(غزوة بقيق)

الـهـروب الـى الـحـافـة

الهدوء الحذر المترافق مع تصريحات مطمئنة من كبار الأمراء وأعضاء لجنة المناصحة التابعة لوزارة الداخلية لم يستمر طويلاً، فقد مزّقت الجماعات المسلّحة التابعة لتنظيم القاعدة ستار الصمت المسدل على عملياتها بهجمة مدوّية تنبىء عن تحوّل جديد في إستراتيجية التنظيم. فالانتقال بالعمليات المسّلحة الى داخل المنطقة الحساسة يعني أن التنظيم بدأ يخوض حرب المصير بعد أن خسر كثيراً من أفراده في مواجهات سابقة، ويجد بأن خياراته باتت محدودة من أجل إثبات وجوده وقدرته التدميرية. لاشك أن الضربات القاصمة التي تعرّض لها التنظيم خلال العامين الماضيين، وبعد مقتل رمزه العسكري الفاعل عبد العزيز المقرن حرمته من عقل إستراتيجي كان يضطلع بدور هندسة العمليات العسكرية، وبدا التنظيم في ظل قيادة صالح العوفي، الذي قتل في 18 أغسطس 2005 في عملية مداهمة بالمدينة المنورة، يعيش حالة إرباك داخلية، رغم محاولات العوفي لملمة صفوف التنظيم مستعيناً بمهارته التنظيرية التي عضّدت قيادة المقرن، ولكنها لم تفلح في تغطية الفراغ القيادي.

سلسلة العمليات التي شنّها التنظيم منذ رحيل المقرن كانت تتسم بالضعف التخطيطي، وتنزع في أغلبها الى تحقيق أهداف محدودة تتصل باثبات الوجود بدرجة أساسية، بالرغم من العناية الفائقة في إختيار الاستهدافات كما في الهجوم على مبنى وزارة الداخلية، الذي لو قدّر له النجاح كان سيفتح المواجهة المسلّحة على أفق واسع، حيث كان يخطط التنظيم الى إقتناص رؤوس المؤسسة الأمنية للدولة، وكما في الهجوم على القنصلية الأميركية في 6 ديسمبر 2004 الذي أظهر أعضاء التنظيم براعة عسكرية متميزة في اختراق الحراسة والوصول الى داخل مبنى القنصلية، الأمر الذي دفع الأميركيين للاعلان عن قرار الاستغناء عن قوات الأمن السعودية والاستعانة بقوات المارينز لحراسة مبنى القنصلية.

العمليات الأخرى في القصيم والرياض الطائف ومكة والدمام قد تكون ذات أبعاد أخرى مرتبطة بالمراكز اللوجستية للتنظيم، وإن بدا الاخير مستعداً لمواجهات مباغتة في حال إكتشاف مخابىء الاسلحة التابعة له، كما ظهر ذلك في المواجهات الدموّية الشرسة في حي المباركية بالدمام، التي أنهكت قوات الأمن بفعل إستبسال أفراد التنظيم، وإصرارهم على مواصلة الدفاع حتى الموت. ربما كانت تلك المواجهة الشرسة مؤشر إنكسار حقيقي في التنظيم، كونه فقد أعتى المقاتلين المتمرّسين، الذين كانوا يعدّون لهجمات نوعيّة منذ صدور تعليمات زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن بضرب العصب الاقتصادي للغرب في الجزيرة العربية. لعل أخطر ما في عملية المباركية هو ما تبين لاحقاً، حين عثرت السلطات الامنية السعودية على رسوم تقريبية لعدد من منشآت النفط في المنطقة الشرقية كانت بحوزة المجموعة التي كانت تختبىء في أحد المنازل قبل القضاء على أفرادها، وقد ذكرنا في وقتها أن المجموعة كانت تعدّ لشن هجمات ضد المنشآت النفطية.

مناوشات متقطّعة كانت تتم في مناطق متفرقة من المملكة تأتي في سياق بتر خيوط الاتصال للتنظيم وقطع طرق إمداداته، سيما في المناطق الجنوبية المحاذية لليمن، والتي ظلت ومازالت معبراً سهلاً لشحنات كبيرة من الاسلحة ومواد التفجير التي يستعملها التنظيم في عملياته العسكرية في الداخل. وبرغم ما يقال عن اكتشاف ومصادرة كميات كبيرة من الاسلحة والمعدات والتجهيزات الخاصة بأنشطة الجماعات المسلّحة، الا أن الاكتشافات اللاحقة تخبر بصورة مؤكدة بأن عمليات تهريب الاسلحة والمتفجرات مازالت كبيرة، وهي تعكس قدرة التنظيم في إختراق الحدود والمؤسسة الامنية المسؤولة عن حمايتها، كما تعكس تصميمه على مواصلة المواجهات، كما تنبّه أيضاً الى نوعية العمليات التي يعزم على خوضها.

كان لابد أن تثير عملية بقيق في الرابع والعشرين من فبراير الماضي طيفاً من الاسئلة حول القدرة القتالية للجماعات المسلّحة التابعة لتنظيم القاعدة، وحول حجمها الحقيقي في الوقت الراهن بعد مزاعم الأمراء بأن الجماعات فقدت 80 بالمئة من عناصرها وقوتها التهديدية، فيما لا سبيل واضح لاختبار صدقية تلك المزاعم سوى ما يرشح الى السطح من معلومات تقدّمها هذه الجماعات من خلال عملياتها العسكرية أو من خلال حجم الاسلحة التي يتم العثور عليها في مخابىء سرية. كان السؤال الجوهري بعد عملية بقيق: هل نجحت السعودية في حربها ضد القاعدة؟ كما طرحه روب واتسون، مراسل بي بي سي لشؤون الأمن والدفاع. فقد أرادت السلطات السعودية وضع حد فوري لأي تكهنات محفوفة بالخيبة والفزع من الهجوم على منشأة بقيق لتكرير النفط من خلال تصوير فشل الهجوم بأنه نجاح آخر في حربها ضد تنظيم القاعدة.

في مثل هذه العمليات ذات الابعاد الاقتصادية العالمية، حرصت السلطات السعودية على توفير أكبر قدر من الاطمئنان في الاسواق النفطية العالمية من خلال فرض طوق من التعتيم حول أخبار الهجوم على منشأة بقيق، والحكم ابتداءً بفشل العملية بصورة تامة قبل انكشاف الصورة. ظهر ذلك أولاً في نفي وقوع إنفجار من أي نوع داخل او بالقرب من منشأة بقيق لتكرير النفط، فيما كانت الاذاعة الخاصة بشركة أرامكو تؤكد بأن إنفجاراً مدوّياً وقع قبل قليل بالقرب من المنشأة، ثم بدأت تتكشف الصورة تدريجياً بعد أن تمت السيطرة على المؤشر النفسي في الاسواق النفطية العالمية التي شهدت ارتفاعاً قليلاً فور انتشار خبر الانفجار.

كان يقال بأن سيارة مفخخة واحدة كانت تتجه الى منشأة بقيق يقودها عنصران دخلا في مواجهة مع حرّاس أمن المنشآت، وقتلا على الفور ولم يتمكّنا من تفجير السيارة، وتبين لاحقاً بأن هناك ثلاث سيارات مفخّخة كانت تحمل شعار شركة أرامكو للتمويه، وقد جرى إعدادها لتنفيذ خطة تفجير واسعة، تتولى الاولى فتح الطريق أمام السيارتين الاخريين. وقد أحدث إنفجار السيارة الاولى دويّاً هائلاً أدى إحداث أضرار في أنابيب المنشأة، حيث اشتعلت النار فيها بعد تسرّب كميات من الغاز، فيما نقل موقع (العربية) عن مصادر أمنية قولها ان أضراراً لحقت بوحدة واحدة فقط في المنشأة النفطية التي تشمل محطات لمعالجة النفط وضخه الى مرافيء التصدير السعودية. ويبدو واضحاً من أن السلطات الامنية عمدت الى التقليل من شأن الهجوم من خلال التدرّج في نشر تفاصيله، عبر نفي وقوعه أولاً ثم تسريب بعض وقائعه.

وعلى أية حال، تبدو الغاية واضحة من وراء ذلك، ليس فقط من أجل طمأنة الاسواق العالمية والمستثمرين فحسب، بل وأيضاً دفعاً للاحراج الذي يسببه نجاح عملية لهذه الجماعات في مجال بالغة الحساسية والخطورة، مازالت تراهن الحكومة على إستبعاد التنظيم له من مخطط عملياتها العسكرية.

في أعقاب الهجوم على منشأة بقيق، بدا وكأن السلطات الامنية قد تنبّهت الى أن ثمة خلايا تنظيمية بدأت تنشط في مناطق أخرى وهي المسؤولة عن التخطيط والتدبير لعملية بقيق، فقامت بشن حملة مداهمات لعدة منازل بالرياض والخبر والدمام والقصيم، وقد ألقت القبض على عدد من المشتبه بهم، والذين تبيّن أن بعضهم من الذين أفرج عنهم لاحقاً بعد أن حظوا بشهادة تزكية وبراءة من لجنة المناصحة التابعة لوزارة الداخلية، فيما فرّ آخرون الى العراق.

وكي تحبط السلطات الأمنية عنصر المباغتة التي نجح تنظيم القاعدة في إستثماره سياسياً، زعمت السلطات بأنها قتلت ثلاثة من المشاركين في عملية بقيق خلال عودتهم الى الرياض، فيما تعقّبت آخرين من خلال حملة مداهمات واسعة النطاق.

منذ أكثر من عام تقريباً، وفي ضوء انخفاض حجم عمليات الجماعات المسلّحة، يحاول الأمراء التقليل من شأن هذه الجماعات، على الأقل من حيث الحجم، وإن كانوا يذعنون الى حقيقة الخطورة التي يشكّلها هؤلاء على قلة عددهم بالنسبة للأمن الداخلي. وبلا شك، فإن هناك ما يدعو الأمراء وسلطات الأمن للاشادة بنجاحاتها في مواجهة الجماعات المسلّحة، التي فقدت بحسب الارقام الرسمية المعلنة مؤخراً 123 عنصراً من تنظيم القاعدة في السعودية، في مقابل تسعين مدنياً و52 من عناصر الامن.

قد تكون قائمة الـ 36 مطلوباً للأجهزة الأمنية قد تقلّصت بصورة ملحوظة، وإن كان أغلب المطلوبين يعيش الآن خارج الحدود، فيما يقال عن وجود 15 مطلوباً داخل السعودية، ولكن السؤال: هل يعني ذلك أن السلطات السعودية نجحت في منع التنظيم من تجنيد شباب آخرين؟ ثمة أسباب عديدة تدعو للشك، فتعداد السعوديين المشاركين في عمليات داخل العراق مازال عالياً، وأن إكتشاف أجهزة الأمن العراقية عن عناصر سعودية متسللة عبر الحدود لم يتوقف. وقد ذكر تقرير أمني عراقي بأن سعوديين، يتدفقون بصورة مستمرة عبر الحدود البريّة مع السعودية والاردن وسوريا، مازالوا يشاركون في عمليات إنتحارية وزرع العبوات الناسفة والسيارات المفخّخة، تضاف الى ذلك أسباب أخرى منها القاء القبض على عناصر من خارج قائمة الـ 36، وكذا اكتشاف كميات كبيرة من الاسلحة التي تتطلب وجود عدد كبير من العناصر التي تشارك في العمليات اللوجستية للتنظيم..

مايلفت إليه هجوم الجماعات المسلّحة على منشأة بقيق لتكرير النفط، أنه يأتي بعد تحذير سلطات الامن العراقية بأن تنظيم القاعدة قد وضع العراق والسعودية والاردن أهدافاً رئيسية في أجندة عملياته، وأنه ـ أي الهجوم ـ يأتي تلبية لدعوة زعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن أنصاره في 16 ديسمبر عام 2004 بضرب المنشآت النفطية في العراق والخليج للاضرار باقتصاديات الغرب عموماً والولايات المتحدة بوجه خاص. وحيث تكون عمليات التخريب للمنشآت النفطية مدرجة على أجندة التخطيط الاستراتيجي للجماعات المسلّحة، فإن ذلك يعني حتى في حال عدم نجاحها أن إضطرابات متواصلة ستشهدها الاسواق العالمية، قد تثني كثير من الشركات الاجنبية عن الدخول الى الاسواق السعودية، بغرض الاستثمار في النفط والغاز.

ماتسعى اليه الحكومة السعودية في مواجهة مثل هذا الخطر المتصاعد والمرشح لتداعيات غير محسوبة بدقة، هو التأكيد على قدرتها الفائقة في حماية المنشآت النفطية. يلزم التذكير بأن هناك 75 حقلاً للنفط في السعودية 50 منها في المنطقة الشرقية، يقوم على حراستها نحو 20 ألفاً، اضافة الى شبكات الكترونية متعددة وأجهزة رصد عالية والاقمار الصناعية اضافة الى طائرات الهيليوكبتر التي تحوم حول منشآت النفط على مدار الساعة. ولكن ما يلزم الاشارة اليه، وهو أمر لا يتطلب تحقيقاً طويلاً، أن ضخامة المنشآت بما في ذلك الانابيب الممدودة على مساحة كبيرة من الارض تجعل سهولة الوصول اليها وتخريبها، وإذا كان التنظيم قد فشل في أول محاولة لاقتحام المنشآت النفطية، والذي قيل بأنها تمت على نحو عاجل، فإن ذلك لا يعني عدم إستنساخ عمليات القاعدة في تخريب الانابيب أو حتى قصف خزّانات النفط، أو السفن.

واذا ماصحت الانباء عن أن تنظيم القاعدة في المملكة بدأ يستقبل عدداً من أفراده العائدين من العراق من أجل البدء بتنفيذ استراتيجية جديدة تقوم على تركيز الضربات على العصب الاقتصادي للغرب، فإن ذلك يعني أن ما كانت تحذر منه السلطات السعودية من مشكلات ستواجهها بعد عودة أفراد التنظيم أو قسم منهم من العراق قد تشهدها عما قريب. وكان عبد العزيز بن رشيد العنزي، الذي يعرّف بأنه وزير اعلام القاعدة ومن أهم المنظّرين في التنظيم، قد كتب في موقع إسلامي على الانترنت، بحسب وكالة رويتر، في الرابع من مارس في وثيقة تحمل عنوان (حكم إستهداف المصالح النفطية) جاء فيها بأن (تعطيل إمدادات النفطة هو أفضل سبيل للاضرار بالاقتصاد الأمريكي وزعزعة إستقرار العائلة الملكية السعودية) وأضاف بأن (مصافي النفط المملوكة للدولة في السعودية وخطوط أنابيب النفط والمنشآت العراقية كلها بأيدي كفار) وبذلك حسب العنزي يصبح (من المباح إستهداف المصالح النفطية التي يسيطر عليها الكفار بما في ذلك ناقلات النفط الامريكية والغربية).

وقال العنزي بأن (أن خطوط الانابيب النفطية هي لصعوبة حمايتها وسهولة اصلاحها وقلة تكلفتها كما أن استهدافها لا يفوت مصلحة الانتفاع بالنفط علي المسلمين). وأضاف بأن (المصلحة في استهداف الانابيب النفطية مصلحة عظيمة لها نكاية في الاعداء.. بل قد تكون الانابيب هي ميدان حرب الاستنزاف طويلة الامد في النفط ومصالحه).

في الاخير، قد تكون عملية بقيق تجربة اختبارية لكفاءة الجهاز الامني الذي يحرس المنشآت النفطية، وقد تبين أن دور شبكات الرصد الالكترونية وطائرات الهيليوكبتر والاقمار الصناعية شبه معدوم في هذه العملية، وبالتالي فإن الجماعات المسلّحة وإن فشلت في تحقيق مخططها التدميري فإنها حصلت على معلومات كافية حول الاجراءات الامنية المتّبعة في حراسة المنشآت النفطية، وهذا يمنحها ثقة أكبر في قدرتها على تنفيذ هجمات تحقق الحد الادنى إن لم تنجح في الوصول الى عمق الهدف المطلوب.

الصفحة السابقة