً للطبيعة الجوهرية للخلاف. إن اكتشاف النفط في المناطق المتنازع عليها تضيف، بطبيعة الحال، بعداً جديداً للخلاف الحدودي، ويجعل من العسير التوصل الى اتفاقيات مرضية، ما لم يحصل الطرفان المتنازعان على حصص متكافئة في الثروة.

الخلاف الحدودي بين الامارات والسعودية يعود ابتداءً الى الثلاثينيات من القرن الماضي حيث جرت مفاوضات غير جادة قطعها اندلاع الحرب العالمية الثانية، ثم تم استئناف المفاوضات بين السعودية وامارة إبوظبي وهكذا عمان وقطر، ولكنها لم يتوصل أي من الاطراف الى نتيجة حاسمة، فجرى تجميدها. وفي 21 أغسطس 1974 تم توقيع إتفاقية حدودية بين الامارات والسعودية وكانت الاتفاقية ثمناً لاعتراف سعودي بدولة الامارات الناشئة آنذاك، وهو ما جعل الطرف الاماراتي يشعر بالغبن. الخلاف الحدودي بين البلدين بدأ يخرج للسطح مجدداً في أواخر شهر فبراير الماضي، حيث تحدث مسؤولون خليجيون عن توتر في العلاقات بين البلدين على قاعدة الخلاف الحدودي، وأرجعت الخلافات حينذاك الى تولي حاكم أبو ظبي السابق الشيخ خليفة بن زايد السلطة خلفاً لوالده الشيخ زايد، حيث بدأ الشيخ خليفة بفتح الملف الحدودي مع السعودية. مصادر سعودية فوجئت بفتح الملف مجدداً كون الخلاف الحدودي قد جرت تسويته بموجب اتفاقية وقعت بين البلدين في بداية السبعينيات. وكان الحاكم الجديد في الامارات قد أثار فور توليه السلطة موضوع الحدود مع المسؤولين السعوديين في ديسمبر من العام الماضي، ولكن الجانب السعودي رفض التفاوض في هذا الشأن، وتمسّك بالاتفاقية الحدودية المبرمة في جدة في أغسطس سنة 1974 والتي بموجبها حصلت الرياض على خور العيديد الذي يشمل منطقة ساحلية بطول 25 كم تقريباً، وهي المنطقة التي فصلت أراضي أبو ظبي وقطر، كما حصلت على جزء من سبخة مطي وقرابة 80 بالمئة من آبار الشيبة النفطية، والتي تضم حوالي نحو 20 مليار برميل من النفط، الى جانب 650 مليون متر مكعب من الغاز. لقد كان واضحاً من نصوص الاتفاقية أن السعودية قطفت ثمار اعترافها بطريقة مجحفة، فقد نص الاتفاق بشأن استغلال موارد آبار الشيبة على أنه (في حالة اكتشاف النفط على الحدود المشتركة سواء اكتشف قبل الاتفاق أو بعده تؤول ملكية حقل النفط برمته الى الدولة التي يقع فيها الجزء الكبر من هذا الحقل) فأصبحت ملكية الحقل وموارده تعود للسعودية، حيث تقع آبار الشيبة في المنطقة التي حصلت عليها السعودية بموجب إتفاقية جدة. وقد بدأت شركة أرامكو منذ عام 1998 بالعمل في حقل الشيبة حيث ينتج 600 ألف برميل يومياً من النفط الخام.

لم يكن الجانب الاماراتي سخياً بسذاجة الى حد التفريط في ثروته النفطية لولا وقوعه تحت تأثير ضغط الاعتراف السعودي المشروط، وهو ما جعله يضمر الرفض لتلك الاتفاقية كونها منتقصة الشروط، وأهمها تحرر الاطراف من أية ضغوط تحول دون القبول بشروط المتفق عليه.

ومع إحتفاظ أبو ظبي بقرى منطقة البريمي الست التي كانت أصلاً في حيازتها بما فيها العين قاعدة واحة البريمي وهكذا أغلب صحراء الظفرة، الا أن الامارات إعتبرت إتفاقية جدة الحدودية مجحفة للغاية لها، وأن السعودية إستغلت ظروف نشأة الاتحاد الاماراتي وحاجة الاخير للحصول على إعتراف دول الجوار، الامر الذي منحها فرصة نادرة لاملاء إتفاقية غير متوازنة. ومما يجدر الاشارة اليه، أن السعودية رفضت الاعتراف بدولة الامارات العربية لسنوات طويلة مشترطة تسوية الخلاف الحدودي مع أبو ظبي أولاً، وقد شكّل ذلك ضغطاً كبيراً على الاتحاد الاماراتي بمكوناته السبعة.

وقد حاول مسؤولون من البلدين إحتواء الأزمة الكامنة والمرشّحة للتفجر في أي وقت، وإعتماد القنوات الدبلوماسية والودية في تسوية الخلاف، وقد قام وزير الدفاع الامير سلطان بزيارة في منتصف يناير الماضي الى إمارة أبوظبي في مسعى لتهدئة الاجواء وامتصاص التوتر السياسي بين البلدين، سيما وأن ثمة معلومات تسرّبت الى الرياض عن مشروع إقامة جسر يربط بين الامارات وقطر وهو مازاد في تأجيج الخلاف الحدودي مع السعودية. فالاخيرة تشعر بأن قطر لعبت دوراً كبيراً وبراغماتياً في الافادة من الخلاف الاماراتي السعودي، والذي كان له وقع خطير على الرياض، وكأن زنابير الخلية انطلقت دفعة واحدة في وجه العائلة المالكة في السعودية على أمل الخروج النهائي والكامل من ربقة الشقيقة الكبرى وهميمنتها. مصادر خليجية ذكرت بأن السعودية تبيّت نية توجيه ضربة قاصمة للحكومة القطرية من أجل وقف مخططاتها السرية لتخريب علاقات السعودية على المستوى الخليجي.

نايف : لا خلافات مع الإمارات

في حقيقة الأمر، أن الدول الخليجية الثلاث: الامارات وقطر والبحرين تواجه مشكلة جيواستراتيجية مع السعودية التي ربطت مصير هذه الدول بإتفاقيات حدودية تتسم بالغبن والاستغلال، فهذه الدول ترتبط بحدود مباشرة مع السعودية فيما لا رابط بري بين أي منها ببعض، وهو ما دفع بقطر للتفكير في مشروع جسر يربطها مع الامارات وجسر آخر مع البحرين، على غرار الجسر الذي يربط بين السعودية والبحرين. ومن الطبيعي أن يثير مثل هذا المشروع إستياءً شديداً لدى العائلة المالكة، كون مثل هذه الجسور تفضي فيما لو تمت الىى إحباط مفعول الورقة السعودية، إذ ستكون بداية لفك العزلة الجغرافية التي فرضتها تلك الاتفاقيات الحدودية، وستشكّل أساساً متيناً وواعداً لعلاقات تجارية وسياسية وإجتماعية بين قطر والامارات والى حد ما البحرين.

لاشك أن النمو الاقتصادي المتسارع في الامارات يثير قلقاً وحسداً لدى العائلة المالكة، سيما مع استقطاب دبي لجزء كبير من الاموال السعودية التي دخلت في الدورة الاقتصادية الاماراتية وأصبحت جزءا من المال المستثمر في هذا البلد، ولاشك أن التسهيلات القانونية جذبت كثيراً من رجال الاعمال لتأسيس شركات ومشاريع اقتصادية مربحة، وقد يضاف الى ذلك الاقبال الملحوظ لعدد كبير من الاعلاميين والكتاب السعوديين على فرص التعبير والعمل في الفضاء الاماراتي الأكثر إنفتاحاً وإغراءً من السعودية. قد يكون هذا الأمر مكبوتاً في نفوس الأمراء، ولكنه يشكّل بالقطع عنصراً ضاغطاً بخاصة حين يدرج في سياق تحوّلات أخرى. فبعد الخلاف الحاد الذي نشب بين الرياض والمنامة على خلفية التوقيع على إتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة، والتي أوقفت الرياض على إثرها معوناتها السنوية الى الحكومة البحرينية وفرضت تدابير صارمة على عمليات التبادل التجاري مع الدولة الخليجية الفقيرة، إضافة الى تخفيض حاد في كمية النفط المخصصة للبحرين من بئر أبو سعفة النفطي، فإن نقطة خلاف أخرى برزت في سياق الخلاف الاماراتي السعودي، حيث بدأت الامارات مفاوضات منذ مارس الماضي مع الولايات المتحدة لجهة التوقيع على إتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة. وبالرغم من الجدل الواسع الذي أثارته السعودية في قمة مجلس التعاون الخليجي حول إتفاقيات التجارة الحرة المزمع توقيعها من قبل عدد من الدول الخليجية مع الولايات المتحدة، فإن الامارات ومن ثم عمان يبدو أنها حسمت خياراتها في المضي نحو الاتفاقيات تلك. السعودية التي تعتبر من أكبر المتضررين من هذه الاتفاقيات أعطت توصيفاً رومانسياً كانت فيما مضى ترفضه عملياً وهو الاندماج الاقتصادي بين دول مجلس التعاون الخليجي الذي لم يكتب لأغلب مشاريعه النجاح حتى في حدود توحيد التعرفة الجمركية وتسهيل انتقال البضائع، بل كانت دول الخليج الاخرى أسرع في تشريع تسهيلات تجارية وقانونية في هذا الصدد. في حقيقة الأمر، إن إدراج اتفاقيات التجارة الحرة بين دول الخليج والولايات المتحدة في سياق تهديد مشاريع الاندماج الاقتصادي بين دول المجلس ليس أكثر من مرواغة سياسية تخفي الانعكاسات الخطيرة لهذه الاتفاقيات على الاقتصاد السعودي، فضلاً عن كونها قد تفضي الى استدراج السعودية الى الشروط الاميركية والاوروبية للانضمام الى منظمة التجارة العالمية. نلفت هنا الى أن السعودية من بين دول مجلس التعاون الخليجي التي لم تحصل على عضوية المنظمة حتى الآن.

ما يجدر قوله أن مشروع الجسر بين قطر والامارات فرض معادلة جديدة ومنطقاً مختلفاً في التعامل مع استحقاقات هذه الدول، فما تقوم به هذه الدول من إجراءات من هذا القبيل تأتي لفك الطوق المفروض عليها وكسر إرادة القيادة السعودية التي كانت تعتمد مبدأ الاملاءات القائمة على ضغوط.

فبعد فشل زيارة الامير سلطان الى إمارة أبو ظبي في احتواء الازمة بين البلدين، قام وزير الداخلية الامير نايف بزيارة اخرى في منتصف يونيو الماضي في محاولة أخرى لتسوية الأزمة وبدء محادثات رسمية حول ترسيم الحدود وآبار النفط. وقد تركّزت المحادثات حول النقطة الجوهرية في الخلاف الحدودي الاماراتي وحول حقل الشيبة الحدودي بوجه خاص. فالسعودية تراهن من خلال تقديم عرض سخي للاماراتيين في حقل الشيبة على تعطيل قرار الامارات في المضي في مشروع الجسر مع قطر، ولكن الاماراتيين رفضوا هذا العرض وتمسكوا بمشروع الجسر.

الاجتماع الذي ضم الامير نايف ورئيس دولة الامارات الشيخ خليفة بن زايد كان مغلقاً ويتضمن رسالة شفهية من القيادة السعودية ودعوة للشيخ خليفة بزيارة الرياض لاستكمال المفاوضات وهي دعوة رفضتها القيادة الاماراتية لاحقاً. وقد قيل عن الرسالة بأنها تنطوي على تحذيرات من مغبة الدخول في مشاريع تنوي قطر استعمالها في الخلاف مع السعودية، فيما أبدت الاخيرة إستعداداً مفتوحاً للتعاون بين البلدين وتوفير تسهيلات تجارية للامارات اضافة الى تقاسم حقل الشيبة النفطي وحقول نفطية أخرى على الحدود المشتركة. بالنسبة للقيادة الاماراتية الجديدة فإنها تطالب بتعديلات جوهرية على إتفاقية جدة عام 1974 كونها غير قابلة للتطبيق. إن الظروف التي خضعت لها الامارات حين أقدمت على التوقيع على إتفاقية جدة تماثل الظروف التي يخضع لها الجانب السعودي لتبديل أسس الاتفاق بل ونصوصه أيضاً، في محاولة لاعطاب سير المشروع القطري الاماراتي والذي بالتأكيد ستكون له تغييرات جوهرية على المستوى الخليجي بصورة عامة. تستغل السعودية عنصراً في الملف الحدودي وهو الحدود المائية الذي لم تتطرق اليها إتفاقية جدة، وقد تشكل ورقة تفاوضية لصالح السعودية التي ستحاول أن تتشدد في استعمالها في مقابل التساهل في جوانب أخرى لنفس الاهداف. فالجسر المزمع اقامته بين قطر والامارات يمرّ حسب الدعوى السعودية داخل المياه الاقليمية لخور العيديد الخاضعة للسيادة السعودية، بينما تؤكد الامارات عكس ذلك، على أساس أن اتفاقية 1974 أصبحت غير قابلة للتنفيذ.

ما يثير الانتباه تقليل الجانب السعودي أهمية مشروع الجسر القطري الاماراتي الذي طرح منذ عدة سنوات وأعيد طرحه بشكل لافت منذ عدة شهور، وفي مثل هذه الحالة فإن إفتعال عدم الاكتراث يضمر قدراً كبيراً من القلق والاستياء. لم يكن رد وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل على سؤال حول الجسر بين قطر والبحرين وخط الغاز بين قطر والكويت رداً مقنعاً ولا مريحاً، خصوصاً مع وجود معطيات سابقة لهذه الموضوعات تفيد بأنها كانت مطروحة داخل مجلس التعاون الخليجي.

وعلى أية حال، فإن ما يظهر من الخلاف الاماراتي السعودي هو مؤشراً قوياً لخلافات خليجية أخرى قادمة مع انفضاض عقد التعاون الخليجي الذي فقد مبررات وجوده، وأن السعودية التي أفادت في ضبط سيطرتها على دول الخليج الصغيرة من خلال هذا المجلس لم تعد في مأمن من تمردات صغيرة وكبيرة.

الصفحة السابقة