إنتعاش متأخر للسياسة الخارجية

السعودية وصناعة دور جديد

بدأت السياسة الخارجية السعودية تشهد إنتعاشاً ملحوظاً خلال الشهور الماضية بعد فترة ركود طويلة بفعل تأثيرات الحادي عشر من سبتمبر، والسخونة العالية لملفات داخلية برزت الى السطح ومن أبرزها: العنف والاصلاح السياسي. فقد حققت العائلة المالكة تقدّماً ملحوظاً في إستيعاب خطر جماعات العنف المسلّح عبر آليتي العصا والجزرة ممثلة في القوة المجرّدة والمناصحة، وعطّلت مسيرة التيار الاصلاحي عبر اعتقال رموزه وفرض تدابير قمعية ضد الفعل الاصلاحي المتنامي. لا يمكن، بطبيعة الحال، إغفال دور العامل الاقتصادي الذي كان له تأثيره المباشر على الاوضاع الداخلية، والذي منح العائلة المالكة قدرة على لملمة أطراف السلطة التي شارفت على الانفراط قبل سنتين.

لقد بدأت دبلوماسية النفط تعمل بصورة فاعلة في إعادة بناء شبكة التحالفات الخارجية وتنشيط دورة الحياة في السياسة الخارجية السعودية على المستويين الاقليمي والدولي. بدأت تلك الدبلوماسية أولاً بترميم التحالف الاستراتيجي بين السعودية والولايات المتحدة، حيث كان للقاء ولي العهد (الملك الحالي) عبد الله بالرئيس الاميركي دور في تنقية الاجواء السياسية بين البلدين، وقد جاء ذلك اللقاء بعد قيام العائلة المالكة بحملة علاقات عامة خلال النصف الاول من عام 2002 حيث تكفّلت شركة كورفيس كومونيكيشين بمهمة إعادة طلاء صورة السعودية داخل الولايات المتحدة بقيمة 14.6 مليون دولار. ثم جاءت مبادرة السلام في الشرق الاوسط التي حملها الملك عبد الله التي حملها الى قمة بيروت عام 2002 في السياق ذاته، يضاف الى ذلك التعاون العسكري غير المعلن (عبر تسهيل إنطلاق الطائرات العسكرية الاميركية من القواعد العسكرية السعودية في الشمال، وكذا مرور الصواريخ عبر الاراضي السعودية)، بالرغم من الخسارة السياسية التي شعرت السعودية بفداحتها بعد سقوط النظام العراقي وبدء ترتيبات الدولة الجديدة في العراق والتي لم تكن السعودية قادرة في حينها على إستثمارها سياسياً أو حتى إقتصادياً بسبب إستحواذ الملفات الداخلية على الاجندة السياسية، قبل وصول عبد الله على العرش وكذا قبل أن تتطمئن العائلة المالكة الى قدرتها التامة على تثمير المداخيل النفطية في العمل الدبلوماسي الخارجي.

لقد بدا واضحاً منذ شهور قليلة أن الخطاب الرسمي السعودي قد تغيّر كثيراً، بعد أن نجحت العائلة المالكة في إمتصاص الضغوط الغربية والاميركية وبخاصة منها المتعلقة بموضوع دمقرطة الشرق الاوسط، وبعد تقدّمها المحلوظ في ضرب جماعات العنف. التحفظات السعودية التي كانت تحول دون التحرك السياسي الفاعل بدأت تستعلن عن نفسها من قضايا عديدة ظهرت مرة في موقف السعودية من التغييرات السياسية في العراق حيث بدأت تطالب عن طريق غير مباشر بلعب دور مؤثر في ترتيبات الحكم في العراق، وكانت تصريحات وزير الخارجية الامير سعود الفيصل واضحة حين وجه إنتقادات مباشرة للدور الايراني النافذ في العراق، وذكّر الاميركيين بوقوف بلاده الى جانبهم خلال الحرب العراقية الايرانية للحيلولة دون تنامي التهديدات الايرانية للمصالح الحيوية للولايات المتحدة. إنتقادات الامير سعود الفيصل المتكررة شملت أيضاً البرنامج النووي الايراني الذي يقع ضمن دائرة الدبلوماسية المتوازية، حيث لقيت تلك الانتقادات أصداء إيجابية في الغرب وربما إسرائيل.

بالتأكيد، فإن للسعودية تحافظاتها الجديدة على السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، وكما لفت الى ذلك بعض المراقبين فإن العلاقة الاميركية ـ السعودية لم تكن أبداً علاقة مودة وقد أصبحت الآن منطبعة بالحذر الشديد، وهو ما دفع بالملك عبد الله الى فتح أفق الشراكات الاقتصادية ذات الدلالات السياسية غير المغفولة. لقد حاولت السعودية أن توسّع هامش المناورة التي ضاقت الى حد كبير بعد أحداث سبتمبر 2001، وقد وجدت في فضائها الآسيوي تعويضاً نفسياً وسياسياً، الى جانب التعويض الاقتصادي بالغ الأهمية بالنسبة للدولة السعودية التي تتطلع الى إستثمارات اقتصادية خارجية غير مكلفة سياسياً. يتذكر الأمراء الكبار المهانة التي وجهها الاميركيون لهم بعد رفع الحصانة عن الاميرين سلطان ونايف إثر تقدّم 600 عائلة من أهل ضحايا 11 أيلول/سبتمبر 2001 ضد مسؤولين ومؤسسات بارزة وخصوصاً من السعوديين، منهم الأميرين سالفي الذكر، مطالبة بمبالغ تصل قيمتها الى ألف مليار دولار. لقد وضعت الدعوى الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة والمقدرة قيمتها بـ450 مليار دولار في مهب المصادرة المحتملة. لقد نبّهت تلك القضية العائلة المالكة الى خطورة استثمار أموال إضافية في الولايات المتحدة، سيما وأن مثال تجميد أموال ايران وسوريا سيكون دون شك حاضراً، وهو ما دفع بالمستثمرين السعوديين الى نقل جزء كبير من مودوعاتهم في البنوك الاميركية الى السوق المحلية وقد يفسّر ذلك جزئياً على الاقل ازدهار سوق الاسهم وتنامي حركة قطاع العقارات، ويفسّر أيضاً قرار الحكومة السعودية للبحث عن فرص إستثمارية في شرق آسيا وشبه القارة الهندية.

من وجهة النظر الرسمية السعودية، فإن الشراكات الاقتصادية مع الغرب والولايات المتحدة بوجه خاص تنطوي على ضغوطات وأشكال إبتزاز غير مأمونة العواقب. فالتلويح بقضايا الدمقرطة، وحقوق الانسان وحقوق الاقليات والعمال الاجانب (المسيحيين) من بين قضايا أخرى يثير حفيظة السعوديين الذين يجدون أنفسهم دائماً مضطرين لدفع أثمان باهظة من مداخيل النفط. يتذكر الأمراء قبل سنوات قليلة كيف تحوّلت السعودية الى هدف ثانٍ بعد العراق في أجندة الخط اليميني المتطرف داخل الادارة الاميركية، بل بلغت واحدة من الدعوات المتطرفة الى حد تقسيم السعودية، كجزء من العقاب الذي يجب أن تناله بسبب تورط مواطنيها في الاعتداءات على مركز التجارة العالمي وعلى مبنى البنتاغون.

بالرغم من أن آثار تلك المخاطر التي استوعبتها السعودية في الشهور القليلة الماضية، بعد أن إختفت تصريحات الادارة الاميركية بشأن الدمقرطة فضلاً عن تراجع دور الخط اليميني المتطرف في صناعة القرار السياسي الاميركي، الا أن العائلة المالكة عمدت الى توفير ضمانات مستقبلية تحول دون خضوعها لضغوطات من هذا النوع. بطبيعة الحال، فإن النفط كمصلحة أميركية أولى في السعودية، جعل إدارة بوش مستوعباً لحقيقة كونها غير قادرة في الوقت الراهن على التخلي عن السعودية في تزويد العالم الغربي بالنفط بأسعار منخفضة، فالسعودية قد تكون الوحيدة القادرة على تأمين الاستقرار في الاسواق النفطية العالمية، وفي الوقت نفسه قادرة على زعزعة الاسواق بطريقة كارثية. لقد ساهمت السعودية مراراً في الحفاظ على إستقرار الاسواق النفطية العالمية بعد انتصار الثورة الايرانية عام 1979 وقررت تعويض النقص الحاصل في الاسواق النفطية، واستمر الحال طيلة الحرب العراقية الايرانية حيث كانت المنشآت النفطية في البلدين عرضة لهجمات متبادلة، كما عمدت السعودية الى تعويض السوق النفطية خلال فترة احتلال العراق للكويت عام 1991، ومن ثم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وأخيراً خلال الحرب على العراق منذ أبريل 2003. إن تصريحات الرئيس الاميركي بوش بأن بلاده يجب أن تبحث عن بدائل جديدة للنفط خلال العشرين سنة القادمة تبدو حتى الآن مجرد حلم لا نصيب له من الحقيقة، ولكن يمكن الافادة منها كرسالة تنبيه غير مباشرة للدول المنتجة للنفط من أجل تنويع مصادر دخلها، ولكن في الأفق المنظور فإن الغرب لن يكون قادراً على الاستغناء عن مادة النفط كونها مرتبطة بمنظومة صناعات ضخمة، حيث أن توفير طاقة بديلة يفضي الى خسائر مالية هائلة، وضخ آلاف المليارات في إرساء بنى تحتية متكيّفة، على أن شروط التحول غير متوّفرة في الوقت الراهن فضلاً عن غياب الامكانيات ومصادر توفيرها.

السعودية سعت بعد الحادي عشر من سبتمبر الى مقابلة التحوّل في الاستراتيجية الاميركية بفتح أفق علاقاتها وتحالفاتها الخارجية. فقد زار ولي العهد عبد الله (الملك الحالي) روسيا وهي أول زيارة تقوم بها قيادة سعودية عقد خلالها عدداً من الاتفاقيات التجارية والتفاهمات الهامة، التي أثارت التفات الادارة الاميركية، واعتبرتها رسالة غير مباشرة لها بأن السعودية قادرة على تطوير علاقات موازية مع قوى دولية أخرى.

صحيح أن السعودية خسرت في افغانستان كثيراً بعد سقوط حكومة طالبان، ولم تكسب من وراء جهودها الجبّارة في مشروع الجهاد الافغاني ومساهمتها الفاعلة في دحر الاحتلال السوفييتي، فقد إنتهت تلك الجهود الى فقدانها دورها في أفغانستان.

في المقابل، تتطلع السعودية الى تثمير علاقاتها التقليدية اقليمياً ودولياً من أجل البحث عن دور سياسي فاعل، فقد دخلت على خط التوتر في العلاقات السورية الاميركية من أجل قطع الطريق على المبادرة الشرق أوسطية التي لازالت تلوح في الأفق خصوصاً مع بوادر تسوية المشكل العراقي، حيث صمّمت السعودية بصورة عاجلة مبادرة مشتركة مع مصر لجهة حلحلة الخلاف المتصاعد بين سوريا ولبنان، من خلال التفاهم مع القيادات السياسية في البلدين، وقد نجحت الى حد كبير في إبطاء مفعول الترتيبات السياسية الخفية بين الادارة الاميركية وبعض القيادات اللبنانية المحسوبة على قوى 14 آذار، ومحاولة إمتصاص التوتر بين لبنان وسوريا عن طريق مبادرة سعودية مصرية. السعودية سعت أيضاً الى تسوية الخلافات مع دول مجلس التعاون الخليجي وإزالة الهواجس لدى بعضها من خلال الغاء قوات درع الجزيرة والتأسيس لعلاقات مستقرة.

على المستوى الاقليمي لم ترسم الحكومة السعودية حتى الآن معالم روابطها مع ايران بعد وصول محمود أحمدي نجاد الى السلطة، والذي ينظر اليه بوصفه متشدداً ضد الغرب ومشاكساً الى حد كبير على المستوى الاقليمي، وإن كانت مواقفه لم تفصح حتى الآن عن نواياه الخلافية او العدائية إزاء دول المنطقة، بل قد تكون رسائله الى القيادة السعودية مطمئنة الى حد ما وإن كانت السعودية تتخوف من تطلعات ايران النووية وكذا تمدد نفوذها داخل العراق. يبقى ان السعودية مدركة جيداً الى أن ثبات ونجاح دورها الاقليمي يتوقف على قدرتها في تسوية خلافاتها داخل الدائرة الخليجية والتي تمثل نقطة انطلاق بالنسبة لها الى بقية الدوائر، بالنظر الى التشابكات المعقّدة التي حصلت بعد نهاية الحرب الباردة وجنوح الغرب الى الانخراط بصورة مباشرة في صناعة واقع جديد في المنطقة، في غياب دور عربي فاعل عبر الجامعة العربية وتراخي الروابط بين القيادات العربية، حيث تنحصر الادوار السياسية الفاعلة داخل إطار العمل العربي في عدد قليل من الدول بل قد نجزم بإقتصارها على السعودية ومصر.

في الموضوع الفلسطيني، إستأنفت السعودية علاقاتها المتميزة مع القيادات السياسية الفلسطينية. فبعد المبادرة التي أعلنها الملك عبد الله في قمة بيروت عام 2002، والتي خلقت فرصة لتوثيق روابطها بالجانب الفلسطيني، جاء فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية منسجماً مع الموقفين الشعبي والرسمي في السعودية، حيث مهد فوز حركة حماس الطريق الى تنمية أشكال التعاون بين السعودية وحركة حماس. وقد جاء قرار السعودية بتعويض الجانب الفلسطيني عن الاموال المحجوزة لدى الحكومة الاسرائيلية كمؤشر بالغ الدلالة على موقف العائلة المالكة من حكومة فلسطينية تشكّلها وتقودها حركة حماس، وهذا بلا شك ينسجم مع الموقف الديني السلفي والشعبي عموماً.

من الواضح أن السعودية مصمّمة على تنويع سياساتها الخارجية على المستوى الدولي، فإضافة الى علاقات متميزة مع روسيا، فقد دعت السعودية الى حوار خليجي أوروبي لجهة إنشاء منطقة حرة خليجية أوروبية لكسر الاحتكار الاميركي المحتمل بعد توقيع عدد من دول مجلس التعاون الخليجي على إتفاقيات مماثلة مع الولايات المتحدة. قرار السعودية هذا كان جزءاً من مساومات الانضمام الى منظمة التجارة العالمية الذي تم قبل شهرين.

وحتى الآن، فإن التحرك السياسي السعودي خارجياً يأخذ طابعين.. إقليمياً مازال يكتسي رداءً سياسياً بينما على المستوى الدولي فهو يأخذ منحى إقتصادياً، ومازالت هناك قارات غير مدرجة ضمن أجندة السياسة الخارجية السعودية مثل أفريقيا وأميركا اللاتينية، وقد تستبعد في المدى المنظور من تلك الاجندة لعدم وجود إرتباط مباشرة بالمصالح الحيوية للسعودية. وقد يكون الاستبعاد مؤشراً على تغيير في السياسة الخارجية السعودية بعد نهاية الحرب الباردة، حيث كانت تلك المنطقتين ساحتي صراع بين القطبين الدوليين والتي شاركت فيها السعودية كمصدر تمويل لكثير من النزاعات والانقلابات التي خدمت في نهاية المطاف الاستراتيجية الاميركية فيما تبين لاحقاً أن السعودية دفعت ثمناً باهظاً لتحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.

الصفحة السابقة