دولـة الأسْــهُـم

لا حديث هذه الايام يستهوي الناس في مجالسهم وفي حلهم وترحالهم أكثر من الحديث عن سوق الاسهم، التي باتت جداولها حاضرة على الدوام في شبكة الانترنت ومحطات التلفزة المحلية والفضائية وفي الاسواق العامة، بل إن ثمة أنباء عن تسهيلات أخرى متطوّرة سيجري إعتمادها لتسهيل عمليات المضاربة في سوق الاسهم ولايستبعد أن يتم نقل أخبار الاسهم بصورة مباشرة الى الطائرات في الرحلات الطويلة.. إن هذه الظاهرة المتفشية قد أحدثت دون شك تأثيرات إجتماعية ونفسية واقتصادية بالغة الخطورة، ولم يسلم منها الرابحون والخاسرون على السواء، فمن يدخل هذه السوق لا يخرج منها معافى وان كان رابحاً، وإن أسوأ ما فيها ما تحدثه من آثار نفسية واجتماعية وذهنية على الافراد المنغمسين في متابعة مجريات السوق.. إنها ببساطة تنهب اهتمام وتركيز الفرد بحيث لا يعي من عالمه الا بما يعكسه المؤشر على الشاشة، ولا يعرف هؤلاء المستدرجون الى السوق الا لونين وهما الأخضر والأحمر، حتى أطلق البعض العنان لخياله الخصب كيما يفتش عن تجسيدات لهذين اللونين، سواء بين أعلام الدول أو الأكلات الشعبية وحتى نوادي الرياضة، فقد أصبح اللون أحمر ممقوتاً لما يحمل من نذر شؤم على المضارب في هذه السوق فيما ينعش اللون الاخضر حلماً جميلاً، يتطلع لأن يحققه المضاربون للحصول على الثراء بضربة حظ ذهبية.

سمعنا أنباء عن استقالات من الوظائف الرسمية بغرض الانتقال الى سوق الاسهم، وبعضهم باع بيته وسيارته من أجل وضع حصيلة العمر في هذه السوق التي يجني منها رابحون بسطاء بعض المال دون قراءة واعية لتحولات السوق ومفاجئاته ونهاياته. ومن غريب ما سمعنا أيضاً أن طائفة من المعلّمات قدمن إستقالاتهن من إدارة التربية والتعليم وقررن بيع مجوهراتهن وبعض الممتلكات الخاصة للدخول الى سوق المضاربات اليومية في سوق الاسهم. المشكلة ستبدو أكبر فيما لو حقق هؤلاء النسوة بعض الارباح وطارت أخبارهن في الآفاق وبلغت آذان نظيراتهن ممن يعتشن على مرتب شهري زهيد لا يفي بمتطلبات الحياة، تماماً كما حصل مع بعض الرجال الذين تركوا وظائفهم وجاءوا الى سوق الاسهم من أجل خوض مغامرة الحظ وتعديل مسار حياتهم عن طريق ضربة ذهبية.. إنه سوق لا يتطلب سوى قليلاً من الجهد وقدراً كبيراً من الجرأة للحصول على كثير من الربح..أليس كذلك؟

هؤلاء الذين يزجّون بأنفسهم في سوق لا تحكمه معايير أخلاقية ولا حسابات دقيقية يكتفون بمجرد ما يصل اليهم من أخبار الرابحين في عمليات سريعة، والذين لم تكن أرباحهم مبنية على معرفة تفصيلية وعلمية بطبيعة السوق إرتفاعاً وإنخفاضاً، فسوق الاسهم في بلادنا هي إنعكاس لطبيعة الدولة نفسها التي لا تعتمد قواعد محددة ولا تسلك سبيلاً واضحاً، فالارتفاع والانخفاض يحدثان دون معرفة أسباب ذلك، سوى ما يشاع لاحقاً عن تصرفات غير أخلاقية لبعض المستثمرين الكبار في بيع أو شراء حصة ما من رأسمال هذه الشركة وتلك.. إنه وحده المكان الذي لا يتطلب مستوى معرفياً عالياً، ولا كفاءة علمية فريدة..

ولن يكون حديثناً عن التفاصيل التقنية لسوق الاسهم ولا عن الرابحين والخاسرين وانما عن الوضع الذي خلقته الدولة من خلال سوق الاسهم، وما هو تأثيراته على المجتمع. فهذا الوضع لا يكف عن إطلاق تحذيرات خطيرة من وقوع إختلالات مفاجئة في أوضاع الافراد والجماعات، وقد حدث شبيه ذلك في بداية التسعينيات رغم أن الاوضاع الاقتصادية كانت بالغة السوء بفعل نضوب الموارد المالية والمصادر الاحتياطية كأحد تداعيات حرب الخليج الثانية، ولكن سوق المضاربات اليومية في سوق الاسهم إجتذبت قطاعاً كبيراً من السكان، وكان ذلك جزءا من محاولات الالتفاف على التجاذب السياسي الحاد وتصاعد العمل المطلبي والاصلاحي على المستوى الوطني..

الا أن ما حصل في السنوات الاخيرة كان مختلفاً بل وأشد خطورة، فهذه السوق قضت على الفوارق الاجتماعية من حيث عدد المتعاملين فيها وخلفياتهم وتحدراتهم، وليس بطبيعة الحال بحجم المضاربات، فالفقراء والاغنياء وأصحاب الدخول الصغيرة والمتوسطة والكبيرة هم شركاء في هذه السوق وان تفاوتت أرباحهم وخسائرهم.

هناك دون شك انثيال جماعي في هيئة حشود متدفقة على شاشة المعاملات في الانترنت وصالات البنوك والاسواق العامة بصورة شبه يومية، وعلى حد قول أحدهم فإن بعض المضاربين صاروا أشد التزاماً وإنضباطاً بالدوام من بعض الموظفين الرسميين في البنوك.. لا ضير في أن يجني المضاربون أرباحاً لو كان ذلك في حدود عمل إستثنائي لا يستهلك سوى جزء قليل من الجهد والوقت، ولكن الحال غير ذلك.

إن الدولة باتت في حالة رخاء سياسي طالما أن قطاعات إجتماعية واسعة تصرف جهدها في نشاط إقتصادي يستهلك طاقتها الكاملة دون أن تبقي منها شيئاً ذي بال يمكن توظيفه في المطالبة بتحسين أوضاع حقوق الانسان، والحريات العامة، وتحقيق العدل والمساواة والمشاركة السياسية.. فتلك مفردات تبدو باهتة وغير هامة حين توضع في سياق الاستنزاف التام لمجهودات الأفراد المتعاملين في سوق الاسهم.. إنها بكلمة أخرى مفردات لا تشكل أولوية ملحّة طالما أن هناك مجالاً واسعاً للتعويض عنها عبر جني المال والمزيد منه.

لا نظن بأن الدولة ستجد في غير سوق الاسهم مكاناً تشغل الناس فيه عنها على الاقل لفترة قادمة، ولذلك فهي شريك رئيسي في هذه السوق، وستعمل على إبقاء فورانيته وعنفوانه كي تجتذب المزيد من الافراد والمحافظة على من هم بداخل السوق حتى لا يخرجوا منه.. لا شك إنها تضخ كمية كبيرة من المال في هذه السوق عبر شركاء ووكلاء عنها أو عن كبار المسؤولين فيها كجزء من الحفاظ على ديناميات السوق وجاذبيته.. إن كمية من مداخيل النفط تدخل الى سوق الاسهم، وبالتالي فإن دولة الاسهم ستبقى فاعلة لحين من الوقت قبل أن تقع انكسارات تخرج الناس أفواجاً من سوق الاسهم الى سوق السياسة.

الصفحة السابقة