الطريق الوهابي الى الحرب الأهلية

يستحقّ الوهابيّون بجدارة الإشادة على أنهم قطعوا شوطاً كبيراً في الطريق باتجاه حرب أهليّة شاملة بين السنّة والشيعة في العراق، وربما تمتدّ لكل المنطقة.

بالطبع لم يكن الوهابيون مؤسسون للخلاف السني الشيعي، فهذه مسألة تاريخية بعيدة، ولكن الذي ينفخ فيها الروح اليوم هم وهابيو السعودية، فهم المهووسون بالهمّ الطائفي والقتال الطائفي حتى أفقد النخب الوهابية صوابها وأطارها من عقالها.

الروح المشبعة بالأحقاد والعنف وتوتير الوضع، وزرع الفتنة، وإرجاع كل قضية تحدث الى مؤامرة يهودية نصرانية رافضية صوفية، لا تجدها إلا عند أتباع المذهب السلفي، وبالخصوص عند أولئك القابعين في قلعة التوحيد (بريدة)!

لم نكن نأخذ كلمات ومشاريع الزرقاوي في العراق فيما يتعلق بتلك الحرب على محمل الجدّ، ولقد كنّا مخطئين فعلاً في تقدير حجم العنف السلفي الوهابي وقدرته على جرّ الساحة الشعبيّة العراقية الى الإنفلات باتجاه القتل الدموي المتبادل بين الأطراف المذهبيّة.

الألسن لا يمكنها إلاّ أن تخرس حين توجّه البنادق الى الإحتلال الأميركي. وحجّة المعارضين لمثل تلك البنادق مهما بلغت من محاكمة منطقية لا تصمد أمام شرعية مقاومة المحتلّ.

ضمن حدود مواجهة المحتلّ، والسعي لإخراجه بالدم والسلاح، ووجود رأي آخر مقابله يؤمن ببناء الدولة المحطّمة كوسيلة لإخراج المحتل وسحب ذرائعه، فإن المسألة تبدو بعيدة عن مشروع الحرب الأهلية.

لكن العقلية السلفية ـ الوهابية، المتسمة بالحرفية، والمثقلة بإرث الصراع المذهبي، كانت تنظر الى الأمور ولاتزال كفسطاطين: فسطاط الحق، وهم المقاومون والقادمون من وراء الحدود، وفسطاط الباطل الذي دخل في مشروع بناء الدولة.

وبين مجازر القتل على الهوية وفسطاطي (بن لادن) ضاع العراق، وسالت الدماء.

البداية كانت تقول بمقاطعة العملية السياسية والتنديد بها. وهذا لا يضير كثيراً.

ثم صار من يسمونهم (المتعاونين مع الإحتلال) هدفاً للقتل، وشمل ذلك كل السياسيين وكل الصحافيين وكل المنتمين للأحزاب المشاركة وقياداتها، وعدد غير قليل من الرموز الدينية.. من الذين لا يعترضون على العمل العسكري الموجه ضد الأميركان المحتلين ولكنهم يؤمنون بالعمل السياسي وإعادة مشروع بناء الدولة العراقية.

وتطور الأمر بصورة أسرع، فصار رجال الشرطة، ورجال المرور، وأساتذة الجامعات، بل وطلاب الجامعات هدفاً للعنف (المقاوم!).

الفاصلة بين هذه التحولات كانت قليلة من الناحية الزمنية، إذ سرعان ما صار الإستهداف باتجاه المساجد والتجمعات الدينية، أي للأفراد المدنيين.

وفي ذات الوقت استهدفت منشآت الدولة المتعلقة بالخدمات: محطات تنقية المياه، ومحطات توليد الكهرباء، وأنابيب النفط للتصدير، ومحطات تعبئة الوقود، وغيرها، بغرض عجيب: إزعاج المواطن، وجعله يقف ضد الدولة ويعتبرها هي المقصرة في توفير الخدمات كما في الأمن.

والدائرة كانت تتسع يوماً فيوماً، فمن الخطف الى الإغتيالات للمدنيين والمساومة عليهم وقطع رؤوسهم ووضعها على الطرقات، ثم تهجير المختلف مذهبياً من المناطق المختلطة والمدن المختلطة، وتفجير المساجد والأسواق وأماكن العبادة الأخرى، ليصبح بعدها كلّ شيء مباحاً في العراق.

ووصلت الأمور الى الذروة، وبمشاركة (مجاهدين سعوديين إثنين) حين دمرت القبّة الذهبية في سامراء، فكانت بمثابة طعنة إضافية (للهوية الخاصة) فتفجرت النفوس، وخرج (العوام) عن طاعة قادتهم بالتزام الهدوء، وبدأت ردود الفعل لتجعل الجميع منتكساً في أقذر ما عرفه العراق من تنازع، بحيث صار الجميع يخطف ويقتل ويهجّر على الهوية.

أيّ غباء هذا الذي يحوّل المعركة من الإحتلال الى حرب أهلية؟!

أيّ غباء هذا الذي يحوّل الأكثرية المتضامنة مع مقاومة المحتل الى هدف بدلاً من المحتل نفسه.

وأي مقامرة هذه التي تخرج الناس من عقالهم ليمارسوا عملية الإيغال في الدم الحرام.

وأي سياسي (ذكي!) هذا، الذي يريد تحرير العراق عبر الإقتتال الداخلي.

المسألة في تحليلها تبدو أكثر تبسيطاً.

فإرث صدام حسين القمعي ضد فئات وقوميات بعينها أبقى مرارة في النفوس. لكن مع سقوطه، بدا أن البعثيين يميلون باتجاه العمل من أجل العودة الى الحكم في العراق مرة أخرى بأي وسيلة كانت. وقد تضامنت العقلية الصدامية المقامرة، مع عقلية السلفيين ـ السعوديين خاصة ـ الذين بدأوا بالتوافد على العراق المأزومة طائفياً، العقلية السلفية الحادّة المتشنّجة والموتورة، لتنتج في النهاية عنفاً لم يشهده العراق منذ نشأ على الخارطة.

السلفيون السعوديون تحت قيادة الزرقاوي أعادوا رسم الخارطة السياسية للمقاومة العراقية، وتحكموا بمفاصلها، وبادروا بالعنف الأعمى بحجة محاربة الشرك، وقتل المشركين. لقد وضعوا نظرية (الفسطاطين) أمام أعينهم، فلم يروا في تراثهم المكتوب وفتاوى علماء الوهابية إلا جواز قتل المشركين، ومنعهم من ممارسة الشرك، وتفجير المساجد والحسينيات والكنائس حتى. وأحياناً يتم التذرع بملهاة فقهية (التترس)!

الوهابيون القادمون من الخارج كانت لديهم رؤية واضحة: من لا يؤمن برأيهم (السياسي) عميل للمحتل يجوز قتله. ومن لا يؤمن برأيهم (الديني) كافر حلال الدم. ومع هذا يبقى هناك أناس غير متدينيين وغير سياسيين أو غير مهتمين بالسياسة، وهم كثرة، فأين موقعهم؟ موقعهم القتل على الهوية. وفي الأصل فإن المفخخات والتفجيرات في الأماكن العامة لا يمكن إلا أن تعني لدى القائمين عليها بأن المقتولين سيرسلون الى جهنم أنّى كانوا: أطفالاً او نساءً أو عجزة.. وإن كان قتل بعضهم خطأ، فذريعة التترس جاهزة، والله سيسامح الوهابيين على فعلهم، وسيرسل الأبرياء الضحايا الى الجنّة!

السؤال الذي يشغل النخب السعودية جمعاء هو: إذا كان الوهابيون المتطرفون قادرين على إشعال حرب أهلية في العراق، فهل يضعفون عن إشعالها في السعودية نفسها؟!

هنا المسألة مختلفة: المشركون في جزيرة العرب! هم تحت ولاية مسلمة، على الأقل حتى الآن عند الأكثرية منهم، وبالتالي لا يجوز قتلهم عند رأي الأكثرية الوهابية من العلماء. ولكن يجب ـ كما يحكي تاريخ السعودية الحديث ـ أسلمتهم، أو طردهم من البلاد (كما طالب العلماء عام 1926، وكما طالب جهيمان عام 1979) وإلا فـ (وضع حدّ لتكاثرهم) وسجن علمائهم، وطردهم من أعمالهم، والتضييق عليهم بكل السبل (كما يقترح الفيلسوف الشيخ ناصر العمر في مذكرته الشهيرة المنشورة عام 1992)!

لو تغيّر الوضع قليلاً، فالعنف ضد المخالف يصبح مشروعاً، وقتله مبرراً. وهناك من بين المسؤولين من يعتقد أنه إذا ما طالب الحجازيون بدولة (فإنه يمكننا إرسال مقاتلين من القبائل لإفنائهم) كما قال مسؤول كبير في الدولة. أما الآن، فالحرب الأهلية ممنوعة، بقرار سياسي، وبقرار علماء الوهابية الكبار، الذين يدركون أن فتح الحرب ستؤدي الى تقسيم الدولة واستدعاء التدخل الخارجي.

ولكن يمكن القيام بأقل من الحرب، وهو إبقاء آلة التحريض فاعلة ضد (الصوفيين والروافض والإسماعيليين والزيود) وغيرهم، عبر تكفيرهم والتشنيع بهم وحرمانهم من حقوقهم الأولية، والإستهزاء بهم، وكل ما يمكن أن يفعل (دون الحرب الأهلية)! فإذا ما بدا ان (الولاية السياسية) في طريقها الى التغير والإنزياح عن الوهابيين، تصبح المناطق الكافرة مستباحة الدم والعرض والمال، كما استباحوها من قبل في الجنوب والغرب وحتى الشرق، إبان قيام الدولة السعودية الحديثة. وكما يستبيحون اليوم الدماء في أكثر من بلد (هاجروا!) للجهاد فيه، كان آخرها تفجيرات مومباي!

الفكر الوهابي يتضمن أحمالاً من المتفجرات تكفي لتفجير المجتمع السعودي من جذوره. وطريقة التفجير هي نفس الطريقة التي تمّت في العراق: تكفير وقتل.

لا شك أن شبح الحرب الأهلية القائم فعلاً في العراق يلقي بظلاله على الكثير من المواطنين. وقد نشرت العديد من التقارير الصحافية بهذا الشأن. وقد ظهر خلال السنوات الثلاث الماضية بأن الشارع الوهابي ـ المحلي السعودي ـ غير منضبط، وقد قام بأعمال عديدة: محاولات اغتيال على قاعدة طائفية وكذلك الخطف على ذات القاعدة، مهاجمة مقابر والعبث بها، وحرق مساجد، وتدمير آثار، والإفتاء بقتل المخالفين.

الفتنة الطائفية في المملكة لم تكن في يوم ما نائمة، بل كانت مستيقظة دائماً بفضل (دعاة التوحيد!)، وبفضل الغطاء السياسي من العائلة المالكة.. وها نحن نقترب من الخطر أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، والسياسي ـ وإن كان لا يريد ولا يتمنّى وقوع صراع دموي على أسس طائفية، لكنه في المقابل قد فعل وسمح باستخدام كافة الأسلحة الفكرية والمادية الأخرى التي تمهد لذلك الإقتتال. ويكفي أن ندرك مدى الشحن الطائفي لعقود طويلة، وفي الحقيقة منذ أن نشأت الدولة وقبلها، وتأثيره في نفوس المعتدين قبل الضحايا. ان الأسلحة الفكرية والشرعية ـ الوهابية تفسح المجال لظهور بوادر دموية ليس ضد الأميركيين والأجانب فحسب، بل وضد المواطنين أنفسهم. وهناك على النت تهديدات بالقتل من قبل الوهابيين لكل شرائح المجتمع غير السلفية، ولشخصيات فكرية ودينية وثقافية وأدبية وحتى وزراء (غازي القصيبي).

المملكة بحاجة الى مناخ ثقافي جديد، بحاجة الى رؤية خلاّقة، تمنع وقوع التأزم على المدى البعيد.. وليس الى ضمّادات، أو سيارات إسعاف تسكن الألم وتنقل الضحايا. المشكلة أن الأمراء الكبار شاخوا وشاخت أفكارهم، وهم لا يمتلكون رؤى للمستقبل، ويتحركون في نطاق ضيق من الأفعال وردود الأفعال، ويستخدمون المسكّنات بدل إجراء العملية لاجتثاث المرض.

الصفحة السابقة