مصالحة المالكي وعفو عبدالله

دبلوماسية التعاون الأمني

جولة رئيس الوزرا العراقي نوري المالكي في منطقة الخليج في بداية شهر يوليو ولقائه مع قادة كل من السعودية والامارات والكويت جاءت عقب تطوّرين مهمين: إعلان المصالحة الوطنية من قبل المالكي بعد مقتل زعيم تنظيم القاعدة في العراق الزرقاوي، واعلان الملك عبد الله عفواً جديداً عن المطلوبين أمنياً ممن يرغبون في التخلي عن خيار العنف.

وتنبع أهمية زيارة المالكي كونها تأتي في سياق الكشف عن معلومات بالغة الاهمية حول مخطط الجماعات المسلّحة مع توحيد قيادة تنظيم القاعدة ووضع استراتيجية جديدة في العمل العسكري تقوم على الانتشار على رقعة جغرافية واسعة تحقق أكبر قدر من المكاسب وتبقي على جذوة العمل، الى جانب تفادي خسائر كبيرة في التنظيم.

المالكي الذي حمل معه معلومات أمنية خطيرة حول الجماعات المسلّحة في السعودية والتي حصلت الاجهزة الامنية العراقية عليها بعد مقتل الزرقاوي والتي وضعها المالكي في عهدة الحكومة السعودية شجّعت الملك عبد الله على تقديم الدعم لمبادرة المصالحة الوطنية العراقية، بالرغم من تحفظ الامير نايف وزير الداخلية الذي لم يبدِ حماسة من أي نوع في لقاء المالكي أو الوفد الأمني المصاحب له.

وكان المالكي قد صرّح من بغداد بعد عودته من جولته الخليجية بأن مباحثاته مع القادة السعوديين والاماراتيين والكويتيين قد شملت اتفاقات للتعاون المني لمنع ما أسماه (انتشار وباء الارهاب من العراق الى دولة المنطقة)، ويستند في ذلك الى معلومات حصلت عليه الاجهزة الأمنية بنوايا تنظيم القاعدة تشكيل خلايا انتحارية جديدة في هذه الدول من أجل فك الحصار المفروض على التنظيم وفتح أفق عملياته العسكرية في المنطقة. المالكي الذي أشار الى تشكيل لجان عليا امنية مشتركة بين هذه الدول والعراق جاء برسالة واضحة تملي ضرورة التعاون الأمني بين هذه الدول كونه الخيار الأمثل لتطويق أخطار العنف في المنطقة برمتها، خصوصاً بعد قرار تنظيم القاعدة في العراق إشعال جبهات أخرى.

حتى وقت قريب، لم تكن الدول المجاورة للعراق تحمل تحذيرات المسؤولين العراقيين من خطر انتشار وباء العنف على محمل الجد، على أساس ان تنظيم القاعدة يجد في العراق ساحة تستحق تكريس جلّ طاقاته بسبب ضعفه وانفلاته الأمني وسهولة تهريب السلاح والافراد اليه وسهولة تنفيذ العمليات فيه. ولكن ثمة وجه آخر لم يكن مرئياً بالنسبة لقادة دول الجوار، وهو أن أية انكسارات للتنظيم داخل العراق ستعقبها ولادات جديدة لخلايا في جسم التنظيم وستكون مهمتها التعويض بضربات في مناطق أخرى خارج العراق.

المالكي بالتأكيد لم يحمل معه الملف الأمني فحسب، بل جاء ليفتح صفحة جديدة مع دول الخليج، ويقدّم دعوة للمشاركة في بناء العراق، وهي دعوة لتحمّل المسؤولية في دعم الاستقرار في المنطقة بصورة عامةً، فبقاء العراق ساحة لأنشطة الجماعات المسلّحة سيبقي المنطقة مفتوحة أمام أزمات خطيرة، ومن هنا جاءت مطالبة المالكي قادة الدول الخليجية التي زارها بدعم مبادرته في المصالحة الوطنية، عن طريق إقناع أطراف عراقية مازالت تتردد إن لم ترفض المبادرة، وكانت السعودية قد اقترحت تعديلات على مبادرة المالكي بحيث تضم من قاتل ولكن لم يرتكب جريمة قتل، على غرار مضمون مبادرة العفو التي اعلنها الملك سابقاً ولاحقاً.

مبادرة العفو التي أعلنهاالملك عبد الله جاءت هي الاخرى، وكما في المرة السابقة، بعد إتمام عملية أمنية ناجحة، حيث تم الاعلان في السادس والعشرين من يونيو الماضي عقب جلسة مجلس الوزراء الاسبوعية عن عرض بالعفو عن أي مطلوب يقوم بتسليم نفسه (الى السلطات الأمنية وسوف يشمله العفو وذلك استمراراً للعفو الذي سبق وأن أمر به).

وكما في مبادرة العفو السابقة والممدّدة في العام 2004، فقد أظهرت لغة المبادرة الاخيرة صرامة كي لا تفهم على أنها تنازل أو أنها صدرت من موقع ضعف، حيث تم التشديد على تصميم الحكومة على استئصال شأفة الإرهاب. وتلفت المبادرة التي أطلقها الملك الى الصعوبات التي واجهت أجهزة الأمن ومازالت في الكشف عن مخابىء الجماعات المسلّحة بفعل الدعم والحماية التي يحضون بها من قبل بعض الأهالي، وهو ما يفسّر دعوة الملك (المواطنين والمقيمين إلى عدم التغاضي عن أي مجرم أو التستر عليه).

مبادرة العفو الاخيرة والتي جاءت بعد القاء القبض على 42 شخصاً من أفراد الجماعات المسلّحة التابعة لتنظيم القاعدة، تأتي في سياق معلومات حصلت عليها الحكومة السعودية من الاجهزة الأمنية العراقية حول انضمام سعوديين الى خلايا القاعدة في العراق للتخطيط لعمليات داخل السعودية، بعد قرار ما يعرف بـ (شورى المجاهدين) وهي الهيئة القيادية لتنظيم القاعدة بإعادة بناء خلايا التنظيم في السعودية.

المالكي وعبدالله

وفي أول رد فعل على بيانات وزارة الداخلية حول المواجهات الاخيرة في حي النخيل بالرياض وكذلك مبادرة العفو التي أعلنها الملك عبد الله، نشر موقع (شبكة مهاجرون الاسلامية) على شبكة الانترنت في الثالث من يوليو بياناً (من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بخصوص مواجهات حي النخيل بالرياض والتطورات الأخيرة)، جاء فيه:

مازالت الحكومة السلولية المرتدة تحارب أسود التوحيد في جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم حيث استشهد ستة من أسود التوحيد وأسر سابعهم فك الله أسره عاجلاً غير آجل في معركة النخيل بالرياض نسأل الله أن يتقبلهم في عداد الشهداء وأن يرزقهم الفردوس الأعلى من الجنة فقد نالوا ما تمنوا، ونعـزي إخواننـا في البشائر ونحثهم على الصبر ومواصلة العمل كما نرحب انضمامهم إلى تنظيم القاعدة في جزيـرة العـرب حيث تتضافر الجهود وتتحد الأهداف، وحـول الكذبة الصلعاء التي أطلقها دجاجلة الحكومـة المـرتدة والذين لا يكفون عن الكذب بأن الأخوة في البشائر كانوا ينوون تفجير مجمع تجاري!! فأي أحمق يصدق هذا!! وما بال أقوالهم تغيرت ألم يقل ناطق الداخلية الرسمي بأنهم كانوا ينوون استهداف أحد مقرات الأمن!! ( وهي بطبيعة الحال أحد المقرات التي أُسست على حرب الجهاد والمجاهدين ) فلماذا هذا التخبط.

وبعد هذه المعركة خرج الطاغـوت عبدالله مستحمقاً أسود الجهاد في جزيرة العـرب بعرضه عفواً كما زعم لمن يسلم نفسه طواعية للحكومة المرتدة العميلة وإن هذه الخطوة تدل على التوجس والخـوف الذي تشعر به الحكـومة المرتدة إذ ليس من منطق القوة إعلان مثل هذا العـرض الـذي ذهب وانتهى وأثبت فشله سابقا، ونحن نقول له لا استسلام فإما النصر أو الشهادة فهذا الطريق هو طريق الأنبياء والصـالحين طريق الأشلاء والدماء والإبتلاء ، نسأل الله أن يأخذ من دمائنا حتى يرضى.

كما نحث إخواننا المسلمين في جزيرة العرب لمن يريد الجهاد منهم ألا ينتظر الانضمام إلى التنظيم حتى يقوم بالجهاد فدونكم الصليبيين يسرحون ويمرحون على ثرى جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم فأحرقوا الأرض من تحت أقدامهـم وأثخنـوا فيهم واعقدوا العزم وامضوا متوكلين على الله ولـن ننسى غزوة ينبع المباركـة التي قـام بها أبناء الأنصاري تقبلهم الله , ولمـن أراد الاستزادة في هذا الجانب فقد صدرت عن صوت الجهاد ومعسكر البتار ما يسهل المهمة ويوضح الطريق .

وأما أنتم أحفاد القردة والخنازير في جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم قد أبقى الله لكم فئة تقاتل في سبيـل الله تحب الموت كما تحبون الحياة ،والله ثم والله لن يهنأ لنا بال ولن يلذ لنا عيشٌ حتى يطالكم أنتم وعبيدكم من آل سلول وحاشيتهم ضربات المجاهدين ، ولن ننسى أبطالنا التي ارتوت أرض محمد صلى الله عليه وسلم بدمائهم الزكية كالشيخ يوسف العييري وعبدالعزيز المقـرن وخالد حاج وفيصل الدخيـل وبدر السبيعي وسعود العتيبي وصالح العوفي وفهد الفراج تقبلهم الله في عداد الشهداء فوالله إن ثأرهم قد إقترب -وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).

يلفت البيان الى ما أشير له سابقاً في هذا المقال، بأن ثمة اتفاقاً تم بين فروع تنظيم القاعدة على تكليف شورى المجاهدين بمتابعة شؤون التنظيم داخل العراق وخارجه، من أجل المحافظة على البنى التنظيمية للفروع وحتى لا يكون مصير التنظيم مرتبطاً بشخص واحد كما جرى بعد مقتل عبد العزيز المقرن وصالح العوفي.

ملاحظة أخرى يكشف عنها البيان أن الجماعة لم تعد تملك منجزاً عسكرياً تتحدث عنه منذ مقتل صالح العوفي، آخر قائد للتنظيم، الأمر الذي دفع بها للتذكير بمنجزات عسكرية سابقة. وبالرغم من أن البيان ينطوي على اعتراف ضمني بفشل عمليات التنظيم خلال العام الماضي، الا أنه تمسّك بخيار الرفض لمبادرة العفو واحتسبها خطوة تراجعية وانطلاقها من نقطة ضعف. نشير الى أن المبادرة السابقة لم تثمر عن نتائج لافتة، فقد استجاب عدد ضئيل للغاية لمبادرة العفو، وأكثرهم ممن لم يضطلع بأدوار فاعلة في التنظيم.

ما تجدر الاشارة اليه، أن قوائم المطلوبين التي كانت تعلن عنها وزارة الداخلية خلال السنوات الثلاث الماضية قد خضعت لتبدلات دراماتيكية، وكانت أجهزة الامن والأطراف القريبة منها تشير بإصرار الى إنخفاض حاد في عدد أعضاء التنظيم فيما تشير الدلائل الى أن الجماعات المسلّحة مازالت تحتفظ بقوة بشرية وعسكرية كبيرة نسبياً.

نقطة أخرى يلفت اليها البيان المنسوب لتنظيم القاعدة في الجزيرة العربية هو التحوّل الحاصل في الاستراتيجية التنظيمية، وهذا ينبىء عن الفراغ القيادي للتنظيم داخل السعودية، واستبدال خيار التنظيم الحديدي الهرمي بالخيار الشعبي الافقي، كما ينبىء أيضاً عن أن الجماعات المسلّحة التابعة لتنظيم القاعدة قررت الدخول في مرحلة العمل السرّي بعد افتضاح بعض خيوطها وخلاياها في الداخل.

لا شك أن المعلومات التي حصلت عليها الحكومة العراقية في البيت الذي كان يختبىء فيه الزرقاوي بعد مقتله قد كشفت كثيراً من أسرار التنظيمات التابعة للقاعدة في العراق والاردن ودول الخليج، الأمر الذي تطلب استنفاراً تنظيمياً من أجل تبديل المواقع واستراتيجيات العمل التنظيمي والعسكري، وتشديد السريّة على تشكيل الخلايا ونشاطاتها، واخفاء أسماء القيادات في المناطق التي تكون فيها بنية التنظيم ضعيفة أو عرضة لخطر الكشف.

ولأول مرة تلجأ الجماعات المسلّحه الى خيار يجمع بين الجزر المفصولة والعمل الشعبي غير المنظّم، وهو ينمّ عن خلخلة بنيوية عميقة قد أصابت التنظيمات المسلّحة، دون أن يعني ذلك إصابتها بالشلل التام، فقد اعتادت على العيش في ظروف أمنية بالغة الصعوبة، وقدرها ان تعمل في أجواء تتسم بالتكتّم والسرّية الشديدة.

ما تخشى منه الجماعات المسلّحة هو تظافر الجهود الأمنية بين العراق والدول المجاورة له، فبقدر ما كان خيار الانتشار لأفراد شبكة القاعدة ضرورة لانقاذ ما يمكن انقاذه من فلولها فإن هذا الانتشار أوصل دول المنطقة الى قناعة بأن العنف بمثابة الاواني المستطرقة، حيث ينتقل الى أرجاء المنطقة كافة حين يكون لا مجال الا الانتقال سبيلاً للخروج من مأزق أو تحقيق منجز.



الصفحة السابقة