العودة في غياب الحوالي

الرسالة المبتورة لرجل الدين الراحل

ظهر بصورة مثيرة على المسرح السياسي المحلي إبان أزمة الخليج الثانية، وبرز كرجل دين ناقد للدولة وكداعية لتصحيح العلاقة بين المؤسسة الدينية والحكومة السعودية، ثم أصبح خلال فترة قياسية رمزاً للتيار السلفي الناشط سياسياً، فاكتسب زخماً شعبياً كبيراً في عملية التجاذب الشديد مع الاجهزة الامنية، حيث تعرض للاعتقال أكثر من مرة في أحداث بريدة، وفرضت عليه الاقامة الجبرية، ومنع من التدريس والسفر في مسعى لتعطيل نشاطه الجماهيري الذي بدأ يهدد الدولة.

كان من أوائل من تمرد على هيمنة المؤسسة الدينية على مجال الافتاء والتوجيه الديني، وهذا ما أثار حفيظة وسخط النخبة الدينية العليا في البلاد، فصدرت في حقه فتاوى وبيانات تحذّره من إثارة الفتنة والوقوع فيها، وتدعوه للالتزام بجادة العلماء وولاة الأمر.

خلال فترة اعتقاله تعرّف الشيخ سلمان العودة على بعض المثقفين الدينيين المتنورين مثل عبد العزيز القاسم وغيره ودخل في حوارات فكرية موسّعة وجادة خفّفت الى حد كبير من حدّية طروحاته الدينية المتشددة، وبدا بعد خروجه من المعتقل كما لو أنه قد بدأ مرحلة تحوّل فكري، كما ظهر في بعض كتاباته حول الرؤية المعتدلة تجاه الآخر، ومراجعة بعض المواقف السابقة المحمّلة على لغة توصيمية وتكفيرية.

سمح له الانكفاء تدريجياً عن السياسة المباشرة، وبخاصة تلك الناقدة للحكومة السعودية، بالعودة الى مزاولة نشاطه الديني التثقيفي الهادىء، وكان في ذلك بداية صفحة جديدة في العلاقة بينه وبين الحكومة، ولا سيما مع أجهزة وزارة الداخلية.

حتى بداية أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم يقرر الشيخ العودة الدخول الى معترك السياسة مرة أخرى، فقد اكتفى بمزاولة نشاطات دينية واجتماعية محدودة، ولكن الحملة الاعلامية المضادة التي تعرّضت لها المدرسة السلفية دفعت به وتبشجيع من العائلة المالكة للانخراط في حملة الدفاع عن العقيدة السلفية وتبرئتها من هجمات نيويورك وواشنطن، اضافة الى مواجهة حملة الجماعات السلفية المتشددة الخاضعة تحت تأثير شبكة القاعدة وأدبياتها السياسية. وبطبيعة الحال، لم يكن يتجاوز الدور الى الانشغال بالسياسة بمعناها المهني، وإنما بالمقدار المقرر له من قبل العائلة المالكة، فتجربة المعتقل وظروفها والتعهدات الخطيّة التي وقّع عليها تحول دون انغماسه في شؤون السياسة، وبخاصة تلك التي تتطلب نوعاً من المصادمة مع الدولة.

الحوالي: اعتبر الدولة نصف كافرة،
وانتهى مدافعاً عنها

وبالرغم من أن الشيخ العودة لم يقرر الدخول في مهادنة تامة مع الدولة، فمازال يحتفظ بقدر كبير من استقلالية المواقف الا أن مجريات الاحداث اللاحقة تؤكد بأن ثمة درجة عالية من التنسيق بين الشيخ وعدد من رفاق الدرب والحكومة. لقد بدا ذلك أول الأمر في مشاركته في اللجنة العالمية لمقاومة العدوان التي تأسست عقب الحرب على العراق، وقد شارك فيها زميله ورفيق دربه الشيخ سفر الحوالي، أمين العام اللجنة. مع الاشارة هنا الى أن الشيخ العودة بدا أكثر اعتدالاً من الحوالي الذي التزام بمواقفه المتشددة رغم انفتاحه على الثقافة الغربية والاوربية بوجه خاص.

شارك العودة في الحوار الوطني في اللقاء الفكري الاول وبدا حماسة غير معهودة في التعاطي مع الآخر في الداخل، واضطلع بدور فاعل في الحوار وتبنى مهمة صياغة بعض أفكار البيان الصادر عن اللقاء الفكري. وكان ذلك إشارة لافته، ولكن ما لبث أن أظهر تراجعاً عن بعض مواقفه وبدأ ينقد المخالفين للعقيدة السلفية ويطالبهم بتبديل معتقداتهم كأساس لبدء أي حوار فكري معهم على طريقة الشيخ سفر الحوالي، ثم غاب نهائياً عن اللقاءات الفكرية.

غياب الشيخ العودة عن اللقاء الفكري جرى تعويضه بحضور كثيف في موضوع العنف، حيث أصبح من الشخصيات الاساسية التي تعاطت مع الجماعات المسلّحة، وبدا كما لو أن تنسيقاً كبيراً بينه وبين أجهزة وزارة الداخلية جنباً الى جنب شخصيات أخرى مثل الشيخ سفر الحوالي والشيخ محسن العواجي وآخرين. ولربما بسبب تأثيرهم الفكري ونفوذهم الشعبي لعب هؤلاء دوراً في ثني عدد من الشباب عن التورط في أحداث عنف داخلية وقد نجح العودة في إقناع البعض بتسليم أنفسهم لأجهزة الامن.

أصدر الشيخ العودة بيانات مع آخرين تبطن دعوة غير صريحة لأفراد الجماعات المسلّحة بنقل عملياتهم الى العراق وتجنيب البلاد حوادث العنف، وقد استجاب عدد كبير لهذه الدعوة، فقد وصل الى العراق ما يربو عن 2500 سعودياً تسللوا عبر الحدود الشمالية او عن طريق الجو الى العراق او عن طريق الاردن. ان حملة الانتقادات الواسعة التي تعرضت لها السعودية من جراء تزايد عدد السعوديين في صفوف المقاومة العراقية وتساهل الحكومة في اجراءاتها الامنية على حدودها الشمالية ثم تسرّب معلومات حول دور وزارة الداخلية السعودية مع رجال الدين لدفع أفراد الجماعات المسلّحة للهجرة الى العراق ومن ثم وصول أنباء الضحايا السعوديين الى عوائلهم الأمر الذي أثار سخطهم وتحدثت عن ذلك الصحافة المحلية والعالمية، وتوّجت كل هذه التطورات بقصة ابن الشيخ العودة بكل ملابساتها. فقد أظهرت الحادثة وهناً شديداً في موقف العودة الذي حاصرته الانتقادات من كافة الاتجاهات، فكان النفي والاثبات في كفة واحدة، فإن نفى نية إبنه على الهجرة للعراق فكيف يأمر بالجهاد ويستحث الآخرين على الهجرة ويضنّ بإبنه، وإن أثبت فكيف يرسل إبنه الى العراق لتنفيذ أعمال إرهابية ضد الشعب العراقي في ظل حملة انتقادات ضد الحكومة ورجال الدين السلفيين بتورطهم في حمامات الدم اليومية في العراق.

وعلى أية حال، فإن الشيخ العودة لم يخرج سالماً بعد تلك الحادثة، فقد ظلت القضية تاخذ أبعاداً واسعة وفقد على إثرها جزءا كبيراً من رصيده الشعبي وقدراً من الوهج الاعلامي، فقد كانت الحادثة أشبه ما تكون بمحك مصداقية لموقف الشيخ العودة. وقد ظل الاخير يسعى الى تعويض هذه الخسارة عن طريق تقديم أفكار في الاعتدال لصالح خيار الدولة الامني، وربما هذا ما اضطره لمضاعفة دوره في عمليات التسوية بين أجهزة وزارة الداخلية والجماعات المسلّحة.

كان آخر دور له ما صدر عنه في الثاني من يوليو من مناشدة خطيّة للمطلوبين في قائمة الـ 36 لمراجعة أنفسهم. تضمن النداء ـ المناشدة عبارات تمثل جنبة التحوّل في فكر العودة، ولكنها بالتأكيد لا تعكس بأمانة تامة مدرسته العقدية، فهي من نوع البيانات التي تصلح للتسويات الفكرية والاجتماعية داخل المجال العقدي الواحد. فمحتويات المناشدة لا تسري على باقي المجالات الفكرية بالقطع. وبنفس القدر، فإن هذا البيانات لايندرج في سياق البيانات المحرّضة على الجهاد والمقاومة، بل هنا تبدو لغة العقل والاعتدال حاضرة بشدة (وبان لكل ذي رشد أن أعمال العنف والتخريب والقتل لا تبني دنيا، ولا تصلح ديناً، ولا تدفع شرٌّا؛ بل هي سير في طريق مسدود مغلق، نهايته العطب في الدنيا، وما يخشى من شديد العقوبة في الآخرة..)، فهذه لا تقال بالتأكيد عن أعمال العنف في العراق أو أي مكان آخر، بل هي مناشدة مصمّمة للوضع الامني الداخلي.

كلمات النداء ـ المناشدة تحمل دلالات معبّرة فهي تعكس اعتدالاً غير مسبوق في فكر الشيخ العودة كما سيظهر لاحقاً، فالنصيحة الفارطة في توددها ورقّتها للمطلوبين كضرورة انفعالية تستهدف دغدغة عواطف وضمير المطلوبين ولا تعكس بالضرورة موقفاً عقدياً راسخاً، فالموقف العقائدي لدى العودة يبدو على النقيض من كل متواليات النصح من حق الدماء وحفظ الامن وكبت الفتنة ووأدها أو حتى تغليب جانب العفو والتسامح وحفظ الحقوق وصيانتها.

العودة: كسب الجمهور محرضاً ضد السلطة، فهل يبيعه إليها؟!

ففي مقالة نشرها العودة في موقعه (الاسلام اليوم) بعنوان (الدفاع عن العقيدة أولى..!) وهي مقالة جاءت في سياق رده على المطالبين له بالدفاع عن نفسه إزاء الانتقادات، فرد عليهم بترجيح الدفاع عن العقيدة عوضاً عن الانشغال في (حرب الردود) حسب قوله.

ما يلفت الانتباه في مقالة العودة هذه، أنها تضمنت موقفاً تكفيرياً معدّلاً أو مخففاً إزاء الاخر، والذي يرد أصله زعماً الى السيد قطب كما جاء في كتابه (معالم في الطريق) وتفسيره (في ظلال القرآن). الشيخ العودة الذي يستشعر بدقة وقع المواقف العقدية وخطورتها وحتى إمكانية استغلالها لا تخونه قدرته اللغوية على سبك عبارات ملطّفة تنجيه من أية ردود فعل على موقف عقدي يتبناه وخصوصاً في هذا الظرف شديد الحساسية حيث الانظار كلها ترصد ما يصدر عن رموز المدرسة السلفية.

الشيخ العودة كتب في المقالة ما نصه:( يوجد ما يزيد على أربعة مليارات إنسان فهموا ربهم خطأً، أو حتى كفروا به وأنكروا وجوده ، فلماذا لا ننشغل بكشف هذا اللبس في حدود طاقتنا؟..)، ثم انتقل الى الدائرة الاسلامية وقال مانصه:(يوجد ما يزيد عن مليار مسلم، ينتشر بينهم الضلال، وتروج البدع، وتعبد القبور، ويدعى الأولياء، وتمارس الفواحش، ويتعاطى الربا.. وتقع أجزاء من بلاد المسلمين تحت وطأة الكافرين وسلطانهم، كاليهود والنصارى والملحدين ... ويتعرضون لأبشع صور التعذيب والنكال والقتل والاغتصاب، وتعيش شعوب إسلامية فيما يشبه حالة الاحتضار. في طائفة من محن وأخطاء وخطايا يعيشها المسلمون).

وبعد أن أنهى العودة تصميم الحكم الشرعي والذي كما يظهر قربه من حد التحريم الكنسي الذي يؤسس دون شك لكراهية دينية، بل ويجري إستيعاب هذا الموقف العقدي في تشكيل الاساس الايديولوجي للعنف، فقد نأى في خطوة احترازية تتسم بالذكاء والحذر عن تقديم مستمسك ادانة عليه من خلال الاستدراك المتأخر لموقفه العقدي، في محاولة لفصل المتن عن الهامش أو الشرح.

فبعد كل الصرامة اللغوية الصريحة، فإن الشيخ العودة يتلبّس دور الوصي الديني ليقدّم شهادة إطمئنان للأمة بأنها لم تخرج عن (وصف!!) الاسلام (فهي في قلوبنا ووجداننا، ونحن -بحمد الله- ممن يحفظ لهم وصف الإسلام، وإن وقعوا في الآثام، وحتى أولئك الذين وقعوا في الشرك جاهلين نؤثر عذرهم بالجهل، وبقاءهم على الأصل. ورحمته وسعت كل شيء، فنسأله ألا يحجبها عنا بذنوبنا، ولا عن أحدٍ من المسلمين، ويفترض أن نستفيد من خصمنا الكثير).

عبارة رغم المواربة المتعمدة فيها لا تنم عن تحوّل جوهري في فكر العودة، بل هي تتمسك بالأسس العقدية التي قامت عليها المدرسة السلفية، وهي ذات الاسس التي تمد الجماعات المسلّحة وشبكة تنظيم القاعدة بكل المبررات الايديولوجية للعنف.

عوداً على بدء فإن الشيخ العودة الذي بدّل طريقته بعد خروجه من المعتقل واكتفى بإلقاء الدروس الدينية في الفقه والعقائد واصلاح المجتمع والنأي عن العمل السياسي العلني والمباشر، بدا كما لو أنه بات قريباً من خصمه بالأمس، أي أجهزة الامن، والتي كتب حول رجالها في فترة سابقة دفعاً لشرورها من التعرض للشباب المتدين.

إن ثمة مهمات علنية يضطلع بها العودة يصعب فهمها ما لم توضع في سياق التعاون الأمني، وليس في ذلك تعريضاً للشيخ العودة، فلربما كان إحساسه بمسؤولية ضلوع عدد من المطلوبين في اعمال العنف يدفعه لتصحيح أخطاء الماضي، ولاشك أن الدولة بحاجة الى نفس الرجال الذين لعبوا دوراً تحريضياً كيما يؤدوا مهمات مضادة، لقدرتهم الفريدة على التأثير وبفعل نفوذهم الروحي والفكري وربما الاجتماعي.

يلعب الشيخ العودة دوراً مميزاً، بعد غياب الشيخ الحوالي الذي كان يتولى مهمة الشفيع بين المطلوبين والجهات الامنية، فالعودة يواصل مهمة رفيق دربه في مناشدة المطلوبين بتسليم أنفسهم. ومن المفارقات أن يكشف العودة عن طريقة تواصله مع المطلوبين، فبعد بيان المناشدة الذي وجهه الى المطلوبين، يعيد العودة فتح قناة التواصل التي دشّنها الحوالي في وقت سابق مع المطلوبين ووزارة الداخلية. فقد قام العودة باجراء اتصالات هاتفية مع المطلوبين في خطوة إعتبرت مؤشراً على ضعف شعبيته وتأثيره الروحي حيث يراه (الجهاديون بأنه (العودة) عقد الكثير من الصفقات مع السُلطة التي  كان مناوئاً لها وخارجاً عليها في فترة من فترات حياته) حسب كاتب في موقع إيلاف الالكتروني. إن الافراد الذين تأثروا بأفكاره الجهادية بالأمس لا ينظرون اليه بعين الرضا بسبب انتقاله المفاجىء من جبهة لأخرى، بعكس رفيق دربه الحوالي الذي تمسّك بمواقفه المتشددة حتى النهاية.

سؤال إعتراضي في الاخير يثار في سياق هذه القضية، فلماذا لم يصدر بيان من الشيخ العودة حول الاصلاحيين الثلاثة الذين مضى على اعتقالهم أكثر من عام دون وجه حق، سوى إفصاحهم بصورة سلمية عن مطالب مشروعة لا يختلف العودة مع أكثرها؟ فكان حري بالعودة أن يرفع مناشدة للسلطات السعودية بالافراج الفوري عن هؤلاء الثلاثة وزملائهم. فإذا كان بعض المطلوبين قد تورّط في أعمال عنف واصطبغت أيدي عدد منهم بدم الابرياء، فإن هؤلاء الاصلاحيين لم يشهروا سلاحاً ولم يسفكوا محجمة دم واحدة فما بال اغفال العودة عن قضيتهم وبذل أقصى الجهد لصالح هؤلاء المطلوبين، أليس في الأمر ما يدعو للغرابة والانكار في آن؟

الصفحة السابقة