هل حقاً سينتصر الإقتصاد على السياسة؟

تبدّد التبييت الإصلاحي

كل ما عجزت عنه الحلول السياسية والدبلوماسية والأمنية يتم حله بالاقتصاد الذي يحقق انتصارات متوالية.. قد يكون إرتفاع المداخيل النفطية ضربة حظ أو هدية من السماء، ولولاه كان يمكن للسعودية أن تتجه نحو مسار آخر غير الذي تسير عليه الآن، ولغدت الاهتزازات الامنية والسياسية المحلية سمة عامة في هذا البلد الذي أنعش لنصف عقد من الزمن سوق العنف في العالم.. كل شيء تغيّر بفعل الارتفاع القياسي لأسعار البترول، وأصبحت تأثيرات هذا الارتفاع شديدة الوضوح، لا على مستوى العنف الذي اقتطعت وزارة الداخلية جزءاً كبيراً من مداخيل النفط المرتفعة بإسم اعلان الحرب عليه، ولا على مستوى الاصلاح السياسي الذي بلغ حداً في التشويه لدرجة لم يعد الاصلاحيون الحقيقيون قادرين على تمييز أنفسهم وتكتيل صفوفهم سيما في ظل فترة يفترض ـ زعماً ـ أنها ستشهد أكبر تحوّل سياسي في هذا البلد بما يتطلب وجود جماعة إصلاحية وطنية تتبنى مشروع المصلح وتعمم مفرداته.. ولكن لم يشأ المصلح المزعوم حصوله لغياب النية الاصلاحية المبيّتة، ولذلك جرى التوسل بالاسلحة السياسية التقليدية في خلط أوراق اللعبة، وإعادة توزيع الجزر بدلاً من العصي.. لقد غدا كل شيء قابلاً للشراء حتى دعاة الديمقراطية في الغرب.

لقد ناضلت السعودية لسنوات طويلة مضت من أجل الحصول على عضوية منظمة التجارة العالمية، ولكنها في كل مرة كانت تواجه بقائمة طويلة من الشروط التي عجزت عن الايفاء بها كونها شروطاً تعجيزية في قسم منها على الاقل. إن انضمامها للمنظمة سيكون دون شك مفتاحاً لتغييرات في الشرق الاوسط، سيما مع قبولها بالتعاون التجاري مع اسرائيل، وهو شرط بات مقبولاً من الجانب السعودي بإستحضار بنود مبادرة الامير عبد الله التي طرحها في القمة العربية في بيروت قبل سنتين. وعلى أية حال، فإن إجراءات حصول السعودية على عضوية المنظمة لن تستغرق طويلاً فقد ترك المال في السياسة مفعولاً سحرياً.. ولاشك أن خطوات ضئيلة في الداخل متزامنة ومصاحبة مع حملة دعائية ضخمة في الخارج تسهم في تعزيز الموقف التفاوضي ستحسم الأمر لصالح الموقف السعودي، وهو ما جرى بالتحديد في قضية انضمام السعودية لمنظمة التجارة العالمية. فقد كانت الاصلاحات السياسية والاقتصادية الشكلية والطفيفة ضرورية لتأهيل السعودية لموقف قوي في العملية التفاوضية الخاصة بعضوية المنظمة. المسؤولون، بطبيعة الحال، يرفضون منطق التنازل لاملاءات الآخر، وإن كانوا يقتفونها بحذافيرها حين يتطلب الامر ذلك، ولكنهم يدركون تماماً بأن بعض شروط المنظمة قد تم تطبيقها في الداخل لأنها ملزمة وبدونها قد يكون حظ السعودية في عضوية المنظمة ضعيفاً. هذا لا يعني بأية حال أن عملية التحديث في بعدها الفني والتقني قد توقفت فهناك تدابير في التغيير لا يمكن للدول أن تعيش دونها، ولكن الاصلاح السياسي أمر آخر في نهاية المطاف.

وكأحد الاجراءات المتعلقة بالاستثمارات الاجنبية في السوق السعودية، جرى تخفيض القطاعات التي كانت تحظى بحماية إزاء الملكية الاجنبية، والتي كانت تعرف بالقائمة السلبية، وهي قائمة ستختفي من الوجود كأحد متطلبات الانفتاح الاقتصادي، وفي النهاية كأحد ممليات منظمة التجارة العالمية، فقد لحظنا بأن قطاع الاتصالات قد بات مفتوحاً أمام الاستثمار الخارجي وسيلحق به قطاع التأمين.. إن القائمة السلبية تتقلص تدريجياً كأحد شروط العضوية.

انضمام السعودية الى منظمة التجارة العالمية ليس فحسب لتحقيق بعض الاغراض الاقتصادية ذات الاهمية الخاصة لدولة نفطية كالسعودية والتي تسعى الى إزالة عدد من التعرفات الجمركية المفروضة على منتجاتها البتروكيمائية، ولكن أيضاً ستجعل من السعودية البوابة الكبرى للشرق الاوسط والتي منها ستدخل العولمة الاقتصادية عصرها الذهبي ومرحلة الاندماج الشامل.

إن الاصلاحات الاقتصادية والتشريعية التي قامت بها السعودية في السنوات الاخيرة تكشف عن الميل المتعاظم لدى الدولة لجهة الانضمام الى المجال الحيوي للاقتصاد والسياسة الدوليين، وهو مجال خسرته السعودية منذ الحادي عشر من سبتمبر. ولكن السعودية التي لم تفلح السياسة والدبلوماسية الكثيفة في جبر كسورها الخطيرة، وجدت في خيار الانفتاح الاقتصادي مع ارتفاع أسعار النفط أجدى وأنفع. لقد لحظنا تزايد حجم الاستثمار والذي قيل بأنه زاد بنسبة 4600 بالمئة في الربع الثاني من هذا العام مع زيادة في تراخيص الاستثمارات بلغت نحو 6.5 مليار دولار بالمقارنة مع 747 مليون دولار في الربع الثاني من العام الماضي.

إن هذه الزيادة في حجم الاستثمارات وتراخيص الاستثمار المؤسسة على تغييرات تشريعية واقتصادية تلمح الى إتجاه النمو الذي تشهده الدولة، بالنظر الى التطلع الكبير الذي يستهدف جذب ما يربو على تريليون دولار من الاستثمار الاجنبي المباشر خلال العشرين سنة القادمة الى داخل السعودية. يقابل ذلك أيضاً، أن السعودية هي مصدر للاستثمار بفعل المداخيل الكبيرة من الاحتياطات النفطية الهائلة، فهي تزوّد السوق الدولية بكمية وفيرة من المال من اجل شراء إحتياجاتها الاساسية في التعليم والتكنولوجيا والدفاع والغذاء وغيرها.

تسعى السعودية الى إعتماد شكل من أشكال اللبرلة الاقتصادية الموجّهة على غرار ما اتبعته في بداية الستينيات حيث إختارت مساراً تحديثياً منزوع المفعول السياسي والايديولوجي، فتم تحويل الدولة تكنولوجياً وعمرانياً وتصنيعياً مع استعمال أقصى الرقابة الايديولوجية عبر كتائب الشرطة الدينية والرقابة الفكرية من أجل درء التداعيات السياسية والايديولوجية لعملية التحديث.. وبطبيعة الحال، فإن هذا الاجراء لا يمكن تطبيقه بحذافيره في الوقت الراهن بسبب انتصار الثورة الاتصالية على كل أجهزة الرقابة الفكرية والاعلامية في العالم، ولكن قد تأخذ الدولة بمضمون الخيار نفسه، أي تبني البعد الاقتصادي لليبرالية مع نزع الفتيل السياسي والفكري والى حد ما الاجتماعي أو على الأقل تحييده لفترة من الوقت من أجل إحكام السيطرة على مسار التحول.

هناك بلا شك فرص إقتصادية هامة يجري استغلالها تساعد على السير في خيار اللبرلة الاقتصادية المقيدة، وإن المداخيل النفطية العالية ستسهم في تنمية حوافز الاستثمار في القطاع النفطي والصناعي.. لقد أعلنت شركة أرامكو النفطية عن خطط لبناء ثلاث مصافي نفطية معدّة لتصدير البترول في كل من رابغ وينبع وراس تنورة، كما بدأت شركة سابك للصناعات البتروكيمائية مشروعات استثمارية ضخمة وزيادة حجم مشاركتها في القطاع الصناعي المحلي والعالمي.

كان لعامل العنف دور في كبح الطموح الاقتصادي لكثير من المستثمرين المحلين والاجانب، ولكن الاقتصاد كان له مفعوله المنتظر في إحتواء ومحاصرة بؤر السخط والتذمر عبر ضخ كمية كبيرة من الاموال والآمال. فهناك قدر كبير من الاسترخاء الامني، ولعل بعض الأمراء يبالغ في التقليل من تأثير الارهاب والتخلخل السياسي في المنطقة والذي ترك تأثيرات واضحة على قرار الشركات الاجنبية وأدى بالتالي الى تأخر وصول الاستثمار الخارجي. إن الانحسار النسبي للنشاط الارهابي عقب سلسلة مصادمات مسلّحة أودت بحياة عناصر قيادية في جماعات العنف منح المسؤولين السعوديين ثقة أكبر في دعوة الشركات الاجنبية للقدوم للسوق السعودية على إعتبار أن الاخيرة باتت أكثر آماناً من مناطق عديدة في المنطقة، سيما مع الانتقال السلس للسلطة في السعودية ووصول الملك عبد الله المعتدل ظاهرياً الى العرش.

في ظل هذا الوضع، أي تولي الملك عبد الله السلطة بما يحمله من آمال إصلاحية مزعومة وإنتعاش اقتصادي ملحوظ بفعل الارتفاع القياسي لأسعار النفط، وتراجع كبير لحوادث العنف، فإن الفرص الاقتصادية التي يمكن أن تنشق عن هذا الوضع ثرية ومغرية، ويدرك المجتمع التجاري طبيعة المنافسة التي يمكن أن تخلقها هذه الفرص وما يتوقع منها من عائدات مرتفعة للغاية. إن المنطق المدوّي للمال يجعل من السياسة تابعاً خانعاً، بل له قدرة على تعطيل مفعول التغييرات السياسية الطموحة.

بطبيعة الحال، فإن دوران عجلة الاقتصادي بوتيرة عالية يتطلب إحداث تغييرات شكلية في عالمي السياسة والمجتمع، ولكن كما أسلفنا لا تجعل تلك التغييرات مدلولات رصينة على الاصلاح السياسي. إن دخول المرأة الى إنتخابات الغرف التجارية قد تبعث رسالة خاطئة للخارج عن نوايا إصلاحية غير مبيّتة، مع الالتفات دائماً الى أن مثل تلك التغييرات الطفيفة يجري استثمارها بأقصى ما يصل اليه تشويه العملية الاصلاحية في بعدها السياسي.

إن التجارب السابقة تنبّه برنين مزعج الى أن الاصلاح السياسي لا يسير جنباً الى جنب الانتعاش الاقتصادي بل على العكس دائماً فإن الاصلاح السياسي الشامل والجوهري يأتي في ظل إخفاق إقتصادي واختناق ثقافي واجتماعي. إن ما تخبرنا تجربة اجهاض النشاط الاصلاحي منذ الخامس عشر من مارس العام الماضي هو أن قراراً غاشماً صدر من داخل العائلة المالكة يقضي بإعادة العمل بخيار الجزرة في الداخل والخارج من أجل وأد الجنين الاصلاحي الذي كان على مقربة من الولادة المكتملة.

كانت القرارات الجديدة في عالم الاقتصاد تقصي كل عملية إصلاحية مأمولة، فالسياسي تعوّد على إحتكار السلطة بكاملها، وأن تنازله عن جزء منها لا يتم الا في حالة واحدة هي افتقاره للقدرة على الاحتفاظ بها كاملة، فالاصلاح ليس عقيدة وقيمة لدى السياسي بل هو خيار إضطرار وبديل إكراهي يخضع له حين تكون كامل السلطة مهددة.

حين نجحت العائلة المالكة في ضرب التيار الاصلاحي كانت تعدّ نفسها لتقديم ثمن إقتصادي محلياً وخارجيا، وليس إقحام قطاع كبير من السكان في دوامة سوق الاسهم على غرار ما حصل في عام 1992 أي بعد الاعلان عن الانظمة الثلاثة سوى تعويضاً مشوّهاً يحرف إهتمام الرأي العام عن الاصلاح السياسي ويأسره بصورة شبه كاملة لمتابعة تقلبات السوق ارتفاعاً وانخفاضاً، بدلاً من الانشغال في المضامين الهزيلة للاصلاح السياسي المعتمد رسمياً.

في الخارج، تدير العائلة المالكة معركتها بإتقان إستناداً الى تجربة طويلة في كيفية إستثمار الاقتصاد في دعم أو تعطيل الخيارات والقرارات السياسية، وفي أحيان عديدة تعطيب التوجهات المعلنة التي تنطوي على مضار سياسية. لا يجب التقليل من شأن العقلية السياسية السعودية في التعامل مع الغرب عموماً ومع الولايات المتحدة بوجه خاص، وهناك من التجارب ما يكفي للزعم بأن السعودية نجحت في مرات عديدة في تسفيه المبادىء الديمقراطية الاميركية عن طريق صفقة تجارية مع الحراس الافتراضيين على الديمقراطية في الولايات المتحدة. ولأن هؤلاء الحراس يدركون أيضاً كيف أن الديمقراطية قابلة للاستعمال كسلاح وورقة ضغط من أجل جني المال الحرام، فإن السعودية ودول عربية عديدة تدرك بأن حتى الديمقراطية قابلة للشراء. نعلم بأن التحالف الاستراتيجي بين البلدين قد أمدّ الطرفين بآليات فهم متبادل، وبالتالي فإن هناك تكتيكات سياسية ورسائل غير مباشرة يدرك الطرفان معانيها الحقيقية وكيفية التعامل معها.

نتذكر قبل أكثر من عقد حين بدأت الادارة الاميركية تتحدث عن الديمقراطية في الشرق الاوسط، وكيف أن الرئيس بوش الاب قد ألقى باللائمة على جون كينيدي الذي وعد بدمقرطة السعودية ولم ينجز وعده، وأنه سيتدارك أخطاء أسلافه، وكانت حينها الولايات المتحدة قادرة على إحداث تغييرات جوهرية وعميقة في السعودية، لسبب بسيط وهو أن الدولة السعودية بالكامل كانت واقعة تحت تصرف الادارة الاميركية إبان حرب الخليج الثانية.. ولكن انتهت الحرب وعوّضت السعودية جنرالات الحرب الاميركيين بفواتير وصفقات مغرية، ونسي الرئيس بوش الاب ما وعد به.. ونتذكر في تلك الفترة أن صفقات دفاعية متوالية تمت بين السعودية والولايات المتحدة وبلغت فيها الرشاوى حداً صادماً الى درجة أن صفقة طائرات بقيمة 9 مليارات بلغ مجموع الرشاوى فيها 4 مليارات دولار تقاسمها وسطاء سعوديون وأميركيون.

في هذا العام تكاد التجربة تكرر نفسها، وربما على مساحة أكبر فمن شارك من المسؤولين الاميركيين في مندبة الحظ الاميركي على تجاهل مشروع دمقرطة السعودية والشرق الاوسط عموماً كانوا كثر، الى درجة أن الرئيس جورج بوش الابن ووزيرة خارجيته كونداليزا رايس وغيرهم مارسوا نقداً ذاتياً غير مسبوق، وحمّلوا الرؤوساء السابقين أخطاء الماضي ومسؤولية التقاعس عن دمقرطة هذه المنطقة الحيوية.. ولكن صمتاً بدأ يكسو الدبلوماسية الاميركية منذ اشتغلت الماكينة المالية السعودية، التي تحركت وفق خطة متقنة، فقد استعد تجار السلاح من كبار السياسيين الاميركيين لتلقي العروض المغرية. ففي الشهر الفائت شهدت أروقة البتاغون والكونغرس أحاديث عن صفقات عسكرية قريبة بملياري دولار كمرحلة أولى، ومن الطبيعي أن يكون نصيب الكبار من الجانبين كبيراً، ولا ننسى التذكير بأن الجزء الأعظم من الصفقة سيكون من نصيب الحرس الوطني. ونتذكر أيضاً زيارة الامير سلطان وزير الدفاع الى الولايات المتحدة في نفس الفترة، كيف وهو الأكثر خبرة في عقد الصفقات العسكرية مع ضمان حصته الثابته في الرشاوى.

خلاصة القول أن العائلة المالكة تعيد توظيف المال الفائض في إتجاه المحافظة على النمط التقليدي السائد مع تغييرات شكلية ذات نكهة إصلاحية وإن كانت قد تؤدي الى تعطيل مسيرة التحول السياسي العميق والمطلوب شعبياً.

الصفحة السابقة