الملك عبد الله: مخبأ محتمل للطغمة الفاسد

عقم الإصلاح في عهد المصلح!

يتناقص عدد المتفائلين بشأن دور الملك عبد الله في تحقيق (معجزة إصلاحية)، فالتبدّلات الحاصلة على السطح لا تنبىء عن إرادة حقيقية في التغيير، فلا الانتخابات البلدية ولا تجربة الحوار الوطني تجاوزا حدّهما الدعائي، ولم يثمرا في قرارات على الارض، فكل شيء باقٍ على حاله حتى إشعار آخر، بإستثناء حزمة عناوين مضلّلة ذات نكهة إصلاحية بائتة، في إستجابة مفتعلة لمستلزمات المرحلة وشروطها. وهكذا تفقد الصورة الاصلاحية لمعانها سريعاً وكأن من رسموها لم يجهدوا أنفسهم حتى في الالتزام بالشروط المطابقة للمواصفات والمقاييس المحلية للاصباغ، فاستعانوا بصبغة مغشوشة لطلاء جدران متصدعة، ولكن مالبثت أن بهتت الالوان، وتكشّفت التشقُّقات، وبدت الصورة الحقيقية عارية عن الالوان.

وبرغم كل مايقال عن خطوات متسارعة على طريق الاصلاح في عهد الملك عبد الله، فليس هناك أكثر من قفزات في الهواء نسمع عنها ولا نرى أثرها أو تقدّمها، فلا الحريات الفردية والعامة شهدت ما يمكن وصفه بتطوّر من أي نوع، ولا أوضاع حقوق الانسان تحسّنت، ولا القضاء شهد إصلاحاً واستقلالاً، ولا وزارة الداخلية إنحسر دورها الطغياني، ولا الشفافية الموعودة بدأت تسري في مؤسسات الدولة، ولا الحرب على الفساد رفعت راياتها، ولا السرقات من المال العام توقفت، ولا مشروع الوحدة الوطنية أرسيت أركانه، ولا مبدأ المحسوبيات والبطانات الحاكمة صار تاريخاً، ولا الرقابة على الاداء الحكومي قُرِّرت، ولا مؤسسات المجتمع الاهلي أُجيزت، ولا توصيات الحوار الوطني فُعّلت، ولا المجالس البلدية بدأت.. وأبعد ذلك نتحدث عن نهج إصلاحي في عهد الملك عبد الله؟!

ربما يكون الخلل مشاعاً في جسد الدولة، بحيث لا نرى ما يراه غيرنا من تغييرات تسمّى عند أولئك إصلاحاً ونسمّيها (تطبيشاً)، ولكن حتى ما يسميها طاقم الملك عبد الله وأفراد حاشيته والعائلة المالكة مجتمعة تدابير إصلاحية هي في واقع الحال تدابير شكلية تنطوي على تزوير للوعي الاصلاحي الوطني، والتواءات مفضوحة لارادة شعبية عامة لم تعد الخديعة تحرفها عن مسارها. قد يلهو الأمراء الكبار بترويج أكذوبة الانتخابات البلدية في الخارج، ولكن بالتأكيد تتحوّل الى رواية هزيلة فيما لو أرادوا إستعمالها في الداخل، فبعد عام على مرور الانتخابات البلدية لم تعقد المجالس البلدية جلساتها الروتينية، فضلاً عن منحها دور يجيز لها تحقيق شعارات مأمولة من أعضائها، فقد حرمت المجالس البلدية حتى من نعمة الهيكل، حيث لا مقرّات ثابتة معلنة لها، وأن أعضاءها يداومون في مبنى البلديات، شأنهم في ذلك شأن موظفي وزارة البلديات والشؤون القروية.

وحين يفتح المشهد السياسي على أفق واسع، نلحظ بأن تحت قشرة الاصلاح التي تغطّي جسد الحكم يكمن جوهر السلطة المستبّدة القابضة بمخالبها على مفاصل الدولة بكاملها. وهذا ما يدعونا للقول بأن قد يكون عهد الملك عبد الله أشد خطراً من سابقيه، وإن بدا على السطح غير ذلك، فتشبيع الاجواء الداخلية بلغة الاصلاح، يوفّر فرصة ذهبية لاختباء الفساد والاستبداد. وقد قيل عن الرئيس بورقيبة بأنه كان مستبداً علنياً ولم يكن الاصلاحيون بحاجة الى عناء كثير في فضح سياساته الاستبدادية وتدابيره القمعية، فقد توحّد قوله وفعله وصدّقت سياسته ما إنطوت عليها سريرته، ولكن حين وصل الرئيس زين العابدين بن علي الى سدة الحكم واجهت القوى الاصلاحية صعوبة بالغة كونه أضفى على إستبداده رداء الاصلاح والصلاح. قد تختلف المقارنة قليلاً بين عهدي الملك فهد والملك عبد الله، ولكنها تتفق في المنزع الكلي، فقد تفشّى الفساد بكافة أشكاله في عهد الملك فهد حتى بات معروفاً لدى القاصي والداني، ويكفيه ما حصده من الثروة الوطنية حتى قيل عنه بأنه سابع أغنى رجل في التاريخ، فيما كانت ميزانيات الدولة تأنّ من عجز مزمن. أما في عهد الملك عبد الله، فقد سبقت وصوله الى العرش موجة دعائية كثيفة، تزّفها تباشير طفرة إقتصادية، وكأنها تبشّر بظهور المسيح أو المهدي المنتظر الذي سيصلح البلاد ويرسي أسس العدل، ويعمّ الخير على يده، ويضرب على يد الظالم، ويغيث الملهوف، ويمحو آثار الفساد، وتزدهر في عهده الحريات، ولا يجد الفقير ما يحتاج إليه، ولا المسكين ما يحرم منه، ولا المظلوم ما يشكو منه، فقد آذنت لحظة ولادة المدينة الفاضلة، وأن ما حلم به إفلاطون ومات حسرة دون تحقيقه هاهو يقترب من الحقيقة في عهد الملك عبد الله. في مثل هذه البشارات المتدفقة، يصبح نقد سياسات الملك عبد الله كفراً بالنعمة، وجحوداً بمنّة قد منّها الله جلّت قدرته على الناس بوصول عبد من عباده المكرمين الذين نذروا أنفسهم لخدمة عباده، وآثروا على أنفسهم أن ينجزوا ما أخفق فيه كل السلف من الاولين والآخرين.

الامير سلطان: ثراء فاحش بقفّاز حريري

يخلق، دون ريب، هكذا وضع موارب إرباكاً في المواقف والانطباعات، فيرى فيه البعض، بوازع من دينه، إقترافاً لذنب عظيم وتجنيّاً فادحاً على الملك عبد الله الذي يفرغ كل مافي وسعه لخير عباد الله، ويرى فيه البعض، بوازع من وطنيته، مساساً بالوحدة الوطنية وخدمة مجانيّة للقوى الاجنبية المتربّصة بالوطن سوءا، ويرى فيه البعض، بوازع من إنسانيته، نكراناً للجميل وإنتهاكاً سافراً للقيم والمبادىء النبيلة التي تحثّ على تقدير المعروف حق قدره، ومجازاة الاحسان بالاحسان فـ (هل جزاء الاحسان الا الاحسان)؟. حينئذ يصبح كل من يدعو للاصلاح عميلاً أو حسوداً أو غيوراً أو كفوراً، إذ في ظل الرفاه الذي تنعم به البلاد لا مجال فيه لغير المسبّحين والشاكرين، الذين أقرّوا بنعمة أنعمها عليهم ربهم على يد ظله في الأرض.

نحن إذن أمام حالة جديدة، تجتمع فيها النقائض، حيث الحرية والاستبداد، والفساد والاصلاح، وهنا تحيك الأزمة خيوطها بهدوء، فلا يميز المصلح من المفسد، ولا الخير من الشر، ولا من يريد الحرية ولا من يتربّص بها. وهنا أيضاً يجد المفسدون ملجئاً حصيناً، وكهفاً منيعاً يخفون فيه ما يعلمه الله وحده، وحيث يضفي عليهم الملك رداء قدسياً، وهم أنفسهم الذين كانوا بالأمس ولا زالوا ينعمون بخيرات هذا الوطن، وينهبون ثروته، والانكى من ذلك أنهم كانوا ولا زالوا القوة الكابحة للاصلاح، ولكنهم اليوم إرتدوا عباءة الاصلاح ليخفوا ما حصدوه بالأمس وما يحصدونه اليوم.

لقد حقق السديريون ما عقدوا العزم عليه، حين أرادوه ملكاً ضعيفاً لا يملك من أمره شيئاً، هكذا أبلغتنا مصادر مقرّبة من الجناح السديري في وقت كان يعوّل الاصلاحيون على عبد الله، ثم جاءت سيرته لتثبت ذلك، فقد إستحكمت حلقات السديرية حول مفاصل الدولة الرئيسية، قبل أن يصل عبد الله الى العرش، حتى إذا جاء لم يجد ما يعينه على الفكاك من قبضة السديريين، الذين جرّدوه من مصادر قوته كملك، فأصبح كمن يملك ولا يحكم، فلا يقرر ما يخالف الاجماع العائلي الذي يمسكونه من إطرافه، ولا يتحرك مؤشر بوصلته الا بمغنطة سديرية. رفعوه مكاناً عليّاً لكي يختبئون بداخله، فيما ينشغل غيرهم بالهالة المحيطة به عن التفكير في أشكال الفساد التي يتقلّبون فيها يمنة ويسرة. لقد وصف مؤرخ أميركي ذات مرة السلطة في السعودية بأنها ديكتاتورية رحيمة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويخشى أن يكون عهد الملك عبد الله المصداق الأبرز لذلك الوصف.

مهما بدت المتغيرات الشكلية المتواترة على المستويين الداخلي والخارجي، فإن الزبد الطافح على السطح يكاد يفوق في عمقه بأضعاف عمق السيل الجاري من تحته، وكأننا نسمع جعجعة ولا نرى طحناً، أو أن الحشف قد تراكم على ميزان الاصلاح وإن لم يثقله. ولا ندري هل إستعاض الملك عبد الله بطاقم إصلاحي مزعوم بآخر دعائي يكثّر القليل، ويعظّم الضئيل فيقنعنا بما لا مجال فيه للاقناع، أو يشبعنا بما نحن أفقر اليه في عهده من أي عهد سابق من إصلاحات جوهرية وفاعلة في النظام السياسي، بعد أن شرعت دول عديدة في المنطقة منذ سنوات مسيرة الاصلاح.

مانخشاه في عهد الملك عبد الله، أن يصاب الاصلاح بالعقم على يد المصلح الافتراضي، فيمضي عهده بالقانون الطبيعي دون أن تشمّ للاصلاح رائحة، بل تصبح لعنة تلك اللغة الاصلاحية التي أجازت للفساد بالعبور، وألجمت المصلحين حجراً يسكتهم حتى نهاية عهده، وقدوم عهد آخر لا يرى فيه الشعب الا نكداً.

الصفحة السابقة