جنسية العنف السعودي متفوقة حتى إشعار آخر

وكـرُ الخـفـافـيـش

منذ حوادث الحادي عشر من سبتمبر بدأت لعبة اللوم (blame game) بين السعودية والمتضررين الكثر من دوامة العنف التي ضربت ـ ومازالت تضرب ـ بعشوائية كل أرجاء العالم، لا تفرّق بين مناطق آمنة وأخرى محايدة، فقد أرست القسمة الايديولوجية للعالم الى دار حرب وكفر ودار إيمان وسلم معادلة المواجهة الكونية، فأصبحت الحرب خاضعة لثنائية الخير والشر من منظور من قرر خوضها ابتداءً. ومن سخرية الصدف أن يلتقي منطق الرئيس الاميركي جورج بوش (من لم يكن معنا فهو ضدنا) مع منطق الجماعات العنفية (فسطاط الخير وفسطاط الشر بحسب لسانية ابن لادن).

لا نبتغي هنا التحقيق في المضامين الايديولوجية بانعكاساتها السياسية والاجتماعية، وإنما الاهم من ذلك هو جنوح السعودية وبخاصة الرعاة الاساسيين لصانعي الفكر المتطرف للبحث عن كبش فداء يلصقون به تهمة تفجّر العنف في أشكاله السادية وغير المسبوقة. فالامير نايف وزير الداخلية كررها مراراً بأن العنف بضاعة مستوردة، وأن المنبع الفكري يقع خارج الحدود، وبصورة محددة في أرض الكنانة. فقد راعه هول المخزون التفجيري للتطرف الفكري الذي يتمدد بسرعة فائقة، ويبعث رسائل الدم والفزع في بقع مكتظّة بالبشر، ويحقق انتشاره الواسع عن طريق إفناء مظاهر الحياة في كل المناطق التي يتواجد فيها. ربما يجهل صانعو ورعاة الفكر المتطرف القوة التفجيرية الهائلة الكامنة فيه، وقد يفسّر ذلك الدهشة التي أصابتهم من وراء مشاهد الانتحاريين وهم يحيلون من أجسادهم قنابل بشرية، وقد يكون جحود الامير نايف برواية ضلوع 15 سعودياً في هجمات الحادي عشر من سبتمبر تعبيراً خالصاً عن تلك الدهشة والجهل معاً. كانت ساحة الجهاد الافغاني بالرغم من التغطية الاعلامية الواسعة تخفي أسرارها، وقصص البطولات التي لم تكتب الا بصورة عابرة، ربما بسبب الانشغال العالمي بالحرب العراقية الايرانية حينذاك، وربما لحاجة الاطراف الضالعة في الجهاد الافغاني لستار السرية حتى لا يطلع الفجر على حقيقة التحالفات الخفّية.

لم يكن المشاركون العرب في مشروع الجهاد الافغاني فئة متميزة عن غيرها من المجاهدين الافغان، ولذلك لم يكن العالم يعرف سوى القليل عن أعمال استثنائية قام بها هؤلاء. صحيح، أن دخول العنصر السلفي على خط الجهاد الافغاني في النصف الثاني من عقد الثمانينيات قد أحدث ضرراً فادحاً وتسبب في إحداث انقسام خطير في الجبهة الافغانية وقد كتب المراقبون للشأن الافغاني حينذاك كيف أن دخول عناصر سلفية الى افغانستان قد أدى الى افتراق البيادق والتقاء البنادق، وأصبح شيوخ السلفية الذين دخلوا أفغانستان في السنوات الاخيرة من الجهاد ضد السوفييت يخضعون المجاهدين الافغان الى دورة دعوية امتحاناً لالتزامهم بتعاليم السلف، في عملية إعادة أسلمة المجاهدين، تبدأ من نطق الشهادتين وتمرّ بامتثال سيرة السلف في التعامل مع المبتدع والضال وفاسد العقيدة، ووصولاً الى عملية تغيير المجتمع وآلياته، الأمر الذي أدى الى انفلاق حاد في المجتمع الافغاني.

دخلت العناصر السلفية الى أفغانستان بنية السيطرة على جهاده، وإدارة مشروعه السياسي، وقد نجح المال السعودي في تحقيق أغراضه بدعم من الولايات المتحدة الاميركية التي كانت توفّر الدعم السياسي والتقني لمشروع الجهاد. وربما كانت المصاهرة غير الشرعية بين هذه العناصر قد غيّبت عنصر البطولة والتميّز لدى هؤلاء المشاركين في الجهاد الافغاني، حتى اذا عاد ما يسمى بالافغان العرب الى ديارهم بدأت لعنة التواطؤ تلحق بكل الاطراف الضالعة في المشروع الجهادي الافغاني. فأصبح الافغان العرب في مواجهة الانظمة الداعمة لها ابان مرحلة الجهاد في افغانستان، واستمرت المواجهة بين الطرفين طيلة عقد التسعينات، ومع تسوية الصراع الدولي وانتقال النظام العالمي من صيغة القطبية الثنائية الى القطبية الواحدية واطلاق حلف الناتو مشروع الخصم الاصولي في العالم، الذي تعزز وتعبأ بنظرية صدام الحضارات، أصبحت المواجهة في بادىء الأمر بين الحركات الاسلامية، بصرف النظر عن إتجاهاتها السياسية واستراتيجاتها في التغيير، وبين الانظمة العلمانية بدءاً من الجزائر ومروراً بمصر والاردن وانتهاءً بالخليج.

عالم يتغير: وهجٌ سلفي جديد

ومع لحظة تدمير برجي التجارة العالمي في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001 بدأت صورة العالم تتغير، بل وبدأ شكل جديد للصراع الدولي، ودخلت المعركة بين أصوليات متطرفة والنظام الدولي بقطبه الاحادي مدعوماً بتحالف أميركي ـ أوروبي. هنا بدأت أول عملية مناجزة مفتوحة بين حلفاء الامس في الساحة الافغانية، حيث عثر الافغان العرب على وهج مفقود خلال السنوات السالفة، التي لم تحقق لهم الكاريزما الشعبية والاعلامية، فجاء التقاء الذرى: ذروة الاصولية الدينية المتطرفة مع ذروة القوة العالمية الطاغية.

ولا شك، أن التشبيع المتواصل للذاكرة العربية والاسلامية بتراث الاستعمار الاوروبي والطغيان الاميركي مشفوعاً بالتحالف المفتوح مع الكيان الاسرائيلي الغاشم، قد أضاف مكوّناً رئيسياً لصناعة صورة البطل، إن لم يكن المخلّص المنتظر خروجه من باطن المجتمعات العربية والاسلامية المقهورة سياسياً واجتماعياً. عملية إنتقام المتدّربين في والمتخرّجين من معسكر الجهاد الافغاني بإدارته الاميركية كانت بمثابة رد فعل على خديعة لم تكن مدركة.

فقد دخل هؤلاء البسطاء في معركة تفوق حجم إدراكهم الذهني ورشدهم السياسي وفوق هذا عدّتهم العسكرية، ولم يكن يعلموا يوم وطأوا أرض الجهاد في أفغانستان أنهم باتوا جزءاً من لعبة دولية، إن لم يكن (جيش مرتزقة) غير نظامي. وقد أفاقوا من غفوتهم بعد أن استكملت الولايات المتحدة إحكام قبضتها على العالم بأسره، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وليس مستغرباً أن يعود الافغان العرب بقليل من الفخر رغم تحرير افغانستان وخروج الجيوش السوفييتية منها، بل إن ردود أفعال الافغان تنبىء عن عودة لا تشبه عودة المنتصرين الى ديارهم، بل هي عودة مرتبطة بخديعة وارتفاع الستار عن جهل أحاط بهم.

تجدر الاشارة الى عامل رئيسي لعودة الافغان العرب الى ديارهم، وهو الاقتتال الداخلي الذي اندلع بين فصائل المجاهدين الافغان والذي يعود في أحد مولدّاته الى التعبئة الايديولوجية ذات الطبيعة الانقسامية، فقد خرجت القوات السوفييتية من أفغانستان، وبدأت حرب المغانم بين القادة الافغان بصورة شرسة واستئصالية، فاضطر الافغان العرب النجاة بأنفسهم بعد أن ضيٌقت باكستان الخناق عليهم، فقررت قيادات الافغان العرب اعتماد مبدأ الانتشار والانتقال الى المناطق المؤهّلة لاحتضان العائدين وتشكيل بؤر جهادية قابلة للتمدد، فاختارت مناطق فقيرة ولكنها تنطوي على محفّزات تتناسب والقدرة التعبوية والايديولوجية للعائدين من أفغانستان، فكانت السودان واليمن والصومال أراضٍ صالحة لاستزراع مشروع جهادي أممي، ولعب المال السعودي دوراً رئيسياً في عملية التأسيس لقواعد القاعدة.

انتقل اسامة بن لادن الى السودان لوجود حكومة تعتنق مشروعاً إسلامياً وكانت في بداياتها تناصر قضايا التحرر من الهيمنة الغربية على خلفية دينية وحضارية، وانتقل قسم آخر من القيادات الوسيطة الى اليمن والصومال، وقد شارك قسم من هؤلاء في حرب اليمن، ثم بدأ التصعيد الخطير في مسرح المواجهة مع الغرب بضرب السفارة الاميركية في نيروبي في آب 1998، حيث بدأت حملة ملاحقة واسعة النطاق للافغان العرب اضطروا إثرها الى العودة الى أفغانستان بعد أن بدأت قواعدهم تضرب في السودان واليمن والقرن الافريقي.

وكان قيام حكومة طالبان سلوة ظرفية لدى كثير ممن لفظتهم بلدانهم، ولم يحظوا فيها باستقبال يليق بهم، بعد أن أنجزوا مهمة تحرير بلد من ربقة الاحتلال. لقد عاد كثير منهم الى المحضن الافغاني، الذي خيّل لكثيرين أن دولة طالبان أصبحت (القاعدة) التي سينطلق منها مشروع الامة الاسلامية العالمية. وفي تلك التربة زرعت القاعدة أحلامها الكونية، ومنها انطلقت قوافل الانتحاريين الى كل أرجاء العالم. وهنا تجدر الاشارة الى الاختطاف المفاجىء للمشروع الجهادي الافغاني، حيث تأسست الدولة الطالبانية بمباركة باكستانية سعودية. أما الطرف الاميركي الذي كان يدير لعبة إزاحة المواقع، فكان يتحيّن فرصة احتواء أكبر تدخل الى جانب العراق وايران افغانستان.

في الداخل الافغاني كانت القاعدة بفكرها السلفي المتشدد وعناصرها السعودية والعربية الموتورة تعدّ لعملية انتقام نوعية، تصعد بها الى ذروة المواجهة العسكرية والاعلامية، وتعيد بها جزءاً من الاعتبار النفسي والسياسي المفقود. وهنا نقطة المفارقة الجوهرية بين سيادية حركة طلبان وسيادية تنظيم القاعدة على التراب الافغاني، ولعل سؤال من يحكم أفغانستان آنذاك: ملا عمر أم أسامة بن لادن كان وجيهاً بل وبالغ الدقة.

فالاخير كان يشعر بأنه أحد صنّاع النصر في أفغانستان، وهو أحد كبار مموّليه المباشرين وغير المباشرين، بمعنى أنه كان قناة يعبر من خلالها الدعم المالي القادم من السعودية ودول خليجية اخرى مثل قطر والامارات الى افغانستان ـ الدولة، المشروع السياسي والايديولوجي. أما حركة طالبان التي كانت مجهولة الهوية والنشأة والتمويل، فمثّلت جزءاً من مشروع سياسي تتظافر فيه جهود تنظيمية محلية وخارجية، وليس أسامة بن لادن سوى أحد أبرز الاطراف الضالعة في بنية الحركة الطالبانية والقيادة الظل في افغانستان، إن لم يكن الممثل السعودي غير الرسمي في حكومة طالبان، جنباً الى جنب الامير تركي الفيصل، السفير السعودي في واشنطن.

حركة الجهاد الافغاني، والافغان العرب، وتنظيم القاعدة، وابن لادن، كلها مكوّنات كانت تقع خارج المجال الحيوي العربي بل والمخيال الشعبي الاسلامي بصورة عامة حتى لحظة إعلان الرئيس الاميركي جورج بوش عن ضلوع تنظيم القاعدة في تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، وقد يكون الرئيس الاميركي أول من أعلن عن وجود تنظيم إسمه القاعدة، فهو صاحب البيان الاول، وما جاء لاحقاً كان إتماماً لعملية الظهور المتصاعد لشخصيات مغمورة سابقاً في الفضاء الاتصالي العالمي، حيث أغرق هذا الظهور الاعلامي لقيادات شبكة القاعدة طيفاً واسعاً من الشخصيات الاسلامية من طنجه الى جاكرتا، وأصبحت الكاريزما الدينية مرتبطة بالنضالية السياسية الموجّهة في المنازلة مع الولايات المتحدة والغرب بصورة عامة.

هنا يبدأ الانتشار السلفي إعلامياً، وهنا أيضاً تتحطم الامبراطورية السلفية، وهنا تلتقي المفارقة التاريخية: بزوغ نجم شخصيات بالغة السطحية في وعيها السياسي ومستواها العلمي والمعرفي لا تلوي سوى على روح قتالية ساديّة، فيما تتآكل أطراف المشروع السلفي الكوني، حيث ينخرط أفراده ضمن كتائب الانتحاريين دون رسالة واضحة، في عملية اختزال للمشروع السلفي الكوني. إنها، تحوّلت بعد عقدين من الانبثاث العالمي، الى إطروحة خرساء، يتم استبدال الفكر بالدم، والعقل بالقتل، والحوار بالموت، يمنطقها المتورّطون في المشروع بأن الغرب لا يفهم الا لغة السلاح والقتل، على غرار قول الشاعر السيف أصدق أنباءً من الكتب. وفي حقيقة الأمر، أن توسل هؤلاء بالقوة الغاشمة يشي بضحالة المنسوب الفكري والتعليمي لديهم، وهو ما يدفعهم الى اعتماد الدوي ولغة الدم القاني والاضواء الفاقعة التي تسلّط على الرؤوس المقطوعة، والاشلاء المنثورة، والدماء المسفوكة.

وفي تقديرنا أن حوادث الحادي عشر من سبتمبر وما بعدها والتشبيع الاعلامي المصاحب لها نفخت في الجماعات السلفية المغمورة بما فيها زعامات القاعدة روحاً قتالية جديدة، وأغرت كثيراً من عناصرها للاضطلاع بأعمال ذات بعد استعراضي لافت، وهو ما تظهره وسائل التعبوية الاعلامية والالكترونية بوتيرة متواصلة.

لقد دِشّنت تلك الحوادث عصر الانفجار السلفي، الذي انتقل من الفكر الى الفعل، وبات يمارس ما انطوى عليه ذهنه من رؤى أيديولوجية بطابعها اليوتيبي والمانوي، فأصبح الدين مختزلاً في الجهاد والجهاد مختزلاً في القتال والقتال مختزلاً في الانتحار، وأصبح الاخير مغتسلاً بارداً وشراب لدى أولئك الذين يبحثون عن خلاص أخروي عاجل ينجيهم من حسابات عسيرة لقاء ما اقترفوا من موبقات في ماضيهم، ووسام شرف دنيوي يضعهم في قائمة الابطال.

قد يكون البزوغ الاعلامي اللافت للمتطايرين من (وكر الخفافيش) في أفغانستان كان مغرياً للاندفاع الهستيري في محارق الموت، فالتغطية الاعلامية المتميّزة التي يحضى بها الانتحاريون رفعت عقيرتهم لخوض غمار معارك أشد شراسة لانجاز عرض باهر في فن الموت، ويفتح شهية الذين يبحثون عن حلم العظمة في وقت قياسي، تحت غطاء أيديولوجي تسويغي يتوافر على مبررات الفناء المشروع.

صنّاع عقيدة الفناء والافناء يندسّون بين خلايا الجماعات المسلّحة ويملكون القدرة الفائقة على الانسحاب التكتيكي وبهدوء. في الدولة السعودية، ثمة من يقوم بتأمين الغطاء السياسي والأمني لعملية الانسحاب تلك، كما يتم يتأمّن غطاء مماثل لعملية العودة من بوابة أخرى، وهي تكتيكات تدور في فلك هدف واحد: إبعاد شبهة التورط في كرنفالية الدم المسفوح في بقع لم تتعرف على الافكار السلفية المتطرفة الا عبر مواد متفجّرة وضعت في حافلات أو زرعت في سوق شعبي، ثم ينتهي المشهد الدموي، ويسدل الستار على لا رسالة، ولا قضية، ولا هدف، سوى حصد أرواح أكبر عدد من الابرياء.

التمثيل السعودي في مشروع الدم العراقي

على مدى السنتين الماضيتين، بدا في حكم المؤكّد تفوّق العنصر السعودي في المشروع الانتحاري في العراق فضلاً عن بقع عديدة من العالم، وبحسب تقديرات عراقية شبه رسمية أن الانتحاريين من الجنسية السعودية يمثّلون 60 بالمئة. معلومات كهذه تنطوي على إشارات بالغة الدلالة، فهي لا تمدّنا بمجرد معطى رقمي، وإنما تشي بحجم التعبئة الداخلية التي أنتجت هذه النسبة المتفوّقة وزجّت بتلك العناصر الى محرقة الموت خارج الحدود، بل وفي تربة لم تطأها أقدامهم من قبل، فضلاً عن أن يتقنوا قراءتها بصورة صحيحة وعملية، خارج سياق الرسالة الايديولوجية التي دسّها صناع الفناء والافناء في أذهانهم.

لا ريب، أن التمثيل السعودي رفيع المستوى والعدد في المشروع الانتحاري داخل العراق وخارجه يطيح بدعوى الذيول الخارجية للفكر المتطرف، ويضغط بشدة لجهة البحث عن مكامن التعبئة الايديولوجية في الداخل بدرجة أساسية. ربما خفّف اعتلاء أسماء غير سعودية سنام القيادة في الجماعات الانتحارية في العراق الضغط النفسي لبعض الوقت، وربما كان اختطاف الزرقاوي لحزمة ضوء كثيفة خلال الفترة الماضية قد حجب معلومات بالغة الخطورة عن الخطوط الخلفية والطبقة القيادية الوسيطة في التنظيمات المسلّحة داخل العراق، وخصوصاً أحجام التمثيل للجنسيات فيها، ولكن مقتل الزرقاوي قد أعاد الى الواجهة سؤال التمثيل مرة أخرى.

حاولت السلطات الامنية السعودية القيام بخطوة استباقية بعد مقتل الزرقاوي، عبر دفع تهمة زيادة حجم التمثيل السعودي في الجماعات المسلّحة داخل العراق. تنطلق الخطوة الاستباقية السعودية من نقطة الانتصار على شبكات الارهاب في الداخل، وكسر شوكته، وتحطيم خلاياه، وأن ما يقوم به بين حين وآخر لا يتجاوز حد إثبات الوجود والبقاء على قيد الحياة. في غضون ذلك، تنبّه السلطات الامنية الى أن الحرب على الارهاب لم تضع أوزارها، وأن المعركة مع الارهابيين ماتزال قائمة، رغم كل الضربات الساحقة التي أصابته في الداخل. وهنا تنشق الرواية الأمنية السعودية عن معطى جديد، يهدف الى ضرب الرواية الشائعة حول تفوق العنصر السعودي.

بيان وزارة الداخلية السعودية في الرابع والعشرين من يونيو الماضي حول اعتقال 44 شخصاً يشتبه في تورطهم بالارهاب ويشكّلون (خلية مترابطة) في أنحاء المملكة، سيكون دليلاً إضافياً على أن الجماعات المسلّحة لا تزال تجذب عناصر جدد الى داخل خلاياها. البيان لفت بصورة متعمدة الى وجود عناصر أجنبية: صوماليان وإثيوبي وعراقي. وهنا تبدأ الهجمة المرتدّة أو المعاكسة للسلطات الامنية السعودية التي خضعت طيلة السنتين الماضيتين لاتهامات تورط مواطنيها في دوامة العنف داخل العراق.

ولاستحالة اضطلاع الصومالي والاثيوبي بأدوار قيادية بحسب النزوع العنصري داخل التيار السلفي ببنيته القبلية وكما تعكسه الادبيات السلفية بوضوح، فقد أرادت من وراء ذكر العراقي توسيع مسرح الجريمة وخلط الاوراق. تقول الراواية الامنية بأن هذا العراقي مبعوث من تنظيم القاعدة لاعادة بناء الخلايا في السعودية، الأمر الذي يمنح السعودية شهادة الضحية بدلاً من الجلاد. يعزز هذه الرواية تصريحات سابقة للزرقاوي قبل مقتله بفترة وجيزة الى ادخال السعودية والاردن ضمن دائرة العمل الجهادي.

ما يلفت الانتباه هو تسليط الضوء المتأخر على العنصر الاجنبي في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وكأن هناك من تنبّه الى لفتة كانت غائبة ودليل براءة مهمل في قضية الاتهامات المتزايدة ضد التورط السعودي في دعم الارهاب في العالم. بدأت السلطات الأمنية السعودية تعيد قراءة قوائم المطلوبين بغرض إبراز العناصر غير السعودية، مثل اليمني خالد حاج الذي احتسبته السلطات الامنية السعودية خليفة يوسف العييري المؤسس لتنظيم القاعدة في السعودية والذي لقي حتفه في يونيو 2003، كما بوأت السلطات الامنية المغربي كريم التهامي منصباً قيادياً، ويونس الحياري الذي عدّته قائد التنظيم في السعودية حتى مقتله في يوليو 2005، وكذا الحال لعدد من أعضاء التنظيم من جنسيات كويتية وموريتانية ويمنية وتشادية ومغربية أريد من إعادة تسليط الضوء عليها تحقيق موازنة تعتقد الحكومة السعودية بأنها أغفلتها في المرات السابقة حيث كان العنصر الاجنبي حاضراً في التنظيم والعمل المسلّح.

ضعف الرواية السعودية هذه المرة لا يكمن في العثور على عراقي ضمن قائمة المشتبه بهم، فما ينطبق على السعودي في العراق ينسحب على العراقي في السعودية من حيث الجهل المتبادل بالمناطق التي يخوضون على ترابها معاركهم الدامية، بما يجعل تسليم القيادة لعراقي في بلد كالسعودية، التي تحضن صنّاع الفكر المتشدد، وقيادات ميدانية متمرّسة في العمل المسلّح أمراً مريباً بل ومرفوضاً من قبل (تنظيم القاعدة في جزيرة العرب). ثم ماذا يمثل وجود عنصر عراقي في خلية إرهابية في السعودية بالمقارنة مع مئات السعوديين المتورطين في عمليات انتحارية وارهابية دموية داخل العراق؟

إن مجرد وجود علاقة مطردة بين فروع التنظيم في العراق وعدد من دول الجوار وخصوصاً السعودية والاردن لا يعني البته انتشاراً قيادياً بالطريقة السارية في العراق المفتوح على تنظيمات متشابكة من جنسيات متعددة، كما لا يخفي آثار: مصادر التمويل والتوجيه والتفوق العضوي في التنظيمات المسلّحة الكبرى. صحيح أن هناك محاولات جادة من قبل تنظيم القاعدة لاعادة بناء فرعه في الجزيرة العربية بعد إصابته بكسور مضاعفة خلال السنتين الاخيرتين، ولكن لا يعني ذلك ضعف انتاجية الداخل السعودي في مجال توليد قيادات أخرى محلية، فضلاً عن أن الرواية الامنية تريد إيصال رسالة واضحة بأن السعودية ليست وكراً للفكر المتطرف والمتطرفين، وهذا ما أرادته من إبراز العنصر العراقي في قائمة المشتبه بهم.

مقولة (تصدير الارهاب) للسعودية من العراق ليست من قبيل: بضاعتنا ردت إلينا فحسب، بل هي تعبير عن نوايا دفع مركز الجاذبية من السعودية الى العراق، على خلفية الافادة من تصريحات سابقة للزرقاوي. مع أن واضعي الرواية الامنية السعودية يدركون أن تنظيم القاعدة في السعودية ظل محتفظاً بهويته المحلية في أوج العلاقة الوطيدة مع الزرقاوي، بل لقد ضمن الاخير هدفين لتنظيم القاعدة في السعودية: التدريب العسكري والتخطيط الميداني، ولكن الزرقاوي الذي يعتبر السعودية منطقة امتياز للقيادات العليا في القاعدة وخصوصاً اسامة بن لادن فضلاً عن كتلة المشايخ الداعمين له فكرياً ومالياً، لم يفكّر مطلقاً، رغم طموحه المثالي، في القيام بعملية اعتراضية داخل المجال الحيوي لقيادة التنظيم، سيما وأنه ظل في حاجة ماسّة لدعم مالي وبشري وايديولوجي من السعودية.

مهما يكن، فإن محاولات السلطات الامنية بالعثور على كبش فداء لارهاب الداخل والخارج لم تصمد طويلاً، فقد بقي التفوق البشري في البنية التنظيمية للجماعات المسلّحة سعودياً بامتياز، وأن الحديث عن عراقي يراد منه احياء التنظيم وبعث خلاياه النائمه او الخاملة ليس سوى مجرد (تهويش) في الهواء.

فما يوصف الآن بالحضور الأجنبي في قائمة المطلوبين بالسعودية، قد يوفر خروجاً آمناً من مأزق وجدت الحكومة السعودية نفسها فيه بعد سنوات من الصدارة الاعلامية في مجال تصدير الانتحاريين وترويج عقيدة الاستئصال، الا أنه لا يوقف الاكتشافات المتوالية في الخارج عن خلايا يكون فيها العنصر السعودي متفوقاً عددياً ونوعياً.

ما نخلص من رواية السلطات الامنية السعودية حول وجود العنصر الاجنبي ضمن التنظيمات المسلّحة داخل السعودية، أن الحكومة وتحديدا وزارة الداخلية التي كانت تحمّل الفكر الخارجي أي فكر الاخوان المسلمين مسؤولية نشر الافكار المتطرفة المحرّضة على العنف هاهي الآن تحاول أن تنسب أدواراً قيادية للعناصر الخارجية، منها القاء القبض على عناصر أجنبية داخل السعودية.

ومن المفارقات اللافتة أن متقطفات خبرية على مدى الشهرين الماضي تشير الى عكس ما ترمي اليه الرواية الامنية السعودية. فإذا أضفنا الى المعلومة الشائعة بأن 60 بالمئة من العناصر الخارجية التي تشارك في دورة العنف في العراق هم من السعوديين، وقد كانت السلطات الامنية العراقية قد أبلغت الحكومة السعودية بمعلومات عن كثير منهم، فإن هناك معلومات أخرى وردت مؤخراً منها على نحو الاجمال: إلقاء القبض على شبكة ارهابية في الاردن يقودها ويموّلها شخص سعودي. من جهة ثانية نشر موقع العربية على شبكة الانترنت مقابلة مع الشيخ ابو القعقاع الحلبي تحدث فيها عن عشرات السعوديين الذين يقدمون اليه قبل أن يتسللوا الى العراق للمشاركة في دوامة العنف.

وفي خبر آخر أدانت المحكمة الجنائية المركزية في العراق في 26 يونيو الماضي عشرة معتقلين لأسباب أمنية بينهم ثلاثة سعوديين بجرائم مختلفة تتضمن حيازة أسلحة ممنوعة ومخالفات في جوازات السفر وعبور الحدود بطريقة غير مشروعة وحكمت عليهم بالسجن لمدد تتراوح بين سنة واحدة والمؤبد. من اللافت في شهادة السعوديين أنهم دخلوا الى العراق بصورة غير شرعية وقال أحدهم بأنه جاء لغرض الدعاية لصالح المتمردين والآخر تم اكتشاف أسلحة غير مشروعة في سيارته عبر الحدود وقد جاء في اعترافاته بأنه جاء بغرض الالتحاق بالمجاهدين.

خبر آخر كشف عنه مستشار الامن القومي العراقي موفق الربيعي في الثامن والعشرين من يونيو الماضي حيث صرّح بأن السلطات العراقية اعتقلت شخصا تونسيا كان ضمن الخلية التي فجرت مرقدي الامامين العسكريين في سامراء في فبراير/ شباط الماضي. وقد أدلى القيادي التونسي ابو قدامة بمعلومات مهمة، حسب الربيعي، وقال بأن العراقي هيثم البدري زعيم الخلية التي نفّذت جريمة قتل مراسلة قناة (العربية) أطوار بهجت هو مسؤول عن وحدة تابعة لتنظيم القاعدة تتألف من عراقيين اثنين وأربعة سعوديين وتونسي (أبو قدامة).

وهناك رواية اخرى ظهرت بعد بروز ابو ايوب المصري الذي كان يعتقد بأنه تولى قيادة تنظيم القاعدة بعد مقتل الزرقاوي. تقول هذه الرواية بأن غالبية المقاتلين الاجانب من المصريين، وهي تتناسب مع صعود مصري الى سدة القيادة في تنظيم القاعدة، ولكنها بالتأكيد لا تكشف عن حجم الضالعين في مسلسل العنف، فالرواية تتحدث عن جنسيات المعتقلين وليس عن عدد الافراد من كل جنسية في مشروع العنف، الذي لا يزال فيه العنصر السعودي متفوّقاً حتى إشعار آخر.

الصفحة السابقة