الدخول بعقلية وصائية؟

خيارات السعودية في العراق

بدأت مصادر سياسية وصحافية محلية ودولية تتحدث عن دور مرتقب للسعودية في الشأن العراقي، بعد طول غياب أو تردد منذ سقوط النظام العراقي السابق في أبريل 2003، في ظل ظروف تزداد حلكة بعد تصاعد موجة العنف الطائفي، حيث تحوّل كل العراق أرضاً وشعباً وثروة ساحة حرب مفتوحة بين جماعات وأحزاب وطوائف ودول. ليس هناك حتى الآن من يبدي حرصاً ظاهراً على العراق، أمناً ومصيراً، فهناك تبدو حرب استئصال يشنّها الكل ضد الكل، تتفاوت فيها الاسلحة بدءاً من اتفاقيات ثنائية وترتيبات سريّة بين طرفين أو أكثر ومروراً بتحالفات بين جماعات ودول وصولاً الى استعمال لغة الفتك في أبشع أشكاله.

الملك عبدالله والرئيس نجاد: التفاهم لتطويق الحريق العراقي

أن تشارك السعودية في الملف العراقي، فتلك مهمة مطلوبة من حيث المبدأ بل منتظرة وقد دعا اليها المختلفون مع السعودية قبل المتوافقين معها، إذا ما كانت المشاركة تنطلق من رغبة في لعب دور مختلف عما يجري في حرب الاستئصال تلك بأدواتها التي باتت معروفة، ولكن أن تنخرط فيها كرد فعل على الاحساس بالخسارة أو على قاعدة المنافسة والمزاحمة للوجود الايراني فذلك يعني تعقيد الملف العراقي وزيادة عدد الخصوم على الساحة العراقية.

اللغة السعودية الرسمية حول الشأن العراقي لا تحمل في طياتها تطمينات للعراقيين، بل هناك من ينظر الى تصريحات المسؤولين السعوديين بقلق، فهي تنبىء عن انزلاق نحو دور (الطرف) وليس (الراعي)، وهو ما سيذكي الحرب الطائفية التي يسعى كثيرون الى تطويقها.

منذ عام تقريباً، يمكن أن نقرأ السلوك السياسي السعودي حيال العراق على أنه حيادي في الظاهر ولكن ليس نزيهاً، فهو حيادي بمعنى عدم التورط في الوحل، دون أن يخفي الرغبة في مقاسمه الاطراف الاخرى في الكعكة العراقية، إن لم تستطع تقليص حصص الآخرين فيها.. فهي لا تريد أن تدفع ثمناً في عراق مازالت احتمالات تخريبه وتقسيمه أكبر من استقراره ووحدته، ولكنها في الوقت نفسه لا تريد أيضاً أن تقلل من فرص الربح فيه. ففي كل مرة ينجح العراقيون في إحراز تقدم في العملية السياسية، تندلع شهية السعودية طمعاً في الحصول على موقع في المعادلة العراقية، ثم ما تلبث أن تفقد شهيتها مع أول خلاف بين القوى السياسية العراقية المشاركة في الحكم.

فكلما اقترب وقت الاستحقاق، بدأت حكومات المنطقة وبخاصة السعودية بالتحرّك السياسي والدبلوماسي من أجل الاصطفاف أو ضمان حصة في تقرير مسار ومصير العراق السياسي، مما يثير تساؤلاً حول الدور المأمول الذي تنوي السعودية لعبه في الملف العراقي.

في الشهرين الماضيين، بدا ما يشبه عملية تحفيز للسعودية على المشاركة بكثافة أكبر في المعادلة العراقية، بدلاً من ندب حظها على خسارة تكبدتها بملء إرادتها ومكسب لم تكن تسعى له بجدية فاعلة. ربما كانت الصحافة المحلية وبوجه خاص الصحافيين المتابعين للشأن العراقي أشد حرصاً على ضرورة الدور السعودي في العراق، ولحسن الحظ أن الاعلاميين المقرّبين من الملك أو حتى المساهمين في صناعة بيئة القرار السياسي في السعودية هم أناس يملكون رؤية عقلانية ومتوازنة حول مجريات العراق، إضافة الى كونهم من المناصرين للعملية الديمقراطية إذا ما نجحت فستؤتي ثمارها الاقليمية. يعوّل بعض الاعلاميين المحليين على نجاح المسيرة الديمقراطية في العراق لغايتين أساسيتين: الاولى تحجيم الجماعات الدينية المتشددة وإبعادها عن الحياة السياسية بعد أن عبثت بمكوناتها بفعل الاستعمال المفرط والسادي للعنف، وبالتالي فلا سبيل لتخفيض وإخراج الجماعات العنفية ليس على مستوى العراق فحسب بل والمنطقة برمتها الا بنجاح المسيرة الديمقراطية التي وحدها تكون فيصلاُ في تقرير حجم وجدارة ومصداقية كل جماعة. الثانية: أن نجاح العملية السياسية الديمقراطية في العراق سيعكس ظلاله على المنطقة، وسيسهّل مهمة القوى الاصلاحية في الضغط على حكومات المنطقة لتسريع المسار الاصلاحي.

وفيما يبدو، حتى الآن، أن السعودية لا تملك رؤية واضحة لدورها في العراق، فضلاً عن تبنيها لمبادرة ريادية تقودها وتعيد بها تشكيل صورتها المشوّهة والمخطوفة من قبل عدد من رعاياها المتسللين عبر نقاط حدودية مختلفة للمشاركة في دوامة العنف الطائفي. من حسن حظ السعودية، أن انتظار المبادرة هذه كان دائماً انشغالاً عراقياً خلال أكثر من عام، الأمر الذي يمنحها فرصة النجاح فيما لو جاءت المبادرة بنوايا حسنة وترعى مكوّنات الشعب العراقي دون تفريق، وتهدف الى إرساء الاستقرار وإعادة التوازن المفقود منذ عقود الى العراق.

بين المأمول والواقع تبدو الفاصلة كبيرة، فالمبادرة السعودية المنتظرة محفوفة بموجة ارتيابات عراقية رسمية وشعبية، فتلك هي الثنائية التي حكمت السياسة السعودية دائماً حين ينجب المثال نقيضه في الواقع، فهكذا ينظر العراقيون الى أي دور سعودي في شؤونهم.

بالنسبة للعراقيين، فإن السعودية ليست طرفاً نزيهاً ليس بسبب مجموعات سلفية سعودية متشددة تشارك في سفك الدم العراقي، وليس أيضاً بسبب دعمها السابق المستميت لنظام صدام حسين الى ما قبل غزو العراق للكويت في آب/أغسطس 1990، ولكن أيضاً لاعتقاد العراقيين الجازم بأن العقلية السعودية محكومة باعتبارات طائفية وسياسية ذات طبيعة تقسيمية غير قابلة لاحتواء لهب الأزمة الخانقة التي يُخشَى من تداعياتها بوتيرة غير قابلة للسيطرة.

الحكومة العراقية الجديدة التي تحاول الاستعانة بأطراف اقليمية مجاورة من أجل وقف حمام الدم في الساحة العراقية، تنتظر نوايا حسنة من دول الجوار، وليس عناصر تفجّر جديدة، وهو ما تخشاه أغلب القوى السياسية العراقية، وربما هو السبب وراء رفض هذه القوى لمبادرات عربية مهما تخفّت وراء مسمّيات كبرى مثل الجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الاسلامي أو رابطة العالم الاسلامي أو حتى مجلس التعاون الخليجي الغائب بامتياز عن المعادلة العراقية بعد أن كان حاضراً بضراوة في زمن النظام العراقي السابق.

من مشاهد العنف الوهابي في العراق

لقد انتظر العراقيون بيانات إدانة ضد الذين يشرعنون سفك دمائهم متوسِّلين بفتاوى علماء دين في السعودية، وكانوا ينتظرون من يشد أزرهم في محنة الخروج من النفق الطائفي. لم يصدر عن السعودية بياناً يدين العنف والضالعين فيه من أبنائها، كما لم توقف الحكومة هدير بيانات علماء الدين السلفيين التي تبيح عبر راية الجهاد إهراق الدم وقطع الرؤوس وتفجير الاجساد البريئة في الاسواق والشوارع العامة، تماماً كما لم تقطع دابر الفتاوى التحريضية ضد العراقيين. وأكثر من ذلك، أنها لم تعد تكترث لمشاهد الدماء التي تجري في مدن العراق وتحمل بصمة سعودية سلفية، بل تنقل وسائل الاعلام المحلية تلك المشاهد بدم بارد وكأن من يقتل من العراقيين ليسوا سوى مخلوقات غريبة لا تمت الى كوكبنا بصلة، فضلاً عن أنهم ليسوا شركاء لنا في الدم والمصير والعقيدة والتاريخ والحضارة.

عتب العراقيين في محله على حكومات المنطقة والحكومة السعودية بوجه خاص، حين أحجمت عن مجرد إيصال رسالة تبارك فيها بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة فضلاً عن ارسال موفد من طرفها لرئيس الدولة العراقية أو رئيس الحكومة الجديد، فلا هي في الشدّة أعربت عن مؤازرة لهم في محنهم، ولا هي في الرخاء أبدت معاضدة لهم، فيما يعيث الانتحاريون القادمون من ديارنا فتكاً وفساداً في أجساد العراقيين الذين لا يعرف الانتحاريون عنهم سوى ما لقّنه إياهم رجال دين يتساوى لديهم منسوبا الجهل والتعصب.

من أية بوابة ستدخل السعودية الى العراق، وماهي الروابط التي عقدتها معه، وماهي الصورة التي تنوي تقديمها في حال قررت الدخول؟ اسئلة مازالت برسم الحكومة السعودية والملك عبد الله بوجه خاص، فقرار الدخول أو التدخل في الشأن العراقي ينبني على معطيات قائمة وانطباعات حاكمة على الشارع العراقي بشقيه الرسمي والشعبي، وهنا يكمن التحدي الحقيقي.

خيارات السعودية في العراق

مهما كان الدور الذي ترغب السعودية الاضطلاع به في الشأن العراقي، لا بد أن يكشف عن غرضه، وهو بالتالي يرسم ملامح الدور ووظائفه وآلياته. وهناك في الأفق المنظور أربعة خيارات يمكن الحديث عنها على النحو التالي:

ـ الاصطفاف الطائفي: وهو خيار قد يبدو لدى البعض مستبعداً، الا أنه مازال قائماً وقد يكون مستعملاً في مستوى ضيق أو غير معلن، وقد لحظنا في الشهرين الماضيين تصرفات وتصريحات شبه رسمية تغذي مثل هذا الخيار، من خلال تقديم الدعم المالي والمعنوي والايديولوجي للجمعات السنيّة لمواجهة الشيعة والاكراد والاميركان.

خطورة هذا الخيار تكمن في تحويل السعودية كطرف مباشر في معادلة العنف، بما يجعل صعوبة تطويق الحدود الجغرافية للحرب الطائفية، إذ سيحدث حينئذ تبدّل شبه تام في المشهد الاقليمي، ولن يعود هناك نظر الى دول ذات سيادة بل الى اصطفافات طائفية، يدرك الجميع بأن من أخطر نتائجها أو تداعياتها تغذية النزعات الانفصالية واشاعة الفوضى الشاملة في المنطقة وتفتيت الكيانات القائمة. ومن الغريب أن نقرأ في صحيفة لوس انجلس تايمز تصريحاً لمسؤول سعودي وهو يتحدث بنبرة عالية حول ضرورة تسليح الجماعات السنيّة في العراق.

ـ الاستيعاب: وهو خيار يختلف عن الاحتواء الذي يجري استعماله في الغالب في ظل تفاوت واضح وكبير في ميزان القوى كما هو حاصل بين الدول الكبرى والدول الصغيرة، الا أن الاستيعاب يؤدي وظيفة أخرى تستهدف، في هذه الحال، التعاطي مع الوضع العراقي القائم والتكييف مع معطياته من خلال توثيق العلاقة مع الحكومة العراقية القائمة والشرعية، وجذبها الى الجانب العربي عن طريق تقديم تطمينات وضمانات سياسية وأمنية بغرض المشاركة في تسوية أكبر معضلة تواجه العراق وقد تهدد المنطقة برمتها، أي وضع استراتيجية للحرب على العنف الطائفي، الامر الذي سيساهم في امتصاص التوترات الكامنة والمستقبلية في العلاقة بين العراق ودول الجوار العربي وسيفتح أفق لعلاقات أفضل بين الحكومة السعودية والعراق وسينجي المنطقة من كارثة حرب طائفية.

ما تخشاه الحكومة السعودية من تبني خيار الاستيعاب بما هو معين على استقرار الوضع العراقي أنه قد يرتد سلبياً عليها. الحذر السعودي من خيار كهذا يعود الى أمرين:

ـ أن استقرار الدولة العراقية بنموذجها الديمقراطي يعني تأثيراً تلقائياً على دول المنطقة برمتها، أي ان السعودية ستكون احد الدول الرئيسية المستهدفة في التغيير الديمقراطي، وعلى الطريقة الاميركية، كما بشّر به مشروع الشرق الاوسط الكبير، وهناك قوى سياسية طامحة الى حصول مثل هذا التغيير سواء بأيديها أو بأيدي خصومها.

ـ أن استقرار العراق القائم على هزيمة جماعات العنف، سيؤدي الى عودة العناصر القتالية السعودية الى الداخل على غرار ما جرى في افغانستان، أي توفير بيئة وساحة جديدة مهيئة لتمسرح العنف على أيدي العائدين من العراق، وهذا يعني أن البضاعة الفاسدة التي تم تصديرها للعراق ستعود الى السعودية، وقد تكون الاخيرة هدفاً نهائياً يحتشد فيه كل العناصر القتالية للجماعات الجهادية، سيما وأن التوجيهات الصادرة عن قيادات شبكة القاعدة وضعت السعودية كهدف رئيسي لعملياتها القتالية.

ـ التجاهل والانكفاء: وهو خيار كان مطروحاً في بداية الحرب على العراق، وهو الى ما حدا الخيار القائم حالياً، ولكنه خيار غير استراتيجي، ولا يمكن اعتماده دائماً، خصوصاً في ظل نظام دولي متشابك المصالح، على الاقل من أجل درء أخطار محدقة. وبالتالي، فإن خيار الانكفاء لن يخدم الاستقرار السياسي والامني في المنطقة وفي السعودية حصرياً.

ـ التنسيق: وهو يختلف عن خيار الاستيعاب بكونه يضع في الاعتبار حسابات ذات بعد وطني واقليمي ودولي، وينظر فيه الى إمكانية التنسيق مع كافة الاطراف الضالعة في الموضوع العراقي سواء في الداخل أو الخارج من أجل المشاركة في ترتيب الوضع الاقليمي وإزالة المخاوف من أية تداعيات يمكن أن تحصل على خلفية الاستقرار الامني والسياسي في العراق. وقد تكون السعودية بحاجة الى التنسيق مع القوى الفاعلة في المعادلة العراقية سواء الشيعية والكردية اضافة الى التنسيق مع السنّة، وفي المستوى الاقليمي فهي قادرة على فتح قناة تفاوضية وتنسيق مع ايران، كلاعب رئيسيي في المعادلة العراقية وكذلك اطراف عربية اخرى مجاورة للعراق، وفي الوقت نفسه استثمار المأزق الاميركي في هذا البلد لصالحها، مع التشديد على ضرورة تقديم تطمينات للشعب العراقي الذي لن يغفر قتل أبنائه بسيوف السلفية.



الصفحة السابقة