تتويج عبد الله في خطبة أبريل

مـلـك (الـتـطـويـر)!!

تحت قبة مجلس الشورى، المؤسسة الأكثر جدارة لاطلاق مبادرة الاصلاح السياسي الشامل، ألقى الملك عبد الله في بداية شهر أبريل خطبة إفتتاحية لدورة المجلس الجديدة، رسم فيها ملامح منهج جديد لعهده. لم تكن حفلة تنكّرية بمناسبة الاصلاح كما جرت العادة في مناسبات سابقة، بل هي بمثابة إعلان إحتضار نهج وموته الوشيك، وهو نهج لم يكن قط مخلصاً له خارج شفوية بالية، لم تتجاوز حد تعبيراته اللفظية التي تم قتلها ابتذالاً فصارت مفهوماً عقيماً.

ملك التطوير في مجلس الشورى!

كرر الملك في كلمته لفظة (التطوير) عدة مرات تنبيهاً الى إستبداله كلمة (الاصلاح)، بل يلحظ المدقق في سياق الكلمة أن لفظة تطوير جاءت في بعض الاحيان ناشزة وفاقدة للمعنى الافتراضي. فقد أثنى الملك على أعضاء مجلس الشورى كونهم حسب وصفه (خير معين على التطوير)، ووعد بمنح بعض المناطق إهتماماً أكبر كونها (لم تحصل على حقها في التطوير)، كما وعد باللحاق بركب العالم المتقّم وكسر الجمود من خلال الاستمرار (في عملية التطوير).

إذن هو التطوير وليس الاصلاح، الكلمة ـ الوافد الجديد في اللهجة الرسمية التي سيعتصم بها الملك عبد الله طيلة عهده، وتعني بناءً على البناء أو ترميماً لبناء هرم، مع الحفاظ على الأسس، هكذا هو المعنى الذي يريد صانع المصطلح الامير نايف، درءا لشبهة الوقوع في الفساد، لا سمح الله ولا حول ولا قوة الا بالله!

مات الاصلاح نطفة قبل أن يصبح جنيناً، وانهار مثل جبل جليد من الوهم على رأس صاحبه، واستبدل جلدة لم تكن تليق به، وليته لم يفعل كل ذلك قبل أن يختبر قدرته على حمل أمانة الاصلاح. في خطاب ليس فيه من سمات خطاب العرش، ولا ميزات الخطب السياسية التي ترسم الخطوط العريضة لسياسات الدولة أو تحدد إستراتيجات العمل الحكومي خلال مرحلة آتية، وإنما مجرد عناوين عامة سمعناها إسماً ولم نر لها رسماً، هكذا هي كلمات من سبقه ومن سيلحق به من الخلف الحالي، ما لم يقدّر الله أمراً ولا راد لقضائه.

الخطاب القصير الذي ألقاه الملك بعناء لغوي شديد، في محضر أعضاء مجلس الشورى الذي يضم نخبة من الاكاديميين والخبراء ورجال الدين خلال مراسم افتتاح الدورة الرابعة للمجلس، أسبغ عليه طابعاً قومياً يذّكر بخطابات الزعيم عبد الناصر، فقد دعا الملك إلى أن (يخرج العرب من ليل الفرقة إلى صباح الوفاق)، متأبِّطاً مشروع أمل بعودة العرب والمسلمين لتسنّم منصبهم التاريخي باعتبارهم (قادة للحضارة).

ولكنَّ خارج الوهج الخطابي، ليس في كلمة الملك ما يجعلها مثيرة للاهتمام العالمي، بإستثناء أولئك الذين يبحثون عن مسوغات لعلاقاتهم مع حكومات شمولية في الشرق الاوسط، فقد دبّج معدّ (و) كلمة الملك السنوية في إفتتاح دورة مجلس الشورى كلمات من العيار الثقيل، بهدف إلالهاء عن المغيّب الذي كان حاضراً بسطوة في خطاب الملك عبد الله خلال الخمس سنوات الاخيرة، هذا المغيّب الذي صنع منه جنيناً كاريزمياً ما لبث ان مات قبل أن يرى النور. قال وعظيم مقولات الساسة حين تهب الريح وتحصد العاصفة (إننا لا نستطيع أن نبقى جامدين والعالم من حولنا يتغير). حسن هذا الوصف للتعبير عن رؤية كونية للعالم، فالجمود كان سمتاً حاكمة على مفاصل السلطة، مقابل إيقاع جلوبالي متسارع. لا ينكر أحد فضيلة اقرار الملك بالجمود، ولكن الجمود هنا يراد إحلاله موضع الفساد ليستقيم الحديث عن تطوير مقابل إصلاح.

يلزم القول حقاً أن الامير نايف سجّل نقطة على الملك عبد الله، حين نجح في إزالة لفظة (إصلاح) من خطابه السياسي ليثبّت مكانها كلمة (تطوير)، لقد نجح الامير نايف في مسعاه وأخفق الملك، الذي إستبدل معجميته السياسية وخلع عن كاهله مسؤوليته الاصلاحية!. نزعم بأن الملك خضع هذه المرة تحت تأثير التفسير الكلاسيكي لمفهوم الاصلاح، بإستبطاناته الجدلية، وكما أخبرنا الامير نايف ووزير عدله في تصريحات ومقالات سابقة بأن الاصلاح يأتي كعلاج لفساد حاصل، ويستحيل زعماً ان يقع الفساد في دولة آل سعود القائمة على العدل والحرية والمساواة والشفافية والمحاسبة! كبر مقتاً عند الضمير الوطني والديني أن يقول الأمير ما يعلم القاصي والداني وقوعه.. الامير نايف من الشخصيات التي تعيش زمناً غابراً وتتمسك بعناد بأن لا أحد يرى سوءة الدولة، كتلك التي تدسّ رأسها في التراب وعورتها بادية للعيان.

نعم، أخلى الملك عبد الله ساحة الاصلاح، ولبس رداءً هجيناً، وأدخل مفردة الى قاموس الفكر السياسي الحديث بإضافة كلمة (تطوير) التي لم تبنَ دلالاتها حتى اللحظة، ما لم نستعير المعاني التي إرتبطت بها أو بمترادفاتها مثل الترقي، والتقدم، والتنمية، ولا نظن بأن العبقرية السعودية الحاكمة إستمدت بعض موحيات نظرية داروين لتكون أساساً لانطلاقة جديدة للدولة.

في واقع الأمر، أن اختفاء كلمة (إصلاح) من خطاب الملك عبد الله يلمح ليس الى عزم على التغيير، بل يشير بقوة الى التأثيرات الشديدة لدى الامراء الكبار (سلطان، ونايف، وسلمان) على الملك عبد الله، ولا نظن أن كلمة (إصلاح) إختفت من تلقاء نفسها بعد أن عثر الملك على كلمة أبلغ في القول، وأصدق في التعبير، وأوثق في الالزام. لا ليس من ذلك كله، وإنما هو إصرار الأمراء على أن دولتهم قائمة (على شرع الله) والحاكم (أخو من طاع الله) بحسب القوالب اللفظية النجدية الكلاسيكية، وبالتالي فكل منافذ الدولة محصّنة أمام الفساد. يريدوننا تصديق كذبة أبريل، وكل أيام الدولة إبريل..

كيف يمكن لنا تصديق نوايا العائلة المالكة التي ينضمّ الى ركابها كل الامراء بما فيهم الملك، لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن لا نزال متسمّرين عند العتبة الاولى، فبعد أن برز علينا ولأول مرة ملك يعترف بوجود أشكال فساد متنوعة في كيان الدولة، إدارية ومالية وقضائية وغيرها، عاد وسحب ملف القضية ليضع الفساد في إطاره الضيق المتصل بالعمل البيروقراطي للدولة.

سنحمل، مع التحفظ، بعض ماجاء في كلمة الملك على خير محمل ومنها الفقرة التالية: سوف نستمر باذن الله في عملية التطوير وتعميق الحوار الوطني وتحرير الاقتصاد ومحاربة الفساد والقضاء على الروتين الاداري ورفع كفاءة العمل الحكومي والاستعانة بجهود المخلصين العاملين من رجال ونساء.

وحتى لا ينصُبُ المنكوبون أشرعة الأمل بقرب وصول مؤونة الاغاثة، فقد رمى أجندة (التطويرات) في بحرٍ لجي وفي غياهب الزمن المقتول جهلاً وتجهيلاً. فقد أعاد الملك، كممثل عن العائلة المالكة وليس الشعب، تشريط التطور زمانياً معتلياً صهوة المجتمع كيما يفتعل تمثيل نواياه وأحلامه، حين أكّد على أن أجندة التطوير ستكون (في اطار التدرج المعتدل المتماشي مع رغبات المجتمع والمنسجم مع الشريعة الاسلامية). ندرك من تجربة التدرج بنسختها السعودية، أنها قد تمتد الى عقد أو عقدين وربما عقود للامام أو للخلف لافرق، كما حصل في المجلس البلدي الذي كان منتخباً في الخمسينيات ثم أصبح نصف مشلول في إختيار عضويته ومشلولاً بالكامل في وظيفيته الحالية، وكما يحصل الآن في اعلان الامير نايف عن إنشاء محكمة أمن الدولة، التي صارت تاريخاً في دول الجوار، بعد أن تحوّلت الى رمز للظلم والقمع.

ليس هناك ما يجلب التفاؤل في التدرج بالمعنى السعودي الرسمي، فكيف إذا ما أضيف له المعتدل، وكأن التدرج حالة صدفية أو فورية، فالتدرّج بطبعه معتدلاً، ولو أن معد البيان استبدل المعتدل بالمتوازن لكان أصح في القول. أما ربط هذا التدرج المعتدل برغبات المجتمع فتلك فلتة وقى الله الوطن شرّها، وكأن الملك لم يبلغه خبر العرائض التي وصلته من كل أطياف المجتمع الذي يتحدث عنه، كيف وقد كانت جميعها موجّهة اليه وهو الذي تزاحمت على قصرة ركاب الاصلاحيين، كل يقول بأنه وحده في العائلة المالكة الذي فيه خير لمجتمعه ووطنه، وهل دخل الاصلاحيون السجن الا من وراء عرائض رفضوا فيها نهجاً تدرجياً يصل حد العطب.

لم يأت الملك بجديد في السياستين الخارجية والداخلية، ففي الاولى تأكيد على عضوية السعودية في الاسرة الدولية وفي الثانية تأكيد على نهج مكافحة الارهاب، كما هو شأن السياسة البترول التي حملت تطميناً إضافياً للاسواق العالمية بالتأكيد على حمايتها من الهزّات.. هذه المجالات ذات الطابع السيادي كانت أولى بالاستفاضة في كلمة الملك، كونها أركاناً أساسية في تغيير وجه الدولة، خصوصاً مع التبدلات السياسية الكبرى التي جرت بعد الحرب الباردة وبعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر، وكذا التحولات الداخلية التي تطلبت معالجات جوهرية ليس ملف العنف وحده المهيمن عليها.

في عالم المبادىء، إستعاد الملك في نهجه التطويري القوالب اللفظية الجاهزة بقوله (إن منهجنا الإسلامي يفرض علينا نشر العدل بين الناس.. وأن نعطي كل ذي حق حقه.. فالناس سواسية. إن ديننا الإسلامي يعلمنا أن المسلمين أخوة وسنسعى لنزيد هذه الروابط). وتخصيصاً لهذه المبادىء العامة يعد الملك بقوله: (سنحرص على مكافحة الفقر والتركيز على المناطق التي لم تحصل على حقها من التطور. لا نريد أن نكون جامدين فيما العالم من حولنا يتغير). ثمة ما يلفت هنا أن كلمة (التطوّر) باتت تستعمل لأغراض متعددة، وقد حلّت مكان مفاهيم عدة، فهي مقابل مفهومي للاصلاح والتنمية. ومع ذلك، فإن هذه الفقرة تمثّل أهم جزء في كلمة الملك، كونها تنطوي على إعتراف غير مباشر بالتمييز واختلال التوازن في عملية التنمية خلال برامج التحديث التي بدأت منذ عام 1970.

والسؤال المطروح هنا: أليست سياسات التمييز بين المناطق في عملية التنمية دليل على وجود فساد تسبب في وقوع ذلك، تماماً كما هي الفوارق المعيشية بين فئات المجتمع. أليس من الفساد بلوغ ثروة الملك فهد 700 مليار ريال بما يربو عن الدين العام للدولة، وهو نفس العهد الذي بلغت فيه نسبة البطالة نحو 32 بالمئة. صحيح أن الملك عبد الله، وللانصاف، لم يعرف عنه الثراء الفاحش، ولم يتورط في فساد مالي داخلي وخارجي، بالطريقة التي أفرط فيها أخوته السديريون وبخاصة الاميرين سلطان ونايف، وصحيح أيضاً فرضه إجراءات صارمة بغرض تقليص المخصصات المالية للأمراء، ولكن أليس مكافحة الفقر يقتضي تشخيصاً لواقع فاسد يدرك أغلب الناس المتورطين فيه.

على أية حال، يقترب الملك عبد الله في هذا المقطع من كلمته من نقطة مشتركة مع عرائض الاصلاح التي بدأت تصله تباعاً منذ يناير 2003، ونفترض أن ليس هناك ما يمنع من استعمال كلمة إصلاح، كونها الاصدق تعبيراً. فهنا تبرز قضية فساد حقيقي مارسته الطبقة الحاكمة بقصد ولغايات خاصة، وهنا أيضاً يتطلب استعمال مبدأ الشفافية والمحاسبة الذي سبق أن أعلن عنه الملك عبد الله قبل أن يدخل الى نادي الاصلاح بدون كارت عضوية ثم يخرج من بابه الخلفي.

غالبية من قرأ كلمة الملك عبد الله، تمسّكوا بأقواله السابقة واعتبروها فاتحة لاصلاحات سياسية، ولكن الملك وحده والعائلة المالكة من قبله أزالت عن كاهلها عبء المصطلح بدلالاته السياسية والثقافية. نتوقع أن تختفي كلمة اصلاح من وسائل الاعلام الرسمي كما اختفت من لسان الملك.. ولكن أولئك الذين فهموا التطوير بمعنى الاصلاح لا يكترثون باللفظ بقدر ما ينعكس على الواقع في هيئة أعمال وسياسات، فليكن تطويراً طالما أن الغاية هو إزالة الفساد من الجهاز الاداري للدولة، وليكن تطويراً طالما أن الغاية اشاعة العدل والمساواة وتحقيق درجة متكافئة من التنمية الشاملة، ووضع أسس المشاركة السياسية، وتقاسم الثروة.. وليكن تطويراً طالما أن النتيجة هي بتر يد النهب من الثروة الوطنية، ومحاسبة اللصوص الظاهرين والباطنين.. ولكن لن يحظى الملك بوسام الاصلاح، بل وسام التطوير الذي لم تحدد مراتبه حتى الآن من قبل هيئة المواصفات والمقاييس السعودية!

الصفحة السابقة