دابة الأرض تنخر في دولة مغلقة

نظام الإلحاق والإستتباع السعودي للمقاطعات والمذاهب

الدولة السعودية هي نتاج للأيديولوجيا الدينية (ونقصد الوهابية).

والهوية السائدة التي لا يمكن وصفها بـ(الوطنية) هي أيضاً نتاج الدولة ومن ثم نتاج تلك الأيديولوجيا آنفة الذكر.

والعلاقات بين الجماعات تتحكّم بها الأيديولوجيا، أي الفوارق المذهبية التي يعتقد الوهابيون أنها فوارق (دينيّة)؛ بمعنى أن الإختلافات ليست أختلافات بين مذاهب ورؤى، بل هي اختلافات أديان، على اعتبار أن المذاهب غير الوهابية (كالشيعة والصوفية) أديان قائمة بحدّ ذاتها وليست مذاهب تمتّ الى الدين الإسلامي.

أما (الوحدة السياسية) القائمة فهي ليست وحدة (وطنية)؛ بمعنى أن الجامع المشترك بين السكان ليس (الوطن) بامتداداته الجغرافية، بقدر ما هي السلطة السياسية القائمة.

وهي أيضاً وحدة (قسرية مفروضة) وليست طوعيّة اختيارية؛ فأصل قيام الدولة السعودية جاء عبر الحرب والإحتلال والغزو العسكري والضمّ القسري لمناطق ودول مستقلة في الأساس؛ ولم تكن هناك رغبة في الأساس بين النخب في كل تلك المناطق المحتلة حبّذت أو دعت الى أو طلبت الوحدة فاتفقت على إنشائها طوعاً وبدون سلاح.

بهذا المعنى، فإن الوحدة السياسية هي وحدة (إستتباعية) أو (إلحاقية).. أي أن تلتحق المناطق المحتلّة بالمنطقة التي فرضت الإحتلال (نجد). تلتحق بها سياسة وديناً واقتصاداً وثقافة وعسكراً وجغرافيا وتاريخ ورموز.

وهذا يستبطن فيما يستبطن، الدعوة الى انحلال الأطر الثقافية والدينية والذهنية القائمة في كل منطقة، بغرض إعادة استتباعها بالمركز النجدي.

وهذه المناطق أو الإمارات التي كانت يوماً مستقلة، باعتبارها ملحقاً لغيرها، لا يُسمح لها بالتميّز أو بالأصح إبقاء تميّزها الجغرافي والثقافي والسياسي والتاريخي، ولا يمكن لها أيضاً حسب الرؤية القائمة المساهمة في صناعة ثقافة عامة، أو أن تُدخل عناصرها الثقافية الخاصة كجزء من الثقافة العامّة؛ كما لا يسمح لها بتكوين حريم مصالح يؤطرها، بل يجب أن تكون على الدوام عالة على المركز، تعيش على فتاته، وهو الذي يقرّر حصتها من الخدمات ومقدار مساهمتها في النشاط الإقتصادي.. فهذا النشاط الأخير ليس مفتوحاً كما يعتقد البعض للمنافسة بين الأفراد حسب قدراتهم وطاقاتهم وكفاءاتهم، بل هو مضبوط بشكل لا يمكن أن تتفلّت معها قوى تعينها على الإستقلال في يوم من الأيام، الإستقلال بهويتها وبمكانتها عن مكونات الدولة الأخرى، وخاصة المكون النجدي فيها. فمن يتفلّت اقتصادياً وثقافياً يمكنه أن يعيد مراجعة شروط (التوحيد السياسي) الذي قام في القرن الماضي، ويستطيع الإتكاء على خيارات متعددة غير خيار الإستتباع والإستلحاق وربما الإستزلام.

لقد قامت وحدة ألمانيا على المؤسسات الوطنية، واستبعدت نظام الإلحاق للمناطق والمقاطعات، بل واستحدثت تطويرات دستورية توحّدت على أساسها النخب الألمانية المتفرّقة، وبنت كيانها الوحدوي ـ تالياً ـ على أسس المساواة والمواطنة. أما في المملكة فقد ابتنيت مؤسساتها منذ فجر الدولة على أسس مناطقية ومذهبية غير وطنية، واستمرّ نظام الإلحاق للمركز النجدي أمنياً وسياسياً واقتصادياً ومذهبياً، الأمر الذي أبقى الدولة حبيسة السجن الذي بنته لغيرها، وحبست معها بالتالي حتى الفئة النجدية المسيطرة.

كيف؟

من الناحية النظرية، فإن نظام الإستتباع المفروض والمرفوض معاً لا بدّ أن يواجه مقاومة شرسة، إ ذ لا يمكن أن تقبل المناطق الأخرى الأكثر تطوراً أو الأكثر مساهمة في الدولة (اقتصادياً أو دينياً) أن تكون مجرد تابع ذليل لعنصر صغير ومتخلف عنها؛ ولا يمكن أن تخضع هذه المناطق إلا بقوة السلاح؛ كما خضعت بادئ الأمر في معارك دموية سطرت في التاريخ السعودية. إن استمرار نظام الإستتباع يعني استمرار الصراع الداخلي، وصعوبة التعايش الإجتماعي، وكذلك صعوبة بناء هوية وثقافة وطنية، وأيضاً صعوبة بناء مؤسسات الدولة على أُسس وطنية تحمي الدولة نفسها من التآكل والإندثار. الإستتباع لا يعني شيئاً آخر غير الحرب الداخلية بصورها المختلفة التي قد تتطور الى حرب بالسلاح. ولا يعني شيئاً آخر غير توصيف الدولة بصفتها الحقيقية: (دولة نجدية/ أو دولة وهابية) لا دولة سعودية ولا وطنية؛ ومثل هذه الدولة لا يمكن أن تحرز استقطاباً ولائياً من معظم السكان، لأن الجماعات كما الأفراد تبحث عن إنتماءات تتناغم مع ثقافاتها ومصالحها، وتشعرها بأن الدولة منها وإليها؛ ترى فيها انعكاساً لصورتها، وترى فيها تمثيلاً حاضراً ومستقلاً لكينونتها. ونظام الإستتباع لم يُخلق لتحقيق هذا الأمر.

والإستتباع يفشل ـ وقد أفشل بالفعل ـ سياسة الإدماج والصهر الديني والسياسي وغيرهما. فكما هو واضح أنك إذا أردت أن تدمج شخصاً في مجتمع ما، فإنه يعني أن يكون واحداً مثل الآخرين الأعضاء، له ما لهم من حقوق، وعليه ما عليهم من واجبات. والإستتباع يبقي الفرد المراد دمجه في الوهابية ثقافة أو سياسة مواطناً من الدرجة الأدنى، وبالتالي فإن سياسة الدمج والقبول بالوهابية او بالنظام السياسي تكون صعبة إن لم تكن مستحيلة. لا يمكن ـ والحال هذه ـ أن تحدث عمليتا الإستتباع والإدماج معاً، فالإستتباع يعني أن هناك فئة مختارة، وشعباً مختاراً، له حظوة عند الدولة، وله حقوق أكثر مما لدى الاخرين، وتعامله الدولة باحترام أكثر، وترعى مشاعره وتستمع لمطالبه، وبالتالي فهو (محسود) من البقية، (مكروه) منها، لا يرى فيه الآخرون تميّزاً إلا التصاقه بالدولة الراعية له. والدولة نفسها، حين التصقت بذلك الشعب النجدي المختار، فإنها قَصُرت عن أداء وظائفها الرئيسية، واتهمت بالمحاباة، وانفصلت مشاعر العامّة عن رموزها، وأصبحت دولة فئوية: (دولة الخاصة) وليس (دولة العامة) التي يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية على أسس المواطنة.

هنا تنحبس الدولة وتنغلق على نفسها، وتربط مصيرها بمصير الفئة النجدية كما هو حاصل اليوم.

وهنا تنحبس المناطقية النجدية على نفسها، وتفقد القدرة على إقناع الآخرين بأحقيتها في الحكم والثروة والسيادة.

وبناء على ذلك تنطبق دولة الخاصة مع شعب الله المختار، فتتولد هوية مفروضة ومكروهة، لا جذور لها في غير محيطها النجدي، ولا ولاء لقيادتها بعيداً عن أسوار المناطقية والمذهبية.

وحين يتطور الأمر تصبح الهوية النجدية مغلقة على أهلها، ويصبح انفكاك الدولة عنها صعباً؛ بل أن الدولة تتسمّر في مكانها، لا تستطيع أن تطور وتصلح نفسها إلا بالقدر الذي يتطوّر معه شعبها المحبوس هو الآخر في إطاره الديني الوهابي. وفي مثل هذه الأوضاع البائسة، تكون الدولة قد ماتت، ولم تبق منها إلا العصا، التي يخوّف بها السكان الذين لا يعلمون أن الدولة ماتت، بل ينتظرون أن تثبت لهم دابّة الأرض التي تنخر في تلك العصا فيشهدون انهيارها عياناً.

الصفحة السابقة